التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ ٱلرَّسُولِ وَتَنَاجَوْاْ بِٱلْبِرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
٩
إِنَّمَا ٱلنَّجْوَىٰ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ
١٠
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلْمَجَالِسِ فَٱفْسَحُواْ يَفْسَحِ ٱللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَانشُزُواْ يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
١١
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٢
ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
١٣
-المجادلة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

فقوله - تعالى -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ } تعليم وإرشاد منه - سبحانه - للمؤمنين، لكى يكون حديثهم فيما بينهم، يقوم على الخير لا على الشر، وعلى الطاعة لا على المعصية، وعلى البر والتقوى لا على الإِثم والعدوان، حتى لا يتشبهوا بالمنافقين، الذين كانوا على النقيض من ذلك.
أى: يا من آمنتم بالله - تعالى - حق الإِيمان، { إِذَا تَنَاجَيْتُمْ } بأن أسر بعضكم إلى بعض حديثا { فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ ٱلرَّسُولِ } كما هو شأن المنافقين ومن على شاكلتهم فى الكفر والضلال.
{ وَتَنَاجَوْاْ } فيما بينكم { بِٱلْبِرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ } والبر ضد الإِثم والعدوان، وهو يعم جميع أفعال الخير التى أمر الله - تعالى - بها.
والتقوى: الامتثال لأمر الله - تعالى - وصيانة النفس عن كل مالا يرضاه.
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أى: وراقبوا الله - تعالى - فى كل أحوالكم، فإنه وحده يكون مرجعكم يوم القيامة، وسيبعثكم ويجمعكم للحساب والجزاء.
والمراد بالنجوى فى قوله - تعالى - بعد ذلك: { إِنَّمَا ٱلنَّجْوَىٰ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ.. }: نجوى المنافقين فيما بينهم، وهى التى عبر عنها - سبحانه - قبل ذلك بقوله:
{ وَيَتَنَاجَوْنَ بِٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ ٱلرَّسُولِ } }. فأل فى قوله - تعالى -: { ٱلنَّجْوَىٰ } للعهد، أى: إنما النجوى المعهودة التى كان يتناجى المنافقون بها فيما بينهم، كائنة من الشيطان لا من غيره، لأنه هو الذى حرضهم وأغراهم، بأن يتساروا بالإِثم والعدوان.
وقوله: { لِيَحْزُنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } قرأ الجمهور: { لِيَحْزُنَ } - بفتح الياء وضم الزاى - مضارع حزن، فيكون { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } فاعل، والحزن: الهم والغم.
أى: زين الشيطان للمنافقين هذه النجوى السيئة، لكى يحزن المؤمنون ويغتموا، بسبب ظنهم أن من وراء هذه النجوى أخبارا سيئة تتعلق بهم أو بذويهم.
وقرأ نافع { لِيُحْزِنَ } - بضم الياء وكسر الزاى - فيكون { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } مفعولا. أى: فعل الشيطان ما فعل مع المنافقين، لكى يدخل الحزن والغم على المؤمنين.
وأسند - سبحانه - النجوى إلى الشيطان، باعتبار أنه هو الذى يوسوس بها، ويزينها فى قلوب هؤلاء المنافقين وأشباههم.
وجملة: { وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } معترضة لتثبيت المؤمنين، وتسليتهم عما أصابهم من المنافقين.
واسم ليس: الشيطان أو التناجى، والاستثناء مفرغ من أهم الأحوال، و "شيئا" منصوب على المفعول المطلق.
أى: لا تحزنوا - أيها المؤمنون - لمسالك المنافقين معكم، ولا تخافوا من تناجيهم فيما بينهم، فإنها نجوى زينها لهم الشيطان، واعلموا أن كيد الشيطان لن يضركم شيئا من الضرر فى حال من الأحوال إلا فى حال إرادة الله - تعالى - ومشيئته.
وما دام الأمر كما بينت لكم، فاجعلوا توكلكم - أيها المؤمنون - على الله - تعالى - وحده، ولا تبالوا بالمنافقين، ولا بتناجيهم، ولا بما يسوله الشيطان لهم من قبائح، فإن كل شىء بقضاء الله وقدره.
قال الآلوسى ما ملخصه: وحاصل هذا الكلام أن ما يتناجى المنافقون به مما يحزن المؤمنين. إن وقع فهو إرادة الله - تعالى - ومشيئته، ولا دخل للمنافقين فيه، وما دام الأمر كذلك، فلا يكترث المؤمنون بتناجيهم، وليتوكلوا على الله - عز وجل - ولا يخافوا من تناجيهم.
ثم إن التناجى بين المؤمنين قد يكون منهيا عنه، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناجى اثنان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس من أجل أن ذلك يحزنه".
ومثل التناجى فى ذلك، أن يتكلم اثنان بحضور ثالث بلغة لا يفهمها الثالث، إن كان يحزنه ذلك.
وروى الإِمام مسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه، فإن ذلك يحزنه" .
والخلاصة أن تعاليم الإِسلام، تنهى عن التناجى فى الحالات التى توقع الريبة فى القلوب، وتزعزع الثقة بين الأفراد والجماعات.
وهذا النهى لون من الأدب الحكيم الذى يحفظ للمؤمنين مودتهم ومحبتهم ويبعد عن نفوسهم الشكوك والريب، ويطرد عن قلوبهم نزغات الشيطان الذى يجرى من ابن آدم مجرى الدم.
ثم لفت - سبحانه - أنظار المؤمنين إلى أدب رفيع فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلْمَجَالِسِ فَٱفْسَحُواْ يَفْسَحِ ٱللَّهُ لَكُمْ }.
وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها ما روى عن قتادة أنه قال: نزلت هذه الآية فى مجالس الذكر، وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلا، ضنوا بمجالسهم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض.
وقال مقاتل بن حيان:
"أنزلت هذه الآية يوم الجمعة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ فى الصفة، وفى المكان ضيق، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناس من أهل بدر وقد سُبِقوا فى المجالس فقاموا حيال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا السلام عليكم أيها النبى ورحمة الله وبركاته، فرد النبى - صلى الله عليه وسلم - عليهم ثم سلموا على القوم بعد ذلك، فردوا عليهم السلام، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم.
فعرف النبى - صلى الله عليه وسلم - ما يحملهم على القيام فلم يُفْسَح لهم، فشق ذلك عليه، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر: قم يا فلان، قم يا فلان.
فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف - صلى الله عليه وسلم - الكراهة فى وجوههم.
فقال المنافقون: ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء.. فبلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: رحم الله رجلا يفسح لأخيه فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعا"
، ونزلت هذه الآية.
وقوله { تَفَسَّحُواْ } من التفسح، وهو تفعل بمعنى التوسع، يقال: فسح فلان لفلان فى المجلس - من باب نفع - إذا أوجد له فسحة فى المكان ليجلس فيه.
والمعنى: يا من آمنتم بالله حق الإِيمان، إذا قيل لكم توسعوا فى مجالسكم لتسع أكبر قدر من إخوانكم فامتثلوا واستجيبوا. لأن فعلكم هذا يؤدى إلى أن يفسح الله - تعالى - لكم فى رحمته، وفى منازلكم فى الجنة، وفى كل شىء تحبونه.
وحذف - سبحانه - متعلق { يَفْسَحِ ٱللَّهُ لَكُمْ } ليشمل كل ما يرجو الناس أن يفسح الله لهم فيه من رزق، ورحمة، وخير دنيوى وأخروى.
والمراد بالمجالس: مجالس الخير، كمجالس الذكر، والجهاد، والصلاة، وطلب العلم، وغير ذلك من المجالس التى يحبها الله - تعالى-.
وقراءة الجمهور: "إذا قيل لكم تفسحوا فى المجلس"، بالإِفراد على إرادة الجنس.. أى: قيل لم تفسحوا فى أى مجلس خير فافسحوا.. لأن هذا التوسع يؤدى إلى ازدياد المحبة والمودة بينكم، وقرأ عاصم بصيغة الجمع.
ثم أرشدهم - سبحانه - إلى نوع آخر من الأدب السامى فقال: { وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَانشُزُواْ }.
والنشوز الارتفاع عن الأرض. يقال: نشَز ينشُز وينشِز - من بابى نصر وضرب - إذا ارتفع من مكانه.
أى: وإذا قيل لكم - أيها المؤمنون - أنهضوا من أماكنكم، للتوسعة على المقبلين عليكم، فانهضوا ولا تتكاسلوا.
وقوله: { يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } جواب الأمر فى قوله: { فَانشُزُواْ }.
وعطف "الذين أوتوا العلم" على "الذين آمنوا" من باب عطف الخاص على العام، على سبيل التعظيم والتنويه بقدر العلماء.
أى: وإذا قيل لكم ارتفعوا عن مواضعكم فى المجالس فارتفعوا، فإنكم إن تفعلوا ذلك، يرفع الله - تعالى - المؤمنين الصادقين منكم درجات عظيمة فى الآخرة، ويرفع العلماء منكم درجات أعظم وأكبر.
ويرى بعضهم أن المراد بالموصولين واحد، والعطف فى الآية لتنزيل التغاير فى الصفات، منزلة التغاير فى الذات.
والمعنى: يرفع الله الذين آمنوا العالمين درجات عظيمة لا يعلم مقدارها إلا الله - تعالى -.
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يدل على شمول علمه فقال: { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }.
أى: والله - تعالى - مطلع اطلاعا تاما على نواياكم، وعلى ظواهركم وبواطنكم، فاحذروا مخالفة أمره، واتبعوا ما أرشدكم إليه من أدب وسلوك.
هذا: ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة: أن إفساح المؤمن لأخيه المؤمن فى المجلس، من الآداب الإِسلامية التى ينبغى التحلى بها، لأن هذا الفعل بجانب رفعه للدرجات فإنه سبب للتواد والتعاطف والتراحم.
قال القرطبى ما ملخصه: والصحيح فى الآية أنها عامة فى كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير والأجر، سواء أكان مجلس حرب، أم ذكر، أم مجلس يوم الجمعة.. ولكن بدون أذى، فقد أخرج الشيخان عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه" .
وعن ابن عمر - "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يقام الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه آخر، ولكن تفسحوا وتوسعوا" .
وعلى أية حال فإن الآية الكريمة ترشد المؤمنين فى كل زمان ومكان، إلى لون من مكارم الأخلاق، ألا وهو التوسعة فى المجالس، وتقديم أهل العلم والفضل، وإنزالهم منازلهم التى تليق بهم فى المجالس.
كذلك أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة أنه يجوز القيام للقادم.
قال الإِمام ابن كثير: وقد اختلف الفقهاء فى جواز القيام للوارد إذا جاء - على أقوال: فمنهم من رخص فى ذلك محتجا بحديث:
"قوموا إلى سيدكم" .
ومنهم من منع من ذلك، محتجا بحديث: "من أحب أن يتمثل له الرجال قياما. فليتبوأ مقعده من النار" .
ومنهم من فصل فقال: يجوز القيام للقادم من سفر، وللحاكم فى محل ولايته، كما دل عليه قصة سعد بن معاذ، فإنه "لما استقبله البنى - صلى الله عليه وسلم - حاكما فى بنى قريظة، فرآه مقبلا قال للمسلمين: قوموا إلى سيدكم" ، وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه - والله أعلم -.
فأما اتخاذه - أى القيام - دينا، فإنه من شعار الأعاجم.. وفى الحديث المروى فى السنن
"أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجلس حيث انتهى به المجلس، ولكن حيث يجلس يكون صدر ذلك المجلس، وكان الصحابة يجلسون منه على مراتبهم، فالصديق عن يمينه، وعمر عن يساره، وبين يديه غالبا عثمان وعلى لأنهما كانا ممن يكتب الوحى، وكان يأمرهما بذلك..."
كذلك أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة، فضل العلماء وسمو منزلتهم.
قال صاحب الكشاف: عن عبد الله بن مسعود أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال: يأيها الناس افهموا هذه الآية، ولترغبكم فى العلم. وفى الحديث الشريف:
"بين العالم والعابد مائة درجة" وفى حديث آخر: "فضل العالم عل العابد، كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم" .
وعن بعض الحكماء أنه قال: ليت شعرى أى شىء أدرك من فاته العلم، وأى شىء فات من أدرك العلم.
وعن الأحنف: كل عز لم يوطد بعلم فإلى ذل يصير.
ثم أرشدهم - سبحانه - إلى لون ثالث من الأدب السامى، فناداهم للمرة الثالثة بقوله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
والمراد بقوله - تعالى - { إِذَا نَاجَيْتُمُ }: إذا أردتم المناجاة، كما فى قوله - تعالى -
{ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ } }. والمراد بقوله: { بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ } أى: قبل مناجاتكم للرسول - صلى الله عليه وسلم - بقليل، والكلام من باب الاستعارة التمثيلية. حيث شبهت هيئة قرب الشىء من آخر. بهيئة وصول الشخص إلى من يريد الوصول إليه، على سبيل تشبيه المعقول بالمحسوس.
واسم الإِشارة فى قوله: { ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ } يعود إلى تقديم الصدقة، والجملة بمنزلة التعليل للأمر بتقديمها.
والمعنى: يا من آمنتم بالله - تعالى - حق الإِيمان، إذا أردتم مناجاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والحديث معه فى أمر ما على سبيل السر، فقدموا صدقة للفقراء قبل مناجاته - صلى الله عليه وسلم - فذلك التقديم خير لكم لما فيه من الثواب، وأكثر طهرا لنفوسكم، فإن لم تجدوا شيئا تتصدقون به قبل مناجاتكم له - صلى الله عليه وسلم - فلا تحزنوا فإن الله - تعالى - واسع المغفرة والرحمة.
وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات، منها: ما جاء عن ابن عباس - رضى الله عنهما - أنه قال: نزلت بسبب أن المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه، فأراد الله - تعالى - أن يخفف عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - فلما نزلت هذه الآية، كف كثير من الناس، ثم وسع الله عليهم بالآية التى بعدها.
وقال بعض العلماء: إن هذا الأمر قد اشتمل على فوائد كثيرة:
منها: تعظيم أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإكبار شأن مناجاته، كأنها شىء لا ينال بسهولة.
ومنها: التخفيف عن النبى - صلى الله عليه وسلم - بالتقليل من المناجاة، حتى يتفرغ - صلى الله عليه وسلم - للمهام العظمى التى كلفه - سبحانه - بها.
ومنها: تهوين الأمر على الفقراء الذين قد يغلبهم الأغنياء على مجلس الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنهم إذا علموا أن قرب الأغنياء من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومناجاتهم له، تسبقها الصدقة، لم يضجروا.
ومنها: عدم شغل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما لا يكون مهما من الأمور، فيتفرغ للرسالة. فإن الناس وقد جبلوا على الشح بالمال، يقتصدون فى المناجاة التى تسبقها الصدقة.
ومنها: تمييز محب الدنيا من محب الآخرة، فإن المال محك الدواعى.
ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر لطفه بعباده فقال: { أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ }.
الإِشفاق معناه: أن يتوقع الإِنسان عدم حصوله على ما يريده والمراد به هنا: الخوف.
والاستفهام مستعمل فيما يشبه اللوم والعتاب، لتخلف بعضهم عن مناجاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسبب تقديم الصدقة.
و "إذ" فى قوله: { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ } ظرفية مفيدة للتعليل.
والمعنى: أخفتم - أيها المؤمنون - أن تقدموا قبل مناجاتكم للرسول - صلى الله عليه وسلم - صدقة فيصيبكم بسبب ذلك الفقر، إذا ما واظبتم على ذلك.
{ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ } أى: فحين لم تفعلوا ما كلفناكم به من تقديم الصدقة قبل مناجاتكم للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتاب الله - تعالى - عليكم، بأن رخص لكم فى هذه المناجاة بدون تقديم صدقة، وخفف عنكم ما كان قد كلفكم به - سبحانه - والفاء فى قوله: { فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } معطوفة على كلام محذوف.
أى: فحين خففنا عنكم الصدقة - بفضلنا ورحمتنا - فداوموا على إقامة الصلاة، وعلى إعطاء الزكاة لمستحقيها، وأطيعوا الله ورسوله، فى كل ما أمركم به أو نهاكم عنه.
واعلموا أن الله - تعالى - خبير بما تعملون، ولا يخفى عليه شىء من أقوالكم أو أفعالكم، وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.
وقد ذكر المفسرون أن هذه الآية ناسخ للتى قبلها، لأنها أسقطت وجوب تقديم الصدقة الذى أمرت به الآية السابقة.
وقد لخص الإِمام الآلوسى كلام العلماء فى هذه المسألة تلخيصا حسنا فقال: "واختلف فى أن الأمر للندب أو للوجوب، لكنه نسخ بقوله - تعالى - : { أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ... } وهو وإن كان متصلا به تلاوة، لكنه غير متصل به نزولا. وقيل نسخ بآية الزكاة. والمعول عليه الأول.
ولم يعين مقدار الصدقة، ليجزىء القليل والكثير. أخرج الترمذى عن على بن أبى طالب قال: لما نزلت { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً.... }.
قال لى النبى : - صلى الله عليه وسلم -
"ما ترى فى دينار قلت: لا يطيقونه قال: نصف دينار قلت: لا يطيقونه، قال: فكم؟ قلت: شعيرة. قال: فإنك لزهيد" .
فلما نزلت: { أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ... } قال - صلى الله عليه وسلم -: "خفف الله عن هذه الأمة" ولم يعمل بها - على المشهور - غير على - كرم الله وجهه.
واختلف فى مدة بقاء هذا الأمر. أى: الأمر بتقديم الصدقة: فعن مقاتل: عشرة أيام.
وقال قتادة: ساعة من نهار....
قال بعض العلماء: "والآية الناسخة متأخرة فى النزول، وإن كانت تالية للآية المنسوخة فى التلاوة.
والظاهر - والله أعلم - أن الحادثة من باب الابتلاء والامتحان، ليظهر للناس محب الدنيا من محب الآخرة، والله بكل شىء عليم".
وقال أحد العلماء: "ولا يشتم من قوله - تعالى -: { أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ... }. أن الصحابة قد وقع منهم تقصير. فإن التقصير إنما يكون إذا ثبت أنه كانت هناك مناجاة لم تصحبها صدقة، والآية قالت: { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ } أى: ما أمرتم به من الصدقة، وقد يكون عدم الفعل، لأنهم لم يناجوا، فلا يكون عدم الفعل تقصيرا.
وأما التعبير بالإِشفاق من جانبهم، فلا يدل على تقصيرهم، فقد يكون الله - تعالى - علم - أن كثيرا منهم استكثر التصدق عند كل مناجاة فى المستقبل لو دام الوجوب، فقال الله - تعالى - لهم { أَأَشْفَقْتُمْ }.
وكذلك ليس فى قوله { وَتَابَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ } ما يدل على أنهم قصروا، فإنه يحمل على أن المعنى أنه تاب عليهم برفع التكليف عنهم تخفيفا، ومثل هذا يجوز أن يعبر عنه بالتوبة...".
ثم تعود السورة مرة أخرى إلى الحديث عن المنافقين وأشباههم، فتصور أحوالهم، وتبين سوء مصيرهم، وتكشف القناع عن الأسباب التى أدت بهم إلى الخسران والهلاك فقال - تعالى -: { أَلَمْ تَرَ إِلَى... }.