التفاسير

< >
عرض

قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِيۤ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
١
ٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ ٱلْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ
٢
وَٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
٣
فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٤
-المجادلة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآيات روايات منها ما أخرجه الإِمام أحمد عن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن خولة بنت ثعلبة قالت: فىَّ والله وفى - زوجى - أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة.
قالت:
"كنت عنده، وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه، قالت: فدخل على يوما فراجعته بشىء فغضب، فقال: أنت على كظهر أمى.
قالت: ثم خرج فجلس فى نادى قومه ساعة، ثم رجع، فإذا هو يريدنى عن نفسى، فقالت له: كلا والذى نفس خوله بيده لا تخلص إلىَّ، وقلت ما قلت، حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه..
قالت: فواثبنى، فامتنعت عنه، فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف فألقيته عنى.
ثم خرجت إلى بعض جاراتى، فاستعرت منها ثيابا، ثم خرجت حتى جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلست بين يديه، فذكرت له - صلى الله عليه وسلم - ما لقيت من زوجى، وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه.
قالت: فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يا خويلة، ابن عمك شيخ كبير فاتى الله فيه.
قالت: فوالله ما برحت حتى نزل فىَّ قرآن، فتغشى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان يتغشاه، ثم سرى عنه، فقال لى: يا خويلة قد أنزل الله فيك وفى صاحبك قرآنا. ثم قرأ على هذه الآيات"
.
وفى رواية: "أنها أتت النبى - صلى الله عليه وسلم - فقالت له: يا رسول الله، إن أوساً تزوجنى وأنا شابة مرغوب فى، فلما خلا سنى، ونثرت بطنى، جعلنى عليه كأمه، وتركنى إلى غير أحد، فإن كنت تجد لى رخصة يا رسول الله فحدثنى بها.
فقال - صلى الله عليه وسلم -: ما أمرت بشىء فى شأنك حتى الآن وفى رواية أنه قال لها: ما أراك إلا قد حرمت عليه.
فقالت: يا رسول الله، إنه ما ذكر طلاقا، وأخذت تجادل النبى - صلى الله عليه وسلم - ثم قالت: اللهم إنى أشكو إليك فافتى، وشدة حالى، وإن لى من زوجى أولاداً صغاراً، إن ضمَّهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلى جاعوا.
قالت: وما برحت حتى نزل القرآن، فقال - صلى الله عليه وسلم -: يا خولة أبشرى ثم قرأ على هذه الآيات"
.
و "قد" فى قوله - تعالى -: { قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِيۤ إِلَى ٱللَّهِ } للتحقيق ولتوقع الإِجابة من الله - تعالى - على ما جادلت فيه تلك المرأة النبى - صلى الله عليه وسلم -.
قال صاحب الكشاف: "فإن قلت ما معنى "قد" فى قوله: { قَدْ سَمِعَ... }؟
قلت: "معناه التوقع، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله - تعالى - مجادلتها وشكواها، وينزل فى ذلك ما يفرج كربها".
والسماع فى قوله - تعالى -: { سَمِعَ } بمعنى علم الله - تعالى - التام بما دار بين تلك المرأة، وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - سبحانه - لشكواها، وحكمه فى تلك المسألة، بما يبطل ما كان شائعاً بشأنها قبل نزول هذه الآية.
وقوله: { تُجَادِلُكَ } من المجادلة، وهى المفاوضة على سبيل المغالبة والمنازعة، وأصلها من جدلت الحبل: إذا أحكمت فتله.
وقوله: { تَشْتَكِيۤ } من الشكو، وأصله فتح الشَّكوة - وهى سقاء صغير يجعل فيه الماء - وإظهار ما فيها، ثم شاع هذا الاستعمال فى إظهار الإِنسان لما يؤلمه ويؤذيه، وطلب إزالته.
والمعنى: قد سمع الله - تعالى - سماعا تاما، قول هذه المرأة التى تجادلك - أيها الرسول الكريم - فى شأن ما دار بينها وبين زوجها، وفيما صدر عنه فى حقها من الظهار، وسمع - سبحانه - شكواها إليه، والتماسها منه - عز وجل - حل قضيتها، وتفريج كربتها، وإزالة ما نزل بها من مكروه.
وقال - سبحانه - { ٱلَّتِي تُجَادِلُكَ } بأسلوب الاسم الموصول للإِشعار بأنها كانت فى نهاية الجدال والشكوى، وفى أقصى درجات التوكل على ربها، والأمل فى تفريج كربتها، رحمة بها وبزوجها وبأبنائها.
وقوله - سبحانه -: { للَّهِ وَٱللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ } جملة حالية، والتحاور: مراجعة الكلام من الجانبين. يقال: حاور فلان فلانا فى الكلام إذا راجعه فيما يقوله.
أى: والحال أن الله - تعالى - يسمع ما يدور بينك - أيها الرسول الكريم - وبين تلك المرأة، من مراجعة فى الكلام، ومن أخذ ورد فى شأن قضيتها.
والمقصود بذلك، بيان الاعتناء بشأن هذا التحاور، والتنويه بأهميته، وأنه - تعالى - قد تكرم وتفضل بإيجاد التشريع الحكيم لحل هذه القضية.
وعبر - سبحانه - بصيغة المضارع، لزيادة التنويه بشأن ذلك التحاور، واستحضار صورته فى ذهن السامع، ليزداد عظة واعتبارا.
وجملة: { إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } تذييل قصد به التعليل لما قبله بطريق التحقيق.
أى: أنه - سبحانه - يسمع كل المسموعات، ويبصر كل المبصرات، على أتم وجه وأكمله، ومن مقتضيات ذلك، أن يسمع تحاوركما، ويبصر ما دار بينكما.
قال القرطبى: "أخرج ابن ماجة أن عائشة - رضى الله عنها - قالت: "تبارك الذى وسع سمعه كل شىء إنى لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى على بعضه، وهى تشتكى زوجها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهى تقول: يا رسول الله!! أكل شبابى، ونثرت له بطنى، حتى إذا كبر سنى.. ظاهر منى!! اللهم إنى أشكو إليك.
وفى البخارى عن عائشة قالت: الحمد لله الذى وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا فى ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله - تعالى -: { قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا }.
ثم شرع - سبحانه - فى بيان شأن الظهار فى ذاته، وفى بيان حكمه المترتب عليه شرعا فقال: { ٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ }.
وقوله: { يُظَاهِرُونَ } من الظهار، وهو لغة مصدر ظاهر، وهو مفاعلة من الظهر.
قال الآلوسى: والظهار يراد به معان مختلفة راجعة إلى الظهر معنى ولفظا باختلاف الأغراض، فيقال: ظاهر زيد عمراً، أى: قابل ظهره بظهره حقيقة، وكذا إذا غايظه.. وظاهره إذا ناصره باعتبار أنه يقال: قوى ظهره إذا نصره".
والمراد به هنا: أن يقول الرجل لزوجته: أنت على كظهر أمى، قاصدا بذلك تحريم زوجته على نفسه كتحريم أمه عليه.
وكان هذا القول من الرجل لامرأته يؤدى إلى طلاقها منه، بحيث لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وقيل: إلى طلاقها منه طلاقاً مؤبدا لا تحل له بعده.
وقيل: إن هذا القول لم يكن طلاقا من كل وجه، بل كانت الزوجة تبقى بعده معلقة، فلا هى مطلقة، ولا هى غير مطلقة.
و "من" فى قوله { مِّن نِّسَآئِهِمْ } بيانية، لإِفادة أن هذا تشريع عام، وليس خاصا بخولة بنت ثعلبة، التى نزلت فى شأنها هذه الآيات.
وجملة: { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } قائمة مقام الخبر، ودالة عليه.
والمعنى: الذين يظاهرون منكم - أيها المؤمنون - من نسائهم بأن يقولوا لهن: أنتن علينا كظهر أمهاتنا، مخطئون فيما يقولون، فإن زوجاتهم لسن بأمهاتهم.
{ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ } أى: ليس أمهاتهم على سبيل الحقيقة والواقع إلا النساء اللائى ولدنهم وأرضعنهم، وقمن برعايتهم فى مراحل الطفولة والصبا والشباب.
ثم أكد - سبحانه - هذا المعنى بقوله: { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ ٱلْقَوْلِ وَزُوراً }.
أى: وإن هؤلاء الرجال الذين يقولون لأزواجهم: أنتن علينا كظهور أمهاتنا فى الحرمة، ليتفوهون بما هو منكر من القول، فى حكم الشرع وفى حكم العقل، وفى حكم الطبع. وفضلا عن كل ذلك فهو قول كاذب وباطل إذ لم يحرم الله - تعالى - الزوجة على زوجها، كما حرم عليه أمه. فعلاقة الأزواج بأمهاتهم، تختلف اختلافا تاما عن علاقتهم بزوجاتهم.
وإذاً فالمقصود بهذه الجملة الكريمة: التوبيخ على هذا القول، وهو قول الرجل لزوجته: أنت على كظهر أمى، وذم من ينطق به، لأنه يعرض مقام الأمهات - وهو مقام فى أسمى درجات الاحترام والتبجيل - - إلى تخيلات قبيحة تصاحب النطق بهذا الكلام.
وكعادة القرآن الكريم فى قرن الترهيب بالترغيب، حتى لا تيأس النفوس من رحمة الله، ختمت الآية الكريمة بما يدل على فضله - تعالى -.
فقال: { وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } أى: وإن الله - تعالى - لكثير العفو والمغفرة، لمن تاب إليه - سبحانه - وأناب وأقلع عن تلك الأقوال والأفعال التى يبغضها - سبحانه -.
ثم أخذت السورة الكريمة فى تفصيل حكم الظهار، بعد بيان كونه منكرا من القول وزورا، فقال - تعالى -: { وَٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا }.
وقد اختلف العلماء فى معنى قوله - تعالى -: { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ }.
فمنهم من يرى أن المراد منه، ثم يرجعون عما قالوا، قاصدين معاشرة زوجاتهم.. أو قاصدين تحليل ما حرموه على أنفسهم بالنسبة لزوجاتهم بسبب الظهار.
ومنهم من يرى أن المراد بهذه الجملة: العودة إلى ما كانوا يقولونه فى الجاهلية، بعد أن هداهم الله - تعالى - إلى الإِسلام، فيكون المعنى: ثم يعودون إلى ما كانوا يقولونه فى الجاهلية من ألفاظ الظهار، التى يبغضها الله - تعالى -.
وهذا القول يبدو عليه الضعف من جهة: جعله الفعل المضارع الدال على الحال والاستقبال وهو { يُظَاهِرُونَ }، بمعنى الماضى المنقطع، ومن جهة جعلهم أن المظاهر بعد الإِسلام، كان قد ظاهر فى الجاهلية، مع أن هذا ليس بلازم. إذ لم يثبت أن "أوس بن الصامت" كان قد ظاهر من زوجته فى الجاهلية، وهذا الحكم إنما هو حق المظاهر فى الإِسلام.
ومنهم من يرى أن المراد بهذه الجملة: تكرار لفظ الظهار، فمعنى ثم يعودون لما قالوا: ثم يعودون إلى تكرار لفظ الظهار مرة أخرى.
وكان أصحاب هذا القول يرون، أن الكفارة لا تكون إلا بتكرار ألفاظ الظهار، وهو قول لا يؤيده دليل، لأنه لم يثبت أن خولة - أو غيرها - كرر عليها زوجها لفظ الظهار أكثر من مرة، بل الثابت أنه عندما قال لها: أنت على كظهر أمى، ذهبت إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقصت عليه ما جرى بينها بين زوجها.
وقد رجح الإِمام ابن جرير الرأى الأول فقال: والصواب من القول فى ذلك عندى أن يقال: معنى اللام فى قوله: { لِمَا قَالُواْ } بمعنى إلى أو فى، لأ، معنى الكلام: ثم يعودون لنقض ما قالوا من التحريم فيحللونه، وإن قيل: ثم يعودون إلى تحليل ما حرموا، أو فى تحليل ما حرموا فصواب، لأن كل ذلك عود له، فتأويل الكلام: ثم يعودون لتحليل ما حرموا على أنفسهم مما أحله الله لهم.
والمعنى: والذين يظاهرون منكم - أيها المؤمنون - من نسائهم، ثم يندمون على ما فعلوا، ويريدون أن يعودوا عما قالوه، وأن يرجعوا إلى معاشرة زوجاتهم.
فعليهم فى هذه الحالة إعتاق رقبة { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } أى: من قبل أن يستمتع أحدهما بالآخر، أى يحرم عليهما الجماع ودواعيه قبل التكفير.
والمراد بالرقبة: المملوك، من تسمية الكل باسم الجزء.
واسم الإِشارة فى قوله - سبحانه - { ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } يعود إلى الحكم بالكفارة.
أى: ذلكم الذى شرعنا لكم - أيها المؤمنون - وهو الحكم بالكفارة إنما شرعناه من أجل أن تتعظوا به، وتنزجروا عن النطق بالألفاظ التى تؤدى إلى الظهار، والله - تعالى - خبير ومطلع على كل ما تقولونه من أقوال، وما تفعلونه من أفعال - وسيحاسبكم على ذلك حسابا دقيقا.
وما دام الأمر كذلك، فافعلوا ما أمركم به، واجتنبوا ما نهاكم عنه.
ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر يسره فى أحكامه فقال: { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا }.
أى، فمن لم يجد منكم - أيها المؤمنون - رقبة يعتقها، أو يجد المال الذى يشترى به الرقبة فيعتقها.. فعليه فى هذه الحالة، أن يصوم شهرين متتابعين من قبل أن يستمتع أحدهما بالآخر.
{ فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً } أى: فمن لم يستطع أن يصوم شهرين متتابعين، لسبب من الأسباب كمرض أو غيره فعليه فى هذه الحالة أن يطعم ستين مسكينا، بأن يقدم لهم طعاما يكفى لغدائهم وعشائهم بصورة مشبعة.
واسم الإِشارة فى قوله: { ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } إشارة إلى ما سبق الحديث عنه، من تشريع يتعلق بالظهار. ومحله إما الرفع على الابتداء، أو النصب بمضمر معلل بما بعده.
أى: ذلك واقع، أو فعلنا ذلك ليزداد إيمانكم بالله ورسوله، وعملكم بشريعة الإِسلام، وتنفيذكم للتكاليف التى كلفكم الله - تعالى - بها.
{ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أى: وتلك الأحكام التى ذكرناها لكم هى حدود الله - تعالى - التى لا يجوز تعديها، فالزموها وقفوا عندها، وللكافرين الذين يتعدونها ولا يقفون عندها، عذاب شديد الألم على من ينزل به.
هذا، ومن الأحكام والآداب التى أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى:
1 - أن الدعاء متى صدر عن لسان صادق، وعن قلب عامر باليقين.. أجابه الله - تعالى - لصاحبه فى الحال أو فى الوقت الذى يريده - سبحانه -.
والدليل على ذلك أن السيدة خولة بنت ثعلبة، عندما تضرعت إلى الله - تعالى - بالدعاء، أن يكشف كربها، وأن يحل قضيتها.. أجاب - سبحانه - دعاءها، وأنزل قرآنا يتلى، وأحكاما يعمل بها فى شأن الظهار.
ورضى الله عن السيدة عائشة فقد قالت: الحمد لله الذى وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا فى ناحية البيت. ما أسمع ما تقول، فأنزل الله - عز وجل -: { قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا... } الآيات.
وقال القرطبى: "المرأة التى اشتكت هى خولة بنت ثعلبة.. وقد مر بها عمر بن الخطاب فى خلافته، والناس معه فاستوقفته طويلا ووعظته وقالت: يا عمر قد كنت تدعى عميرا، ثم قيل لك يا عمر، ثم قيل لك يا أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر، فإن من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن الحساب خاف العذاب.
فقيل له: يا أمير المؤمنين، أتقف هذا الوقوف لتلك المرأة العجوز؟ فقال: والله لو حبستنى من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة. أتدرون من هذه؟ إنها خولة بنت ثعلبة، سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر".
2 - أخذ العلماء من قوله - تعالى -: { ٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ.. } أنه ليس للنساء ظهار، فلو ظاهرت امرأة من زوجها لم يلزمها شىء.. لأن الحل والعقد، والتحليل والتحريم فى النكاح، إنما هو بيد الرجل لا بيد المرأة.
ويرى بعضهم أن عليها كفارة يمين، ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها من مجامعتها. كما أخذ الحنفية والحنابلة والمالكية من هذه الآية، أن الظهار خاص بالمسلمين، لأنهم هم المخاطبون، ولأن غيرهم من الذميين ليسوا من أهل الكفارة.
وقال الشافعية: كما يصح طلاق الذمى وتترتب عليه أحكامه، يصح ظهار الذمى وتترتب عليه أحكامه.. كذلك أخذ العلماء من هذه الآية: صحة ظهار العبد من زوجته، لأن أحكام النكاح فى حقه ثابتة، وإذا تعذر عليه العتق والإِطعام. فإنه قادر على الصوم.
3 - يؤخذ من قوله - تعالى -: { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ ٱلْقَوْلِ وَزُوراً } أن الظهار حرام، لأن الله - تعالى - قد وصفه بأنه منكر من القول، وبأنه زور.
والفعل الذى يوصف بهذا الوصف، يجب على المؤمن أن يتنزه عنه.
4 - يرى الحنفية والظاهرية أنه يكفى فى الكفارة بالنسبة للظهار تحرير رقبة حتى ولو كانت كافرة، لأن الله - تعالى - يقول: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } ولو كان الإِيمان شرطا لبينه كما بينه فى كفارة القتل. فوجب أن يطلق ما أطلقه، وأن يقيد ما قيده، ويعمل بكل منهما فى موضعه.
ويرى جمهور الفقهاء اشتراط الإِيمان فى الرقبة، لأنه من المعروف حمل المطلق على المقيد إذا كان من جنسه، وما دام قد ورد النص على كون الرقبة مؤمنة فى بعض الآيات، فيجب حمل بقية الآيات على ذلك.
5 - دل قوله - تعالى - { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } على حرمة الجماع قبل التكفير.
وألحق بعضهم بالجماع دواعيه من التقبيل ونحوه، لأن الأصل فى الأحكام أنه إذا حرم شىء منها، أن يلحق بذلك الشىء المحرم ما يوصل إليه إذ طريق المحرم محرم.
ويرى بعضهم أن المحرم إنما هو الجماع فقط، لأن حرمة الجماع ليست لمعنى يخل بالنكاح، وعليه فلا يلزم من تحريم الجماع تحريم دواعيه، فإن الحائض يحرم جماعها دون دواعيه.
قال القرطبى: ولا يقرب المظاهر امرأته ولا يباشرها ولا يتلذذ بشىء حتى يُكَفِّر، خلافا للشافعى فى أحد قوليه.. فإن وطئها قبل أن يكفر، استغفر الله - تعالى - وأمسك عنها حتى يكفر كفارة واحدة.
وقال مجاهد وغيره: عليه كفارتان.
6 - قوله - تعالى -: { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ.. } صريح فى وجوب تتابع الصوم من غير انقطاع بين الأيام، فلو أفطر يوما من الشهرين من غير عذر انقطع التتابع، ولزمه استئناف الصوم من جديد.
أما الإِفطار بعذر - كمرض ونحوه - فيرى بعضهم وجوب الاستئناف، لزوال التتابع الذى صرحت به الآية.
ويرى فريق آخر من العلماء، إن الإِفطار بعذر لا يمنع التتابع.
7 - أخذ العلماء من قوله - تعالى - { فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً } أن المطلوب من المظاهر أن يطعم هؤلاء المساكين إطعاما يشبعهم فى الغداء والعشاء، سواء أكان ذلك بالتمليك أم بالإِباحة، فأيهما وقع من المكفر أجزأه، وسواء أطعمهم جملة أم متفرقين.
وأوجب الشافعية تمليك المساكين.. بأن يملك لكل مسكين مُدًّا أو صاعا من غالب قوت البلد الذى يسكنه من عليه الكفارة.
أما حكم من عجز عن الكفارة، فيرى جمهور العلماء أنها لا تسقط عنه، بل تستقر فى ذمته حتى يتمكن من أدائها، كسائر الديون والحقوق، فإنها لا تسقط، وإنما تبقى فى ذمة من عليه، حتى يتمكن من أدائها.
قال القرطبى: "وقد ذكر الله - تعالى - الكفارة هنا مرتبة، فلا سبيل إلى الصيام إلا عند العجز عن الرقبة، وكذلك لا سبيل إلى الإِطعام إلا عند عدم الاستطاعة على الصيام".
هذا، ومن أراد التوسع فى هذه الأحكام الفقهية، فعليه يكتب الفروع وببعض كتب التفسير.
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة الذين يحاربون الله ورسوله، ولا يدركون أنه - سبحانه - معهم أينما كانوا، ويعلم ما يتناجون به من إثم وعدوان ومعصية للرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال - تعالى -: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ... }.