التفاسير

< >
عرض

وَأَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ
٢٧
فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ
٢٨
وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ
٢٩
وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ
٣٠
وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ
٣١
وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ
٣٢
لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ
٣٣
وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ
٣٤
إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً
٣٥
فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً
٣٦
عُرُباً أَتْرَاباً
٣٧
لأَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ
٣٨
ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ
٣٩
وَثُلَّةٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ
٤٠
-الواقعة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الآلوسى: قوله - تعالى - { وَأَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ ... } شروع فى بيان تفاصيل شئونهم، بعد بيان شئون السابقين.
وأصحاب: مبتدأ وقوله: { مَآ أَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ } جملة استفهامية مشعرة بتفخيمهم، والتعجب من حالهم، وهى خبر المبتدأ.. أو معترضة، والخبر قوله: { فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ... }.
والسدر: شجر النبق، واحده سدرة، ومخضود. أى: منزوع الشوك، يقال: خضد فلان الشجر، إذا قطع الشوك الذى به فهو خضيد ومخضود، أو مخضود بمعنى ملىء بالثمر حتى تثنت أغصانه، من خضدت الغصن، إذا ثنيته وأملته إلى جهة أخرى.
أى: وأصحاب اليمين، المقول فيهم ما أصحاب اليمين على سبل التفخيم، مستقرون يوم القيامة فى حدائق مليئة بالشجر الذى خلا من الشوك وامتلأ بالثمار الطيبة، التى تثنت أغصانها لكثرتها..
قال القرطبى: وذكر ابن المبارك قال: حدثنا صفوان عن سليم بن عامر قال:
"كان أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - يقولون: إنه لينفعنا الأعراب ومسائلهم. قال: أقبل أعرابى يوما فقال: يا رسول الله، لقد ذكر الله فى القرآن: شجرة مؤذية، وماكنت أرى فى الجنة شجرة تؤذى صاحبها؟
فقال - صلى الله عليه وسلم -: وما هى؟ قال: السدر، فإن له شوكا مؤذيا، فقال: - صلى الله عليه وسلم -: ألم يقل الله - تعالى - { فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ }؟ خضد الله - تعالى - شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة"
.
وقوله - تعالى -: { وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ } بيان لنعمة ثانية. والطلح: قالوا هو شجر الموز. واحدة طلحة، والمنضود: المتراكب بعضه فوق بعض، بحيث صار ثمره متراصا على هيئة جميلة تسر الناظرين.
فقوله { مَّنضُودٍ } اسم مفعول من النضد وهو الرص. يقال؛ نضد فلان متاعه، - من باب ضرب - إذا وضع بعضه فوق بعض بطريقة منسقة جميلة، ومنه قوله - تعالى -:
{ وَٱلنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ } وقوله - سبحانه -: { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } أى: متسع منبسط، بحيث لا يزول كما يزول الظل فى الدنيا، ويحل محله ضوء الشمس.
أخرج الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة - رضى الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إن فى الجنة شجرة يسير الراكب فى ظلها عاما - وفى رواية مائة عام - اقرءوا إن شئتم { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ }" .
وقوله - سبحانه - { وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ } أى: وفيها ماء كثير مصبوب يجرى على الأرض، ويأخذون منه ما شاءوا، بدون جهد أو تعب.
يقال: سكب فلان الماء سكبا، إذا صبه بقوة وكثرة.
وقوله - تعالى -: { وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } أى: وهم بجانب كل ذلك يتلذذون فى الجنة بفاكهة كثيرة، هذه الفاكهة ليست مقطوعة عنهم فى وقت من الأوقات، ولا تمتنع عن طالبها متى طلبها.
وجمع - سبحانه - بين انتفاء قطعها ومنعها، للإِشعار بأن فاكهة الجنة ليست كفاكهة الدنيا فهى تارة تكون مقطوعة، لأنها لها أوقاتا معينة تظهر فيها، وتارة تكون موجودة ولكن يصعب الحصول عليها، لامتناع أصحابها عن إعطائها.
وقوله - تعالى -: { وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ } أى: وفيها - أيضا - فرش منضدة، قد ارتفعت عن الأرض، ليتكىء عليها أهل الجنة وأزواجهم.
والضمير فى قوله - تعالى -: { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً... } عائد إلى غير مذكور، إلا أنه يفهم من سياق الكلام. لأن الحديث عن الفرش المرفوعة يشير إلى من يجلس عليها، وهم الرجال ونساؤهم، أى: نساؤهم من أهل الدنيا أو الحور العين، ويرى بعضهم أنه يعود إلى مذكور، لأن المراد بالفرش النساء، والعرب تسمى المرأة لباسا، وإزارا، وفراشا.
والإِنشاء: الخلق والإِيجاد. فيشمل إعادة ما كان موجودا ثم عدم، كما يشمل الإِيجاد على سبيل الابتداء.
أى: إنا أنشأنا هؤلاء النساء المطهرات من كل رجس حسى أو معنوى، إنشاء جميلا، يشرح الصدور.
{ فَجَعَلْنَاهُنَّ } بقدرتنا { أَبْكَاراً } أى: فصيرناهن أبكارا ليكون ذلك أكثر تلذذا بهن.
قال الآلوسى: وفى الحديث الذى أخرجه الطبرانى عن أبى سعيد مرفوعا إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم، عدن أبكارا.
وقوله: { عُرُباً أَتْرَاباً } صفة أخرى من صفات هؤلاء النساء الفضليات الجميلات.
وقوله: { عُرُباً } جمع عروب - كرسل ورسول - من أعرب فلان فى قوله إذا نطق بفصاحة وحسن بيان.
وأترابا: جمع ترب - بكسر التاء وسكون الراء - وترب الإِنسان هو ما كان مساويا له فى السن.
أى: إنا أنشأنا هؤلاء النساء على تلك الصورة الجميلة، فجعلناهن أبكارا كما جعلناهن - أيضا - محببات إلى أزواجهن، ومستويات فى سن واحدة.
روى الترمذى عن الحسن قال:
"أتت عجوز فقالت يا رسول الله ادع الله - تعالى - أن يدخلنى الجنة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز، فولت تبكى.
فقال - صلى الله عليه وسلم - أخبروها أنها لا تدخلها وهى عجوز، إن الله - تعالى - يقول: { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً... }"
.
واللام فى قوله: { لاًّصْحَابِ ٱلْيَمِينِ } متعلقة بأنشأناهن، أو جعلناهن.
أى: أنشأناهن كذلك، ليكن فى صحبة أصحاب اليمين، على سبيل التكريم لهم..
وقوله: { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } خبر لمبتدأ محذوف. أى: أصحاب اليمين جماعة كبيرة منهم من الأمم الماضية، وجماعة كبيرة أخرى من هذه الأمة الإِسلامية.
وبذلك نرى أن الله - تعالى - قد ذرك لنا ألوانا من النعم التى أنعم بها على أصحاب اليمين. كما ذكر قبل ذلك ألوانا أخرى مما أنعم به على السابقين.
قال الآلوسى: ولم يقل - سبحانه - فى حق أصحاب اليمين:
{ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } كما قال - سبحانه - ذلك فى حق السابقين، رمزا إلى أن الفضل فى حقهم متمحض، كأن عملهم لقصوره عن عمل السابقين، لم يعتبر اعتباره.
ثم الظاهر أن ما ذكر من أصحاب اليمين، هو حالهم الذى ينتهون إليه فلا ينافى أن يكون منهم من يعذب لمعاص فعلها، ومات غير تائب عنها، ثم يدخل الجنة....
وبعد هذا الحديث الذى يشرح الصدور، ويقر العيون، وترتاح له الأفئدة. عن السابقين وعن أصحاب اليمين.. جاء الحديث عن أصحاب الشمال، وهم الذين استحبوا العمى على الهدى وآثروا الغى على الرشد، فقال - تعالى -: { وَأَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ... }.