التفاسير

< >
عرض

أَفَبِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ
٨١
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ
٨٢
فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ
٨٣
وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ
٨٤
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ
٨٥
فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ
٨٦
تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٨٧
فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ
٨٨
فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ
٨٩
وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ
٩٠
فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ
٩١
وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُكَذِّبِينَ ٱلضَّآلِّينَ
٩٢
فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ
٩٣
وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ
٩٤
إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ ٱلْيَقِينِ
٩٥
فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ
٩٦
-الواقعة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والاستفهام فى قوله - تعالى -: { أَفَبِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ } للإِنكار والتوبيخ. وهو داخل على مقدر.
والمراد بالحديث: القرآن الكريم، وما تضمنه من هدايات وإرشادات وتشريعات..
وقوله: { مُّدْهِنُونَ } من الإِدهان وأصله جعل الجلد ونحوه مدهونا بشىء من الدهن ليلين، ثم صار حقيقة عرفية فى الملاينة والمسايرة والمداراة ومنه قوله - تعالى -:
{ وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } والمراد به هنا: تظاهر المشركين بمهادنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به من قرآن كريم، وإبداؤهم من اللين خلاف ما يبطنون من المكر والبغضاء.
ويصح أن يكون الإِدهان هنا: بمعنى التكذيب والنفاق، إذ أن هذه المعانى - أيضا - تتولد عن المداهنة والمسايرة.
أى: أتعرضون - أيها المشركون - عن الحق الذى جاءكم به رسولنا - صلى الله عليه وسلم - فتظهرون أمامه بمظهر المداهن والمهادن، الذى يلين أمام خصمه، ولا يقابله بالشدة والحزم: مع أنه فى الوقت نفسه يضمر له أشد أنواع السوء والكراهية؟..
إذا كان هذا شأنكم، فاعلموا أن تصرفكم هذا لا يخفى علينا؟!..
وقوله - سبحانه - وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون معطوف على ما قبله من باب عطف الجملة على الجملة. والكلام على حذف مضاف.
والمعنى: أتعرضون عن هذا القرآن على سبل المداهنة والملاينة، وتجعلون شكر نعمة رزقنا لكم به. وبالمطر الذى لا حياة لكم بدونه، أنكم تكذبون بكونهما من عند الله - تعالى - فتقولون فى شأن القرآن، أساطير الأولين، وتقولون إذا ما أنزلنا المطر عليكم: مطرنا بسبب نوء كذا. أى: بسبب سقوط النجم فى جهة المغرب من الفجر.
قال الآلوسى: قوله: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } أى: وتجعلون شكركم أنكم تكذبون، تقولون أمطرنا بنوء كذا وكذا، وبنجم كذا وكذا وأكثر الروايات أن قوله - تعالى -: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ } نزل فى القائلين: مطرنا بنوء كذا.. أخرج مسلم - فى صحيحه - عن ابن عباس قال:
"مطر الناس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال - صلى الله عليه وسلم -: أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر. قالوا: هذه رحمة وضعها الله وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا فنزلت هذه الآية: { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ } حتى بلغ { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ }" .
ثم قال الإِمام الآلوسى: والآية على القول بنزولها فى قائلى ذلك: ظاهرة فى كفرهم المقابل للإِيمان، فكأنهم كانوا يقولونه عن اعتقاد أن الكواكب مؤثرة حقيقة موجدة للمطر، وهو كفر بلا ريب بخلاف قوله مع اعتقاد أنه من فضل الله - تعالى -، وأن النوء ميقات وعلامة فإنه ليس بكفر...
وقد ذكر المفسرون هنا جملة من الأحاديث فى هذا المعنى فارجع إليها إن شئت...
ثم انتقلت الآيات إلى توبيخهم على أمر آخر، وهو غفلتهم عن قدرة الله - تعالى - ووحدانيته وهم يشاهدون آثار قدرته أمام أعينهم فقال - تعالى -: { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }.
ولو فى الموضعين للتحضيض على التذكر والاعتبار، ولإِبراز عجزهم فى أوضح صورة، إذ إظهار عجزهم هو المقصود هنا بالحض..
وقوله { إِذَا بَلَغَتِ } ظرف متعلق بقوله { تَرْجِعُونَهَآ } أى: تردونها، وقد قدم عليه لتهويله، والتشويق إلى الفعل المحضوض عليه، وهو إرجاع الروح إلى صاحبها.
والضمير فى { بَلَغَتِ } يعود إلى الروح، وهى وإن كانت لم تذكر إلا أنها مفهومه من الكلام.
والحلقوم: مجرى الطعام وأل فيه للعهد الجنسى.
وجملة: { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } حال من ضمير { بَلَغَتِ }، ومفعول { تَنظُرُونَ } محذوف والتقدير: تنظرون وتبصرون صاحب الروح وهو فى تلك الحالة العصيبة.
وجملة { تَرْجِعُونَهَآ.... } جواب الشرطين فى قوله: { إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } وفى قوله: { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }.
وجملة { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ } مستأنفة لتأكيد توبيخهم على جهالاتهم وعدم اعتبارهم حتى فى أوضح المواقف التى تدل على قدرة خالقهم - عز وجل -.
والمعنى: إذ كنتم - أيها الجاحدون المكذبون - لم تعتبروا ولم تتعظوا بكل ما سقناه لكم من ترغيب وترهيب على لسان رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فهلا اعتبرتم واتعظتم وآمنتم بوحدانيتنا وقدرتنا.. حين ترون أعز وأحب إنسان إليكم، وقد بلغت روحه حلقومه، وأوشكت على أن تفارق جسده..
{ وَأَنتُمْ } أيها المحيطون بهذا المحتضر العزيزعليكم { حِينَئِذٍ } أى: حين وصل الأمر به إلى تلك الحالة التى تنذر بقرب نهايته، أنتم { تَنظُرُونَ } إلى ما يقاسيه من غمرات الموت، وتبصرون ما فيه من شدة وكرب، وتحرصون كل الحرص على انجائه مما حل به ولكن حرصكم يذهب أدراج الرياح.
{ وَنَحْنُ } فى هذه الحالة وغيرها، { أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ } أى: ونحن أقرب إليه منكم بعلمنا وبقدرتنا، حيث إنكم لا تعرفون حقيقة ما هو فيه من أهوال ولا تدركون عظيم ما فيه من كرب، ولا تقدرون على رفع شىء من قضائنا فيه وفى غيره.
وقوله: { وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ } استدراك للكلام السابق. أى: ونحن أقرب إلى هذا المحتضر منكم، ولكنكم لا تدركون ذلك لجهلكم بقدرتنا النافذة، وحكمتنا البالغة..
{ فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } أى: فهلا إن كنتم غير عاجزين عن رد قضائنا فى هذا المحتضر الحبيب إليكم، وغير مربوبين لنا، وخاضعين لسلطاننا.. يقال: دان السلطان الرعية، إذا ساسهم وأخضعهم لنفوذه.
هلا إن كنتم غير خاضعين لنا { تَرْجِعُونَهَآ } أى: ترجعون الروح إلى صاحبها { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } فى اعتقادكم بأن آلهتكم تستطيع الدفاع عنكم وفى اعتقادكم أنه لا بعث ولا حساب بعد الموت، وفى توهمكم أن هناك قوة سوى قوة الله - عز وجل - يمكنها أن تساعدكم عند الشدائد والمحن.
وهكذا نجد هذه الآيات الكريمة، تقيم أوضح الأدلة وأكثرها تأثيرا فى النفوس، على كمال قدرة الله - تعالى - وعلى نفاذ مشيئته وإرادته..
فهى تتحدى البشر جميعا أن يعيدوا الروح إلى أحب الناس إليهم، وهم واقفون من حوله وقفة الحائر المستسلم. العاجز عن فعل أى شىء من شأنه أن يدفع عن هذا المحتضر ما فيه من كرب، أو أن يؤخر انتزاع روحه من جسده، ولو لزمن قليل..
ثم تمضى السورة الكريمة بعد ذلك، فى بيان مصير هذه الروح، التى توشك أن تستدبر الحياة الفانية، وتستقبل الحياة الباقية فتقول: { فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ }.
والروح: بمعنى الراحة والأمان والاطمئنان والريحان شجر طيب الرائحة.
أى: فأما إن كان صاحب هذه النفس التى فارقت الدنيا، من المقربين إلينا السابقين بالخيرات.. فله عندنا راحة لا تقاربها راحة، وله رحمة واسعة، وله طيب رائحة عند قبض روحه، وعند نزوله فى قبره، وعند وقوفه بين أيدينا للحساب يوم الدين، وله جنات ينعم فيها بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
{ وَأَمَّآ } إن كان هذا الانسان { مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ } وهم الذين ثقلت موازين حسناتهم..
{ فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ } أى: فتقول له الملائكة عند قبض روحه وفى قبره، وفى الجنة، سلام لك يا صاحب اليمين، من أمثالك أصحاب اليمين.
قال الآلوسى: وقوله: { فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ } قيل هو على تقدير القول. أى: فيقال لذلك المتوفى منهم: سلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين.
وجوز أن يكون المعنى: فسلامة لك عما يشغل القلب من جهتهم فإنهم فى خير. أى: كن فارغ البال من جهتهم فإنهم بخير.
وذكر بعض الأجلة أن هذه الجملة، كلام يفيد عظمة حالهم، كما يقال: فلان ناهيك به، وحسبك أنه فلان، إشارة إلى أنه ممدوح فوق حد التفصيل...
{ وَأَمَّآ إِن كَانَ } هذا المتوفى { مِنَ ٱلْمُكَذِّبِينَ ٱلضَّآلِّينَ } وهم أصحاب الشمال { فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ } أى: فله نزل - أى: مكان - { مِّنْ حَمِيمٍ } أى: من ماء قد بلغ أقصى درجات الحرارة وعبر عن المكان الذى ينزل فيه بالنزل، على سبل التهكم، إذا النزل فى الأصل يطلق على ما يقدم للضيف على سبل التكريم..
وقوله: { وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } أى: وله - أيضا - إدخال فى نار جهنم التى تشوى جسده وتحرقه.
{ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ ٱلْيَقِينِ } أى: إن هذا الذى قصصناه عليك - أيها الرسول الكريم - فى هذه السورة وغيرها، لهو الحق الثابت الذى لا يحوم حوله شك أو ريب..
فقوله: { حَقُّ ٱلْيَقِينِ } من إضافة الصفة إلى الموصوف، أى: لهو اليقين الحق..
أو هو من إضافة الشىء إلى نفسه مع اختلاف اللفظين، كما فى قوله - تعالى -:
{ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } إذ الحبل هو الوريد، والقصد من مثل هذا التركيب التأكيد.
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بقوله: { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } أى: إذا كان الأمر كما ذكرنا لك - أيها الرسول الكريم - فنزه ربك العظيم فى ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، عن كل ما لا يليق به..
وبعد فهذا تفسير لسورة "الواقعة" نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده، وصلى الله على سيدنا محمد على آله وصحبه وسلم..