التفاسير

< >
عرض

كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ
٢٦
وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ
٢٧
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٢٨
يَسْأَلُهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ
٢٩
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٣٠
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ ٱلثَّقَلاَنِ
٣١
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٣٢
يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ فَٱنفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ
٣٣
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٣٤
يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ
٣٥
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٣٦
-الرحمن

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والضمير فى { عَلَيْهَا } يعود إلى الأرض بقرينة المقام، والمراد بمن عليها: كل من يعيش فوقها، ويدخل فيهم دخولا أوليا بنو آدم، لأنهم هم المقصودون بالخطاب، ولذا جىء بمن الموصولة الخاصة بالعقلاء.
أى: كل من على الأرض من إنسان وحيوان وغيرهما سائر إلى الزوال والفناء { وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ } وذاته بقاء لا تغير معه ولا زوال، فهو - سبحانه - { ذُو ٱلْجَلاَلِ } أى: ذو العظمة والاستغناء المطلق { وَٱلإِكْرَامِ } أى: والفضل التام، والإِحسان الكامل..
وقال - سبحانه -: { وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ } ولم يقل ويبقى وجه ربكما. كما فى قوله: { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا... }.
لأن الخطاب للنبى - صلى الله عليه وسلم - على سبيل التكريم والتشريف، ويدخل تحته كل من يتأتى له الخطاب على سبيل التبع.
قال القرطبى: لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة هلك أهل الأرض، فنزلت
{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } فأيقنت الملائكة بالهلاك.
وقوله: { وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ } أى: ويبقى الله، فالوجه عبارة عن وجوده وذاته، قال الشاعر:

قضى على خلقه المنايافكل شىء سواه زائل

وهذا الذى ارتضاه المحققون من علمائنا...
وقوله - تعالى -: { يَسْأَلُهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } بيان لغناه المطلق عن غيره، واحتياج غيره إليه.
والمراد باليوم هنا: مطلق الوقت مهما قل زمنه، والشأن: الأمر العظيم، والحدث الهام..
أى: أنه - سبحانه - يسأله من فى السماوات والأرض، سؤال المحتاج إلى رزقه، وفضله، وستره، وعافيته.. وهو - عز وجل - فى كل وقت من الأوقات، وفى كل لحظة من اللحظات، فى شأن عظيم. وأمر جليل، حيث يحدث ما يحدث من أحوال فى هذا الكون، فيحيى ويميت، ويعز ويذل، ويغنى ويفقر، ويشفى ويمرض.. دون أن يشغله شأن عن شأن..
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله: { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } أى: كل وقت من الأوقات، هو فى شأن من الشئون، التى من جملتها إعطاء ما سألوا. فإنه - تعالى - لا يزال ينشىء أشخاصا، ويفنى آخرين، ويأتى بأحوال، ويذهب بأحوال، حسبما تقتضيه إرادته المبنية على الحكم البالغة..
أخرج البخارى فى تاريخه، وابن ماجه، وجماعة عن ابى الدرداء، عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال فى هذه الآية:
"من شأنه: أن يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع قوما، و يخفض آخرين" .
وسأل بعضهم أحد الحكماء، عن كيفية الجمع بين هذه الآية، وبين ما صح من أن القلم قد جف بما هو كائن إلى يوم القيامة، فقال: "شئون يبديها لا شئون يبتديها"..
وانتصب "كل يوم" على الظرفية، والعامل فيه هو العامل فى قوله - تعالى -: { فِي شَأْنٍ } وهو ثابت المحذوف، فكأنه قيل: هو ثابت فى شأن كل يوم...
ثم هدد - سبحانه - الذين يخالفون عن أمره تحذيرا شديدا، فقال: { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ ٱلثَّقَلاَنِ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
وجىء بحرف التنفيس الدال على القرب وهو السين للإِشعار بتحقق ما أخبر به - سبحانه -.
وقوله: { نَفْرُغُ } من الفراغ، وهو الخلو عما يشغل..
والمراد به هنا: القصد إلى الشىء والإِقبال عليه، يقال: فلان فرغ لفلان وإليه، إذا قصد إليه لأمر ما.
والثقلان: تثنية ثقل - بفتحتين -، وأصله كل شىء له وزن وثقل، والمراد بهما هنا: الإِنس والجن.
والمعنى: سنقصد يوم القيامة إلى محاسبتكم على أعمالكم، وسنجازيكم عليها بما تستحقون، وسيكون هذا شأننا - أيها الثقلان - فى هذا اليوم العظيم.
قال صاحب الكشاف: قوله: { سَنَفْرُغُ لَكُمْ } مستعار من قول الرجل لمن يتهدده، سأفرغ لك، يريد سأتجرد للإِيقاع بك من كل ما يشغلنى عنك، حتى لا يكون لى شغل سواه، والمراد: التوفر على النكاية فيه، والانتقام منه.
ويجوز أن يراد ستنتهى الدنيا وتبلغ آخرها، وتنتهى عند ذلك شئون الخلق التى أرادها بقوله - تعالى -: { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ }، فلا يبقى إلا شأن واحد، وهو جزاؤكم، فجعل ذلك فراغا لهم على طريق المثل...
وقوله - سبحانه -: { يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ فَٱنفُذُواْ... } مقول لقول محذوف، دل عليه ما قبله.
والمعشر - برنة مفعل - اسم للجمع الكثير الذى يعد عشرة فعشرة.
وقوله: { تَنفُذُواْ } من النفاذ بمعنى الخروج من الشىء، والأمر منه وهو قوله: { فَٱنفُذُواْ } مستعمل فى التعجيز. والأقطار: جمع قطر - بضم القاف وسكون الطاء - وهو الناحية الواسعة..
والمعنى: سنقصد إلى محاسبتكم ومجازاتكم على أعمالكم يوم القيامة، وسنقول لكم على سبيل التعجيز والتحدى. يا معشر الجن والإِنس، إن استطعتم أن تنفذوا وتخرجوا من جوانب السماوات والأرض ومن نواحيهما المتعددة. فانفذوا واخرجوا، و خلصوا أنفسكم من المحاسبة والمجازاة..
وجملة: { لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } بيان للتعجيز المتمثل فى قوله - تعالى -: { فَٱنفُذُواْ }، والسلطان المراد به هنا: القدرة والقوة.
أى: لا تنفذون من هذا الموقف العصيب الذى أنتم فيه إلا بقدرة عظيمة، وقوة خارقة، تزيد على قوة خالقكم الذى جعلكم فى هذا الموقف، وأنى لكم هذه القوة التى أنتم أبعد ما تكونون عنها؟.
فالمقصود بالآية الكريمة، تحذير الفاسقين والكافرين، من التمادى فى فسقهم وكفرهم، وبيان أنهم سيكونون فى قبضة الله - تعالى - وتحت سلطانه، وأنهم لن يستطيعوا الهروب من قبضته وقضائه فيهم بحكمه العادل.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ فَإِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ يَقُولُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ كَلاَّ لاَ وَزَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمُسْتَقَرُّ } وقوله - سبحانه -: { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ } استئناف فى جواب سؤال مقدر عما سيصيبهم إذا ما حاولوا الفرار.
والشواظ: اللهب الذى لا يخالطه دخان، لأنه قد تم اشتعاله فصار أشد إحراقا.
والنحاس: المراد به هنا الدخان الذى لا لهب فيه، ويصح أن يراد به: الحديد المذاب. أى: أنتم لا تستطيعون الهرب من قبضتنا بأى حال من الأحوال، وإذا حاولتم ذلك، أرسلنا عليكم وصببنا على رءوسكم لهبا خالصا فأحرقكم، ودخانا لا لهب معه فكتم أنفاسكم، وفى هذه الحالة لا تنتصران، ولا تبلغان ما تبغيانه، ولا تجدان من يدفع عنكم عذابنا وبأسنا.
هذا والمتأمل فى تلك الآيات الكريمة. يراها قد صورت بأسلوب بديع تفرد الله - تعالى - بالملك والبقاء، وافتقار الخلائق جميعا إلى عطائه، وأنهم جميعا فى قبضته، ولن يستطيعوا الهروب من حكمه فيهم.
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك جانبا من أهوال يوم القيامة، ومن العذاب الذى يحيط بالمجرمين، وينزل بهم، فقال - تعالى -: { فَإِذَا ٱنشَقَّتِ... }.