التفاسير

< >
عرض

سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
١
لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢
هُوَ ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ وَٱلظَّاهِرُ وَٱلْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
٣
هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٤
لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ
٥
يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
٦
-الحديد

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

افتتحت سورة "الحديد" بتنزيه الله - تعالى - عن كل مالا يليق به، وبالثناء عليه - تعالى - بما هو أهله، وببيان جانب من صفاته الجليلة، الدالة على وحدانيته، وقدرته، وعزته، وحكمته، وعلمه المحيط بكل شىء.
افتتحت بقوله - عز وجل -: { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }.
وقوله: { سَبَّحَ } من التسبيح، وأصله الإِبعاد عن السوء، من قولهم سبح فلان فى الماء، إذا توغل فيه، وسبح الفرس، إذا جرى بعيدا وبسرعة.
قالوا: وهذا الفعل { سَبَّحَ } قد يتعدى بنفسه، كما فى قوله - تعالى -:
{ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } وقد يتعدى باللام كما هنا. وهى للتأكيد والتبيين أى: سبح لله لا لغيره.
والمراد بالتسبيح هنا: تنزيه الله - تعالى - عن كل مالا يليق بجلاله وكماله.
والمعنى: نزه الله - تعالى - وعظمه وخضع له، وانقاد لمشيئته، جميع ما فى السماوات والأرض من كائنات ومخلوقات.. لا يعلمها إلا هو - سبحانه -.
وقد جاء التسبيح تارة بصيغة الفعل الماضى كما فى هذه السورة، وكما فى سورتى الحشر والصف، وتارة بصيغة المضارع، كما فى سورتى الجمعة والتغابن، وتارة بصيغة الأمر كما فى سورة الأعلى، وتارة بصيغة المصدر كما فى سورة الإِسراء.
جاء التسبيح بهذه الصيغ المتنوعة، للإِشعار بأن تسبيح هذه المخلوقات لله - تعالى - شامل لجميع الأوقات والأحوال.
قال - تعالى -
{ تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَاوَاتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } وختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله: { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }، والعزيز: هو الغالب على كل شىء، إذ العزة معناها: الغلية على الغير، ومنه قوله - تعالى -: { وَعَزَّنِي فِي ٱلْخِطَابِ } أى: غلبنى فى الخصام.
وفى أمثال - العرب: من عزَّ بزَّ، أى: من غلب غيره تفوق عليه.
والحكيم مأخوذ من الحكمة، وهى وضع الأمور فى مواضعها اللائقة بها.
أى: وهو - سبحانه - الغالب الذى لا يغلبه شىء - الحكيم الذى يضع الأمور فى مواضعها السليمة.
ثم ذكر - سبحانه - صفات أخرى من صفاته الجليلة فقال: { لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
أى. له - سبحانه - وحده دون أن يشاركه مشارك، ملك السموات والأرض، إذ هو - تعالى - المتصرف فيهما، والخالق لهما، إن شاء أبقاهما وإن شاء أزالهما.
وملكه - سبحانه - للسماوات والأرض، ملك حقيقى، لأنه لا ينازعه فيه منازع، ولا يشاركه مشارك.. بخلاف ملك غيره لبعض متاع الدنيا، فإنه ملك زائل مهما طال، ومفتقر إلى من يحميه ويدافع عنه.
وقوله: { يُحْيِـي وَيُمِيتُ } صفة أخرى من صفاته - عز وجل - أى: هو الخالق للحياة لمن شاء أن يحييه، وهو الخالق للموت لمن أراد أن يميته.
وهذه الجملة خبر لمبتدأ محذوف، وهى فى الوقت نفسه بدل اشتمال مما قبلها إذ الإِحياء والإِماتة، مما يشتمل عليه ملك السماوات والأرض.
وخص - سبحانه - هاتين الصفتين بالذكر، لأنه هو المتفرد بهما، ولا يستطيع أحد أن يدعى أن له عملا فيهما، ومن ادعى ذلك كانت دعواه من قبيل المغالطة والمجادلة بالباطل، إذ الموجد الحقيقى لهما هو الله - عز وجل - وما سواه فهو سبب لهما.
وقوله - تعالى -: { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تذييل مؤكد لما قبله. أى: وهو - سبحانه - على كل شىء من الأشياء التى من جملتها ما ذكر - قدير على إيجادها أو إعدامها.
ثم ذكر - سبحانه - صفات أخرى من صفاته الجليلة فقال: { هُوَ ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ وَٱلظَّاهِرُ وَٱلْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }.
أى: هو - سبحانه - الأول والسابق على جميع الموجودات، إذ هو موجدها ومحدثها إبتداء. فهو موجود قبل كل شىء وجودا لا حد ولا وقت لبدايته.
{ وَٱلآخِرُ } أى: الباقى بعد هلاك وفناء جميع الموجودات، كما قال - تعالى -:
{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } وأوثر لفظ { ٱلآخِرُ } على لفظ الباقى ليتم الطباق بين الوصفين المتقابلين...
وهو { ٱلظَّاهِرُ } أى: الظاهر وجوده عن طريق مخلوقاته التى أوجدها بقدرته إذ من المعروف عند كل عاقل أن كل مخلوق لا بد له من خالق، وكل موجود لا بد له من موجد.
فلفظ { ٱلظَّاهِرُ } مشتق من الظهور الذى هو ضد الخفاء، والمراد به هنا ظهور الأدلة العقلية والنقلية على وجوده ووحدانيته وقدرته وعلمه.
ويجوز أن يكون مشتقا من الظهور، بمعنى الغلبة والعلو على الغير، كما فى قوله - تعالى -:
{ إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ.. } وعليه يكون المعنى: وهو الغالب العالى على كل شىء.
وهو { وَٱلْبَاطِنُ } من البطون بمعنى الخفاء والاستتار، أى: وهو - سبحانه - المحتجب يكنه ذاته عن أن تدركه الأبصار، أو أن تحيط بحقيقة ذاته العقول، كما قال - تعالى -
{ لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَارَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } ويصح أن يكون { ٱلْبَاطِنُ } بمعنى العالم بما بطن وخفى من الأمور يقال: فلان أبطن بهذا الأمر من غيره، أى: أعلم بهذا الشىء من غيره.
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله: { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أى: وهو - سبحانه - عليم بكل ما فى هذا الكون، لا تخفى عليه خافية من شئونه، كما قال - تعالى -:
{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ } قال ابن كثير: وهذه الآية هى المشار إليها فى حديث عرباض بن معاوية أنها أفضل من ألف آية.
وقد اختلفت عبارات المفسرين فى هذه الآية على نحو بضعة عشر قولا وقال البخارى: قال يحيى: الظاهر على كل شىء علما والباطن على كل شىء علما.
وروى الإِمام مسلم - فى صحيحه -، والإِمام أحمد - فى مسنده - عن أبى هريرة
"أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو عند النوم فيقول: اللهم رب السماوات ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شىء، منزل التوراة والإِنجيل والقرآن، فالق الحب والنوى، لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر كل شىء أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شىء، وأنت الآخر فليس بعدك شىء، وأنت الظاهر فليس فوقك شىء، وأنت الباطن فليس دونك شىء. اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر.." .
ثم ساق - سبحانه - ألوانا اخرى من الأدلة التى تدل على وحدانيته وقدرته فقال: { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ }.
والأيام: جمع يوم، واليوم فى اللغة مطلق الوقت، أى: فى ستة أوقات لا يعلم مقدارها إلا الله - تعالى -. وقيل: هذه الأيام من أيام الدنيا.
والاستواء فى اللغة: يطلق على الاستقرار، كما فى قوله - تعالى -:
{ وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِيِّ } أى استقرت سفينة نوح - عليه السلام - عند ذلك الجبل المسمى بذلك الاسم.. كما يطلق بمعنى القصد، ومنه قولهم: استوى إلىَّ يخاصمتى، أى: قصد لى. كما يطلق بمعنى الاستيلاء والقهر، ومنه قول الشاعر:

قد استوى بشر على العراق

وعرش الله، مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم أما حقيقته وكيفيته فلا يعلمها إلى الله - تعالى -.
وقد ذكر العرش فى إحدى وعشرين آية من القرآن الكريم، كما ذكر الاستواء على العرش فى سبع آيات.
أى: هو - سبحانه - الذى خلق السماوات والأرض فى ستة أوقات، ثم استوى على العرش، استواء يليق به - تعالى -. بلا كيف، ولا تمثيل، ولا تشبيه، لاستحالة اتصافه - تعالى: بصفات المحدثين، ولوجوب تنزيهه عما لا يليق به
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } قال الإِمام مالك -رحمه الله - الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإِيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
ثم بين - سبحانه - شمول علمه فقال: { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا }.
وقوله: { يَلِجُ } من الولوج بمعنى الدخول، يقال: ولج فلان بيته، إذا دخله.
وقوله: { يَعْرُجُ } من العروج وهو الذهاب فى صعود، والسماء، جهة العلو مطلقا.
أى أنه - سبحانه - يعلم ما يلج فى الأرض، وما يدخل فيها من ماء نازل من السماء، ومن جواهر وكنوز قد طويت فى باطنها، ومن بذور ومعادن فى طياتها.
ويعلم - أيضاً - { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من نبات وحبوب وكنوز، وغير ذلك من أنواع الخيرات، ويعلم - كذلك - { مَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ } من أمطار، وثلوج، وبرد، وصواعق، وبركات، من عنده - تعالى - لأهل الأرض.
ويعلم - أيضا - ما يصعد فيها من الملائكة، ومن الأعمال الصالحة، كما قال - تعالى -
{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } وعدى العروج بحرف فى، لتضمنه معنى الاستقرار، وهو فى الأصل يعدى بحرف إلى، كما فى قوله - تعالى -: { تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } وقوله - سبحانه -: { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } أى: وهو معكم بعلمه ولطفه ورحمته.. أينما كنتم وحيثما وجدتم.
قال الآلوسى: قوله - تعالى -: وهو معكم أينما كنتم تمثيل لإِحاطة علمه - تعالى - بهم، وتصوير خروجهم عنه أينما كانوا، وقيل المعية مجاز مرسل عن العلم بعلاقة السببية والقرينة السياق واللحاق مع استحالة الحقيقة.
وقد أول السلف هذه الاية بذلك، أخرج البيهقى فى الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه قال فيها: عالم بكم أينما كنتم.
وأخرج - أيضا - عن سفيان الثورى أنه سئل عنها فقال: علمه معكم.
وفى البحر: أنه اجمعت الأمة على هذا التأويل فيها، وأنها لا تحمل على ظاهرها من المعية بالذات.
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله: { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أى: والله - تعالى - لا يخفى عليه شىء من أقوالكم أو أفعالكم.. بل هو مطلع عليكم اطلاعا تاما.
ثم أكد - سبحانه - كمال قدرته فقال { لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } أى: له - سبحانه - التصرف الكلى فى السماوات والأرض. وفيما فيهما من موجودات، من حيث الإِيجاد والإِعدام وسائر التصرفات.
{ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } أى: وإلى الله - تعالى - وحده لا إلى غيره، مرد الأمور كلها، والحكم عليها، والتصرف فيها.. وليس إلى أحد غيره لا على سبيل الاستقلال، ولا على سبيل الاشتراك.
{ يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ } أى: يدخل - سبحانه - طائفة من الليل فى النهار، فيقصر الليل ويزيد النهار ويدخل طائفة من النهار فى الليل، فيقصر النهار، ويزيد الليل، ثم يسيران على هذا النظام البديع، دون أن يسبق أحدهما الآخر.
{ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } و "ذات" هنا مؤنث ذو بمعنى صاحب.
أى: وهو - سبحانه - عليم علما تاما بمكنونات الصدور، وما تضمره من خير أو شر وما يتردد فيها من خواطر وأفكار.
والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة من أول السورة إلى هنا، يراها قد اشتملت على بضع عشرة صفة، من صفات الله عز وجل - الدالة على وجوب إخلاص العبادة له، والانقياد لأمره ونهيه.
ثم دعا - سبحانه - عباده المؤمنين إلى التمسك بهذا الإِيمان، وإلى تنفيذ تكاليفه، ووعدهم على ذلك بأجزل الثواب، فقال - تعالى -: { آمِنُواْ بِٱللَّهِ... }.