التفاسير

< >
عرض

وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ
٦٢
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٦٣
مُدْهَآمَّتَانِ
٦٤
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٦٥
فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ
٦٦
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٦٧
فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ
٦٨
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٦٩
فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ
٧٠
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٧١
حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي ٱلْخِيَامِ
٧٢
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٧٣
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ
٧٤
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٧٥
مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ
٧٦
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٧٧
تَبَارَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ ذِي ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ
٧٨
-الرحمن

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - سبحانه -: { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } معطوف على قوله - تعالى - قبل ذلك: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } ولفظ دون هنا يحتمل أنه بمعنى غير، أى: ولمن خاف مقام ربه جنتان، وله - أيضا - جنتان أخريان غيرهما، فهو من باب قوله - سبحانه - { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ } قالوا: ويشهد لهذا الاحتمال. أن الله - تعالى - قد وصفت هاتين الجنتين بما يقارب وصفه للجنتين السابقتين، وأن تكرير هذه الأوصاف من باب الحض على العمل الصالح الذى يوصل الى الظفر بتلك الجنات، وما اشتملت عليه من خيرات.
ويحتمل أن لفظ { دُونِ } هنا: بمعنى أقل، أى: وأقل من تلك الجنتين فى المنزلة والقدر، جنتان أخريان..
وعلى هذا المعنى سار جمهور المفسرين، ومن المفسرين الذين ساروا على هذا الرأى الإِمام ابن كثير، فقد قال -رحمه الله - هاتان الجنتان دون اللتين قبلهما فى المرتبة والفضيلة والمنزلة، بنص القرآن، فقد قال - تعالى -: { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ }..
فالأوليان للمقربين، والأخريان: لأصحاب اليمين..
والدليل على شرف الأولين على الأخرين وجوه:
أحدها: أنه نعت الأوليين قبل هاتين، والتقديم يدل على الاعتناء، ثم قال: { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } وهذا ظاهر فى شرف المتقدم، وعلوه على الثانى.
وقال هناك
{ ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } وهى الأغصان، أو الفنون فى الملاذ: وقال ها هنا { مُدْهَآمَّتَانِ } أى: سوداوان من شدة الرى من الماء...
وقال الإِمام القرطبى: فإن قيل: كيف لم يذكر أهل هاتين الجنتين، كما ذكر أهل الجنتين الأوليين؟.
قيل: الجنان الأربع لمن خاف مقام ربه. إلا أن الخائفين مراتب، فالجنتان الأوليان لأعلى العباد منزلة فى الخوف من الله - تعالى -، والجنتان الأخريان لمن قصرت حاله فى الخوف من الله - تعالى -.
وقال الآلوسى: قوله - تعالى -: { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } مبتدأ وخبر أى: ومن دون تينك الجنتين فى المنزلة والقدر جنتان أخريان والأكثرون على أن الأوليين للسابقين، وهاتين لأصحاب اليمين..
وقوله: { مُدْهَآمَّتَانِ } صفة للجنتين.. أى: هما شديدتا الخضرة، والخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد من كثرة الرى...
ثم فصل - سبحانه - أوصاف هاتين الجنتين فقال: { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } أى: فوارتان بالماء الذى لا ينقطع منهما من النضخ وهو فوران الماء من العيون مع حسنه وجماله.
{ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } وعطف - سبحانه - النخل والرمان على الفاكهة مع أنهما منهما، لفضلهما، فكأنهما لما لهما من المزية جنسان آخران.
أو - كما يقول صاحب الكشاف -: لأن النخل ثمره فاكهة وطعام، والرمان فاكهة ودواء، فلم يخلصا للتفكه، ولذا قال أبو حنيفة -رحمه الله - إذا حلف لا يأكل فاكهة، فأكل رمانا أو رطبا لم يحنث....
والضمير فى قوله - تعالى -: { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } يعود إلى الجنات الأربع: الجنتين المذكورتين فى قوله - تعالى -:
{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } والجنتين المذكورتين هنا فى قوله - سبحانه -: { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ }.
ولفظ { خَيْرَاتٌ } صفة لموصوف محذوف. أى: نساء خيرات حسان.
أى: فى هذه الجنات نساء فاضلات الأخلاق، حسان الخلق والخلق.
قال الجمل: قوله: { خَيْرَاتٌ } فيه وجهان: أحدهما: أنه جمع خَيرة بزنة فعلة بسكون العين - يقال: امرأة خيرة، وأخرى شرة، والثانى. أنه جمع خيرة المخفف من خيرة بالتشديد، ويدل على ذلك قراءة خيرات - بتشديد الياء...
وقوله { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي ٱلْخِيَامِ } بدل من خيرات. والحور: جمع حوراء، وهى المرأة ذات الحور، أى: ذات العين التى اشتد بياضها واشتد سوادها فى جمال وحسن..
ومقصورات: جمع مقصورة أى: محتجبة فى بيتها، قد قصرت نفسها على زوجها.. فهى لا تجرى فى الطرقات.. بل هى ملازمة لبيتها، وتلك صفة النساء الفضليات اللاتى يزورهن من يريدهن، أما هن فكما قال الشاعر:

ويكرمها جاراتها فيزرنهاوتعتل عن إتيانهن فَتُعذر

أى: فى تلك الجنات نساء خيرات فضليات جميلات مخدرات. ملازمات لبيوتهن، لا يتطلعن إلى غير رجالهن..
هؤلاء النساء { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ } أى: لم يلمسهن ويباشرهن { إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ }.
أى: لم يجامعهن أحد لا من الإِنس ولا من الجن قبل الرجال الذين خصصهن الله - تعالى - لهم..
وقوله: { مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ... } حال من قوله - تعالى -:
{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ... } والرفرف: مأخوذ من الرَّف بمعنى الارتفاع، وهو اسم جمع واحده رفرفة، أو اسم جنس جمعى و { خُضْرٍ } صفة له..
والعبقرى: وصف لكل ما كان ممتازا فى جنسه. نادر الوجود فى صفاته والمراد به هنا الثوب الموشى بالذهب، والبالغ النهاية فى الجودة والجمال..
قال القرطبى: العبقرى: ثياب منقوشة تبسط.. قال القتيبى: كل ثوب وشى عند العرب فهو عبقرى. وقال أبو عبيد: هو منسوب إلى أرض يعمل فيها الوشى..
ويقال: عبقر قرية باليمن تنسج فيها بسط منقوشة. وقال ابن الأنبارى: إن الأصل فيه أن عبقر قرية يسكنها الجن ينسب إليها كل فائق جليل، ومنه قول النبى - صلى الله عليه وسلم -: فى عمر ابن الخطاب: فلم ار عبقريا يفرى فريه...
أى: هؤلاء الذين خافوا مقام ربهم، قد أسكناهم بفضلنا الجنات العاليات حالة كونهم فيها على الفرش الجميلة المرتفعة. وعلى الأبسطة التى بلغت الغاية فى حسنها وجودتها ودقة وشيها..
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بقوله: { تَبَارَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ ذِي ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ }.
أى: جل شأن الله - تعالى -، وارتفع اسمه الجليل عما لا يليق بشأنه العظيم، فهو - عز وجل - صاحب الجلال. أى: العظمة والاستغناء المطلق، والإِكرام. أى: الفضل التام، والإِحسان الذى لا يقاربه إحسان.
وبعد: فهذا تفسير لسورة "الرحمن" نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه ونافعا لعباده.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..