التفاسير

< >
عرض

ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي ٱلأَمْوَٰلِ وَٱلأَوْلَٰدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَٰهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰماً وَفِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنٌ وَمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَٰعُ ٱلْغُرُورِ
٢٠
سَابِقُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ
٢١
-الحديد

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

أى: { ٱعْلَمُوۤاْ } - أيها المؤمنون علم استجابة وامتثال لما آمركم به - { أَنَّمَا ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا } التى تعيشون فيها ما شاء الله لكم أن تعيشوا.. { لَعِبٌ } واللعب: هو قضاء الوقت فى قول أو فعل لا فائدة من روائه.
{ وَلَهْوٌ } واللهو: اسم لفعل أو قول يقصد من روائه التلذذ والتمتع، وصرف الآلام والهموم عن النفس.
{ وَزِينَةٌ } الزينة اسم لما يتزين به الإِنسان من ملبس أو مسكن أو ما يشبههما مما يفعله من أجل أن يكون فى أعين الناس مهيبا جميلا.
{ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ } أى: وتفاخر فيما بينكم بالأموال والمناصب والأحساب والأعمال.. وتكاثر فى الأموال والأولاد، والتكاثر تفاعل من الكثرة - كما أن التفاخر تفاعل من الفخر - وصيغة التفاعل جىء بها هنا، للمبالغة فى إظهار ما يتفاخرون به، وما يتكاثرون فيه، حتى لكأنه ينافس غيره فى ذلك ويريد الظهور عليه.
والحرص على التفاخر والتكاثر فى الأموال والأولاد، من طبيعة كثير من الناس، كما قال - تعالى -:
{ أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ حَتَّىٰ زُرْتُمُ ٱلْمَقَابِرَ } ثم بين - سبحانه - حال الحياة الدنيا، التى يلعب الناس فيها، ويلهون ويتفاخرون. ويتكاثرون.
فقال: { كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ }.
أى: هذه الحياة الدنيا حالها وصفتها ومثلها كمثل مطر أعجب الكفار وراقهم وسرهم، ما ترتب على هذا المطر، من نبات جميل نبت من الأرض بعد هطول الغيث عليها.
فقوله - تعالى -: { كَمَثَلِ } خبر لمبتدأ محذوف، أى: مثلها كمثل مطر.
والمراد بالكفار هنا: الجاحدون لنعم الله - تعالى - الساترون لها، وخصوا بالذكر، لأنهم أشد إعجابا وسروراً وانغماسا فى زينة الحياة الدنيا من غيرهم.
وروى عن عبد الله بن مسعود - رضى الله عنه - أن المراد بالكفار هنا: الزراع الذين يزرعون الأرض بعد نزول المطر عليها، ويبذورن فيها البذور سموا كفارا من الكفر بمعنى الستر والإِخفاء، يقال: كفر الزارع بذره أو زرعه إذا أخفاه فى الأرض، حتى لا يتعرض للتلف أو الضياع.
وقوله - سبحانه -: { ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً }.
والهيجان: الاضطراب والثوران، ومنه سميت الحرب بالهيجاء، لأن فيها يضطرب المقاتلون، ويثور بعضهم على بعض.
ويرى بعضهم أن معنى { يَهِيجُ } هنا: ييبس ويجف.
وعطف - سبحانه - جملة { يَهِيجُ } بحرف { ثُمَّ } لإِفادة التراخى الرتبى، إذ أن وصول النبات إلى درجة من الهيجان وبلوغ منتهاه، لا يتأتى إلا بعد زمن طويل من بدء زراعته.
ولم يرتض بعض المحققين هذا المعنى فقال: تفسير { يَهِيجُ } بييبس فيه تسامح، فإن حقيقته أن يتحرك إلى أقصى ما يتأتى له. أى: من الطول والغلظ.
أى: ثم يتحرك هذا النبات الذى أعجب الكفار إلى أقصى ما يتأتى له من طول وقوة، ثم يبدأ فى الضعف، فتراه - أيها الناظر إليه - نباتا مصفراً متغيراً عما كان عليه من النضرة، آخذا فى الذبول وفى التهيؤ للحصاد. ثم يكون بعد ذلك حطاما، أى: نباتا محطما مكسرا.
والمقصود بقوله - تعالى - { كَمَثَلِ غَيْثٍ.. } إلخ التقرير والتأكيد لما وصفت به الدنيا من كونها لعبا ولهوا وزينة.
وتشبيهها فى سرعة زوالها، وانقضاء نعيمها، وقلة فائدتها.. بحال نبات ظهر على الأرض بعد هطول المطر عليها، واستمر فى ظهوره وجماله ونضرته وهيجانه، لفترة مَّا من الحياة، أعجب خلالها الكفار به، ثم حل بهذا النبات اليانع الاصفرار والاضمحلال حتى صار حطاما مفتتا تذروه الرياح.
والمقصود بهذا التشبيه، زجر الناس عن الركون إلى الحياة الدنيا ركونا ينسون معه فرائض الله - تعالى - وتكاليفه التى كلفهم بها - سبحانه -.
وعطف - سبحانه -: { فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً } بالفاء للإِشعار بقصر المسافة، مهما طالت فى عرف الناس - بين نضرة الزرع واستوائه، وبين اصفراره ونهايته.
قال صاحب الكشاف -رحمه الله -: أراد - سبحانه - أن الدنيا ليست إلا محقرات من الأمور، وهى اللعب واللهو... وأما الآخرة فما هى إلا أمور عظام.
وشبه حال الدنيا بسرعة تقضّيها، مع قلة جدواها، بنبات أنبته الغيث فاستوى واكتمل، وأعجب به الكفار الجاحدون لنعمة الله، فيما رزقهم من الغيث، والنبات.. فبعث عليه العاهة فهاج واصفر وصار حطاما.
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان عظم الآخرة، وهوان الدنيا فقال: { وَفِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ } أى: لمن كفر بالله - تعالى - وفسق عن أمره.
{ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَانٌ } أى: لمن آمن بالله - تعالى - واتبع ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحافظ على أداء ما كلف به بإخلاص وحسن اقتداء.
{ وَمَا ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَاعُ ٱلْغُرُورِ } أى: وما أحوال الحياة الدنيا وما اشتملت عليه من شهوات، إلا متاع زائل، لا يقدم عليه، ولا يتشبع به إلا من خدع بزخرفه، واغتر بمظهره.
فالمراد بالغرور: الخديعة، مصدر غره. أى: خدعه وأطمعه بالباطل.
ثم أمرهم - سبحانه - بالمسارعة إلى ما يسعدهم، بعد أن بين لهم حال الحياة الدنيا فقال: { سَابِقُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ }.
وقوله - تعالى - { سَابِقُوۤاْ } من المسابقة وهى محاولة أن يسبق الإِنسان غيره.
و{ مِّن } فى قوله { مِّن رَّبِّكُمْ } ابتدائية، والجار والمجرور صفة المغفرة.
أى: سارعوا - أيها المؤمنون - مسارعة السابقين لغيرهم، إلى مغفرة عظيمة كائنة من ربكم.
فالتعبير بقوله : { سَابِقُوۤاْ } لإِلهاب الحماس وحض النفوس إلى الاستجابة لما أمروا به، حتى لكأنهم فى حالة مسابقة يحرص كل قرين فيها إلى أن يسبق قرينه.
وقوله: { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ.. } معطوف على المغفرة. أى: سابقوا غيركم - أيها المؤمنون - إلى مغفرة عظيمة من ربكم، وإلى جنة كريمة؛ هذه الجنة عرضها وسعتها ورحابتها.. كسعة السماء والأرض.
وهذه الجنة قد { أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ } إيمانا حقا، جعلهم لا يقصرون فى أداء واجب من الواجبات التى كلفهم - سبحانه - بها.
قال الإِمام الفخر الرازى ما ملخصه: فى كون الجنة عرضها كعرض السماء والأرض وجوه: منها: أن المراد لو جعلت السماوات والأرضون طبقا طبقا.. لكان ذلك مثل عرض الجنة، وهذا غاية فى السعة لا يعلمها إلا الله - تعالى -.
ومنها: أن المقصود المبالغة فى الوصف بالسعة للجنة، وذلك لأنه لا شىء عندنا أعرض منهما.
وخص - سبحانه - العرض بالذكر، ليكون أبلغ فى الدلالة على عظمها، واتساع طولها، لأنه إذا كان عرضها كهذا، فإن العقل يذهب كل مذهب فى تصور طولها، فقد جرت العادة أن يكون الطول أكبر من العرض.
قال الإِمام ابن كثير: وقد روينا فى مسند الإِمام أحمد
"أن هرقل - ملك الروم - كتب إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنك دعوتنى إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فأين النار؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: سبحان الله، فأين الليل إذا جاء النهار" .
وإسم الإِشارة فى قوله - تعالى -: { ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } يعود إلى الذى وعد الله - تعالى - به عباده المؤمنين من المغفرة والجنة.
أى: ذلك العطاء الجزيل فضل الله - تعالى - وحده وهو صاحب الفضل العظيم لا يعلم مقداره إلا هو - عز وجل -.
فأنت ترى أن الله - تعالى - بعد أن بين حال الحياة الدنيا. دعا المؤمنين إلى المسابقة إلى العمل الصالح، الذى يوصلهم إلى ما هو أكرم وأبقى... وهو الجنة.
وشبيه بهاتين الآيتين قوله - تعالى -:
{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذٰلِكُمْ... } }. ثم بين - سبحانه - أن كل شىء فى هذه الحياة، خاضع لقضاء الله - تعالى - وقدره، وأن على المؤمن الصادق أن يكون شاكرا عند الرخاء، صابرا عند البلاء... فقال - تعالى -: { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ... }.