التفاسير

< >
عرض

مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ
٢٢
لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
٢٣
ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ
٢٤
-الحديد

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

و{ مَآ } فى قوله - تعالى - { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ } نافية، و { مِن } مزيدة لتأكيد هذا النفى وإفادة عمومه. ومفعول "أصاب" محذوف. وقوله { فِي ٱلأَرْضِ } إشارة إلى المصائب التى تقع فيها من فقر وقحط، وزلازل.
وقوله: { وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ } للإِشارة إلى ما يصيب الإِنسان فى ذاته، كالأمراض، والهموم.
والاستثناء فى قوله - تعالى -: { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } من أعم الأحوال، والمراد بالكتاب: اللوح المحفوظ، أو علمه - عز وجل - الشامل لكل شىء.
وقوله: { نَّبْرَأَهَآ } من البرء - بفتح الباء - بمعنى الخلق والإِيجاد، والضمير فيه يعود إلى النفس، أو إلى الأرض، أو إلى جميع ما ذكره الله - تعالى - من خلق المصائب فى الأرض والأنفس.
والمعنى: واعلموا - أيها المؤمنون علما يترتب عليه آثاره من العمل الصالح - أنه ما أصابكم أو ما أصاب أحدا مصيبة، هذه المصيبة كائنة فى الأرض - كالقحط والزلازل - أو فى أنفسكم - كالأسقام والأوجاع - إلا وهذه المصائب مسجلة فى كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.. وهذا التسجيل كائن من قبل أن نخلق هذه الأنفس، وهذه المصائب.
وكرر - سبحانه - حرف النفى فى قوله { وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ } للإِيماء إلى أن المصائب التى تتعلق بذات الإِنسان، يكون أشد تأثرا واهتماما بها، أكثر من غيرها.
واسم الإِشارة فى قوله: { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } يعود إلى الكتابة فى الكتاب.
أى: إن ذلك الذى أثبتناه فى لوحنا المحفوظ وفى علمنا الشامل لكل شىء.. قبل أن نخلقكم، وقبل أن نخلق الأرض.. يسير وسهل علينا، لأن قدرتنا لا يعجزها شىء، وعلمنا لا يعزب عنه شىء.
فالآية الكريمة صريحة فى بيان أن ما يقع فى الأرض وفى الأنفس من مصائب - ومن غيرها من مسرات - مكتوب ومسجل عند الله - تعالى - قبل خلق الأرض والأنفس.
وخص - سبحانه - المصائب بالذكر، لأن الإِنسان يضطرب لوقوعها اضطرابا شديدا، وكثيرا ما يكون إحساسه بها، وإدراكه لأثرها، أشد من إحساسه وإدركه للمسرات.
ومن الآيات التى تشبه هذه الآية فى معناها قوله - تعالى -:
{ قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } ثم بين - سبحانه - الحكم التى من أجلها فعل ذلك فقال: { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ }.
فاللام فى قوله: { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ.. } متعلقة بحذوف. وقوله: { تَأْسَوْاْ } من الأسى، وهو الحزن والضيق الشديد. يقال: أسى فلان على كذا - كفرح - فهو يأسى أسى، إذا حزن واغتم لما حدث، ومنه قوله - تعالى - حكاية عن شعيب - عليه السلام -:
{ فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يٰقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٍ كَافِرِينَ } أى: فعلنا ما فعلنا من إثبات ما يصيبكم فى كتاب من قبل خلقكم، وأخبرناكم بذلك، لكى لا تحزنوا على ما أصابكم من مصائب حزنا يؤدة بكم إلى الجزع، وإلى عدم الرضا بقضاء الله وقدره ولكى لا تفرحوا بما أعطاكم الله - تعالى - من نعم عظمى وكثيرة.. فرحا يؤدى بكم إلى الطغيان وإلى عدم استعمال نعم الله - تعالى - فيما خلقت له.. فإن من علم ذلك علما مصحوبا بالتدبر والاتعاظ... هانت عليه المصائب، واطمأنت نفسه لما قضاه الله - تعالى - وكان عند الشدائد صبورا، وعند المسرات شكورا.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية: يعنى: أنكم إذا علمتم أن كل شىء مقدر مكتوب عند الله، قل أساكم على الفائت، وفرحكم على الآتى، لأن من علم أن ما عنده مفقود لا محالة، لم يتفاقم جزعه عند فقده، لأنه وطن نفسه على ذلك، وكذلك من علم أن بعض الخير واصل إليه، وأن وصوله لا يفوته بحال، لم يعظم فرحه عند نيله.
فإن قلت: فلا أحد يملك نفسه عند مضرة تنزل به، ولا عند منفعة ينالها، أن لا يحزن ولا يفرح؟
قلت: المراد الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله - تعالى - ورجاء ثواب الصابرين، والفرح المطغى الملهى عن الشكر.
فأما الحزن الذى لا يكاد الإِنسان يخلو منه مع الاستسلام، والسرور بنعمة الله، والاعتداد بها مع الشكر، فلا بأس بهما.
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله: { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ }.
أى: والله - تعالى - لا يحب أحداً من شأنه الاختيال بما آتاه - سبحانه - من نعم دون أن يشكره - تعالى - عليها، ومن شأنه - أيضاً - التفاخر والتباهى على الناس بما عنده من أموال وأولاد.. وإنما يحب الله - تعالى - من كان من عباده متواضعا حليما شاكرا لخالقه - عز وجل -.
فأنت ترى أن هاتين الآيتين قد سكبتا فى قلب المؤمن، كل معانى الثقة والرضا بقضاء الله فى كل الأحوال.
وليس معنى ذلك عدم مباشرة الأسباب التى شرعها الله - تعالى - لأن ما سجله الله فى كتابه علينا قبل أن يخلقنا، لا علم لنا به، وإنما علمه مرده إليه وحده - تعالى -.
وهو - سبحانه - لا يحاسبنا على ما نجهله، وإنما يحاسبنا على ما أمرنا به، أو نهانا عنه، عن طريق رسوله - صلى الله عليه وسلم-.
وكما سجل - سبحانه - أحوالنا قبل أن يخلقنا، فقد شرع الأسباب وأمرنا بمباشرتها، وبين لنا فى كثير من آياته، أن جزاءنا من خير أو شر على حسب أعملنا.
وعندما قال بعض الصحابة للنبى - صلى الله عليه وسلم -:
"أفلا نتكل على ما قدره الله علينا؟
أجابهم بقوله: اعملوا فكل ميسر لما خلق له"
.
وقوله - سبحانه - بعد ذلك: { ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ } بدل من قوله - تعالى -: { كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } والمراد بالذين يبخلون: كل من يبخل بما له أو بعمله.. فكأنه - تعالى - يقول: والله لا يحب الذين يبخلون بما أعطاهم من فضله، بخلا يجعلهم لا ينفقون شيئا منه فى وجوه الخير، لأن حبهم لأموالهم جعلهم يمسكونها ويشحون بها شحا شديدا.. ولا يكنفون بذلك، بل يأمرون غيرهم بالخبل والشح.
وعلى رأس هؤلاء الذين لا يحبهم الله - تعالى - المنافقون، فقد كانوا يبخلون بأموالهم عن إنفاق شىء منها فى سبيل الله، وكانوا يتواصون بذلك فيما بينهم، فقد قال - سبحانه - فى شأنهم:
{ هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ } وقوله - سبحانه -: { وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ } تذييل المقصود به ذم هؤلاء البخلاء على بخلهم.
وجواب الشرط محذوف، أغنت عنه جملة { فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ } والغنى: هو الموصوف بالغنى - وهى صفة من صفات الله - عز وجل - إذ هو الغنى غنى مطلقا، والخلق جميعا فى حاجة إلى عطائه - سبحانه - والحميد: وصف مبالغة من الحمد. والمراد به أنه - تعالى - كثير الحمد والعطاء للمنفقين فى وجوه الخير.
أى: ومن يعرض عن هدايات الله - تعالى - وعن إرشاداته... فلن يضر الله شيئا، فإن الله - تعالى - هو صاحب الغنى المطلق الذى لا يستغنى عن عطائه أحد، وهو - سبحانه - كثير الحمد والعطاء لمن استجاب لأمره فأنفق مما رزقه الله بدون اختيال أو تفاخر أو أذى.
ثم بين - سبحانه - أن حكمته قد اقتضت أن يرسل رسله إلى الناس، ليهدوهم إلى طريق الحق، وأن الناس منهم من اتبع الرسل، ومنهم من أعرض عنهم، ومنهم من ابتدع أموراً من عند نفسه لم يرعها حق رعايتها.. فقال - تعالى -: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا... }.