الوسيط في تفسير القرآن الكريم
قال الآلوسى: قوله - تعالى -: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ... } شروع فى تعديد الآلاء التى تفاض فى الآخرة على المتقين، بعد بيان سوء عاقبة المكذبين.
و { مَقَامَ } مصدر ميمى بمعنى القيام مضاف إلى الفاعل. أى: ولمن خاف قيام ربه عليه وكونه مراقبا له، ومهيمنا عليه فالقيام هنا مثله فى قوله - تعالى -: { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ... } أو هو اسم مكان. والمراد به مكان وقوف الخلق فى يوم القيامة للحساب.. إذ الخلق جميعا قائمون له - تعالى - كما فى قوله - سبحانه -: { يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } والمعنى: ولكل من خاف القيام بين يدى ربه للحساب، وخشى هيمنته - سبحانه - عليه، ومجازاته له... لكل من خاف ذلك وقدم فى دنياه العمل الصالح، { جَنَّتَانِ } يتنقل بينهما، ليزداد سروره، وحبوره.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم قال: { جَنَّتَانِ }؟ قلت الخطاب للثقلين، فكأنه قيل لكل حائفين منكما جنتان. جنة للخائف الإِنسى، وجنة للخائف الجنى.
ويجوز أن يقال: جنة لفعل الطاعات، وجنة لترك المعاصى، لأن التكليف دائر عليهما، وأن يقال: جنة يثاب بها وأخرى تضم إليها على وجه التفضل، كقوله - تعالى -: { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ } وقوله: { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } صفة للجنتين. والأفنان جمع فنن - بفتحتين - وهو الغصن.
أى: جنتان صاحبتا أغصان عظيمة. تمتاز بالجمال واللين والنضرة.
ثم وصفهما - سبحانه - بصفات أخرى كريمة فقال: { فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } أى: فى كل جنة منهما عين تجرى بالماء العذب الفرات..
{ فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } أى: وفيهما كذلك من كل نوع من أنواع الفاكهة صنفان، ليتفكه المتقون ويتلذذوا بتلك الفواكه الكثيرة، التى لا هى مقطوعة، ولا هى ممنوعة.
ثم بين - سبحانه - حسن مجلسهم فقال: { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى ٱلْجَنَّتَيْنِ دَانٍ }.
والجملة الكريمة حال من قوله - تعالى -: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ.. }.
وعبر - سبحانه - بالاتكاء لأنه من صفات المتنعمين الذين يعيشون عيشة راضية، لاهم معها ولا حزن.
والفرش: جمع فراش - ككتب وكتاب - وهو ما يبسط على الأرض للنوم أو الاضطجاع.
والبطائن: جمع بطانة، وهى ما قابل الظهارة من الثياب، ومشتقة من البطن المقابلة للظهر، ومن أقوالهم: أفرشنى فلان ظهره وبطنه، أى: أطلعنى على سره وعلانيته.
والاستبرق: الديباج المصنوع من الحرير السميك، وهو من أجود أنواع الثياب.
والمعنى: أن هؤلاء الذين خافوا مقام ربهم ونهوا أنفسهم عن الهوى، يعيشون فى الجنات حالة كونهم، متكئين فى جلستهم على فرش بطائنها من الديباج السميك. { وَجَنَى ٱلْجَنَّتَيْنِ دَانٍ } أى: وما يجنى ويؤخذ من الجنتين قريب التناول، دانى القطاف.
فالمراد بقوله تعالى: { وَجَنَى ٱلْجَنَّتَيْنِ } ما يجتنى من ثمارهما { دَانٍ } من الدنو بمعنى القرب.
أى: أنهم لا يتعبون أنفسهم فى الحصول على تلك الفواكه، وإنما يقطفون ما يشاءون منها، وهم متكئون على فراشهم الوثير.
ثم بين - سبحانه - ألوانا أخرى من نعيمهم فقال: { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كَأَنَّهُنَّ ٱلْيَاقُوتُ وَٱلْمَرْجَانُ }.
وقوله - سبحانه -: { قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ } صفة لموصوف محذوف. والطمث: كناية عن افتضاض البكارة. يقال: طمث الرجل امرأته - من باب ضرب وقتل -، إذا أزال بكارتها. وأصل الطمث: الجماع المؤدى إلى خروج دم الفتاة البكر، ثم أطلق على كل جماع وإن لم يكن معه دم.
أى: فى هاتين الجنتين اللتين أعدهما - سبحانه - لمن خاف مقامه.. نساء قاصرات عيونهن على أزواجهن، ولا يلتفتن إلى غيرهم. وهؤلاء النساء من صفاتهن - أيضا - أنهن أبكار، لم يلمسهن ولم يزل بكارتهن أحد قبل هؤلاء الأزواج.. وكأن هؤلاء النساء فى صفائهن وجمالهن وحمرة خدودهن.. الياقوت والمرجان.
ثم ختم - سبحانه - هذه النعم بقوله: { هَلْ جَزَآءُ ٱلإِحْسَانِ إِلاَّ ٱلإِحْسَانُ } والاستفهام لنفى أن يكون هناك مقابل لعمل الخير، سوى الجزاء الحسن، فالمراد بالإِحسان الأول، القول الطيب، والفعل الحسن، والمراد بالإِحسان الثانى، الجزاء الجميل الكريم على فعل الخير.
أى: ما جزاء من آمن وعمل صالحا، وخاف مقام ربه، ونهى نفسه عن الهوى.. إلا أن يجازى الجزاء الحسن، ويقدم له العطاء الذى يشرح صدره وتقر به عينه.
وقد عقب - سبحانه - بعد كل آية من تلك الآيات السابقة بقوله: { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } لأن كل آية قد اشتملت على نعمة أو نعم عظيمة من شأن العاقل أن يشكر الله - تعالى - عليها شكرا جزيلا.
ثم واصلت السورة حتى نهايتها، حديثها عن النعم التى منحها - سبحانه - لمن خاف مقام ربه، فقال - تعالى -: { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ... }.