التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٦
مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ ٱلأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٧
لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ
٨
وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
٩
وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ
١٠
-الحشر

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله: { وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ... } معطوف على قوله - تعالى -: { مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ... } لبيان نعمة أخرى من النعم التى أنعم بها - سبحانه - على المؤمنين، فى غزوة بنى النضير.
و { أَفَآءَ } من الفىء بمعنى الرجوع، يقال: فاء عليه، إذا رجع، ومنه قوله - تعالى - فى شأن الإِيلاء:
{ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } والمراد به هنا معناه الشرعى: وهو ما حصل عليه المؤمنون من أموال أعدائهم بدون قتال، كأن يكون هذا المال عن طريق الصلح، كما فعل بنو النضير، فقد صالحوا المؤمنين على الخروج من المدينة، على أن يكون لكل ثلاثة منهم حمل بعير - سوى السلاح - وأن يتركوا بقية أموالهم للمسلمين.
والضمير فى قوله { مِنْهُمْ } يعود إلى بنى النضير، الذى عبر - سبحانه - عنهم بقوله:
{ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ... } وقوله: { فَمَآ أَوْجَفْتُمْ... } من الإِيجاف بمعنى الإِسراع فى السير يقال: وجَفَ الفرس يجِف وجَفا ووجيفا، إذا أسرع فى سيره. والجملة خبر "ما" الموصولة فى قوله: { وَمَآ أَفَآءَ... } و { مَآ } فى قوله { فَمَآ أَوْجَفْتُمْ } نافية.
والركاب: اسم جمع للإِبل التى تركب، وفى الكلام حذف أغنى عنه قوله - سبحانه -: { فَمَآ أَوْجَفْتُمْ... }.
والمعنى: أعلموا - أيها المؤمنون - أن ما أعطاه الله - تعالى - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - من أموال بنى النضير التى صالحوه عليها، فلا حق لكم فيها لأنكم لم تنالوها بقتالكم لهم على الخيل أو الإِبل، وإنما تفضل بها - سبحانه - على نبيه - صلى الله عليه وسلم - بلا قتال يذكر، فقد كانت ديار بنى النضير على بعد ميلين من المدينة، فذهب إليها المسلمون راجلين، وحاصروها حتى تم استسلام بنى النضير لهم..
قال الآلوسى: روى أن بنى النضير لما أجلوا عن أوطانهم، وتركوا رباعهم وأموالهم. طلب المسلمون تخميسها كغنائم بدر، فأنزل الله - تعالى -: { وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ... } فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة.
فقد أخرج البخارى، ومسلم، وأبو داود، والترمذى، والنسائى، وغيرهم عن عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - قال: كانت أموال بنى النضير، مما أفاء الله - تعالى -: على رسوله - صلى الله عليه وسلم - مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، وكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة، ثم يجعل ما بقى فى السلاح والكراع عدة فى سبيل الله - تعالى -.
وقال الضحاك: كانت أموال بنى النضير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة، فآثر بها المهاجرين. وقسمها عليهم، ولم يعط الأنصار منها شيئا، إلا ثلاثة منهم أعطاهم لفقرهم...
وقوله - سبحانه -: { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ... } استدراك على النفى فى قوله - تعالى -: { فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ... }.
أى: ليس لكم الحق - أيها المؤمنون - فى أموال بنى النضير، لأنكم لم تظفروا بها عن طريق قتال منكم لهم، ولكن الله - تعالى - سلط رسوله - صلى الله عليه وسلم - عليهم وعلى ما فى أيديهم، كما كان يسلط رسله على من يشاء من أعدائهم، والله - تعالى - قدير على كل شىء..
وما دام الأمر كذلك، فاتركوا رسولكم - صلى الله عليه وسلم - يتصرف فى أموال بنى النضير بالطريقة التى يريدها ويختارها بإلهام من الله - عز وجل -.
وقوله - تعالى -: { مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ... } يرى كثير من العلماء أنه وارد على سبيل الاستئناف الابتدائى، وأنه سيق لبيان حكم شرعى جديد، يختلف عن الحكم الذى أوردته الآية السابقة على هذه الآية..
إذ أن الاية السابقة، واردة فى حكم أحوال بنى النضير بصفة خاصة، وهذه فى حكم الفىء بعد ذلك بصفة عامة.
وعليه يكون المعنى: لقد بينت لكم - أيها المؤمنون - حكم أموال بنى النضير، وهى أنها لرسولنا - صلى الله عليه وسلم - يضعها حيث شاء.
أما ما أفاءه الله - تعالى - على رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أموال أهل القرى الأخرى، كقريظة وفدك وغيرهما فحكم هذا الفىء أنه يقسم إلى خمسة أقسام:
قسم للرسول - صلى الله عليه وسلم - ينفق منه على نفسه وأهله وما تبقى منه يكون فى مصالح المسلمين.
وقسم لأقاربه - صلى الله عليه وسلم - وهم: بنو هاشم وبنو المطلب..
وقسم لليتامى: وهم أطفال المسلمين الذين مات آباؤهم عنهم قبل أن يبلغوا.
وقسم للمساكين: وهم الذين ليس لهم مال يكفيهم ضررويات الحياة.
وقسم لأبناء السبيل: وهم المسافرون المنقطعون عن مالهم فى سفرهم، ولو كانوا أغنياء فى بلدهم..
وقد رجح الإِمام ابن جرير هذا الرأى، فقال بعد استعراضه للأقوال: والصواب من القول فى ذلك عندى أن هذه الآية حكمها غير حكم الآية التى قبلها وذلك أن الآية التى قبلها، مال جعله الله - عز وجل - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - خاصة دون غيره. لم يجعل فيه لأحد نصيبا..
فإذا كانت هذه الآية التى قبلها مضت، وذكر المال الذى خص الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولم يجعل لأحد منه شيئا، وكانت هذه الآية خبرا عن المال الذى جعله الله لأصناف شتى، كان معلوما بذلك أن المال الذى جعله لأصناف من خلقه. غير المال الذى جعله للنبى - صلى الله عليه وسلم -.
وقال الآلوسى عند تفسيره لهذه الآية ما مخلصه: قوله - تعالى -: { مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ... } بيان لحكم ما أفاءه الله على رسوله من قرى الكفار على العموم، بعد بيان حكم ما أفاءه من بنى النضير..
فالجملة جواب سؤال مقدر ناشىء مما فهم من الكلام السابق، فكأن قائلا يقول: قد علمنا حكم ما أفاءه الله - تعالى - من بنى النضير، فما حكم ما أفاء الله - عز وجل - من غيرهم؟..
فقيل: ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذى القربى. ولذا لم يعطف على ما تقدم، ولم يذكر فى الآية قيد الإِيجاف ولا عدمه..
وسهمه - سبحانه - وسهم رسوله واحد، وذكره - تعالى -: افتتاح كلام للتيمن والتبرك. فإن لله ما فى السموات وما فى الأرض، وفيه تعظيم لشأن الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وأهل القرى المذكورون فى الآية هم: أهل الصفراء، وينبع، ووادى القرى، وما هنالك من قرى العرب، التى تسمى قرى عرينة، وحكمها مخالف لحكم أموال بنى النضير.
ومن العلماء من يرى أن الآية التى معنا، بمنزلة البيان والتفسير للآية التى قبلها، لأن الآية الأولى لم تبين المستحقين للفىء الذى أفاءه الله - تعالى - على رسوله من أموال بنى النضير، فجاءت الآية الثانية وبينت المستحقين له.
وعلى رأس المفسرين الذين قالوا بهذا الرأى صاحب الكشاف، فقد قال عند تفسيره لهذه الآية: لم يدخل - سبحانه - العاطف على هذه الجملة - وهى قوله: { مَّآ أَفَآءَ... } - لأنها بيان للأولى، فهى منها غير أجنبية عنها. بين لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ما يصنع بما أفاءه الله عليه، وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم، مقسوما على الأقسام الخمسة.
وقال الإِمام ابن كثير: قوله - تعالى -: { مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ }: أى جميع البلدان التى تفتح هكذا، فحكمها حكم أموال بنى النضير، ولهذا قال: { فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ }. فهذه مصارف أموال الفىء ووجوهه...
ومن هذا نرى أن أصحاب الرأى الأول، يقولون: إن الآيتين فى حكمين مختلفين، لأن الآية الأولى فى بيان حكم أموال بنى النضير، وأن الله - تعالى - قد جعلها للرسول - صلى الله عليه وسلم - يضعها حيث يشاء، وأما الآية الثانية فهى فى حكم أموال القرى الأخرى التى أفاءها الله - تعالى - على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن الله - تعالى - قد حدد له وجوه صرفها، فقال: { فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ... }.
وأما أصحاب الرأى الثانى فيرون أن الآية الثانية مفصلة لما أجملته الآية الأولى، وأن كل فىء يقسم بالطريقة التى بينتها الآية الثانية.
ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب، لأن الثابت فى السنة الصحيحة: أن أموال بنى النضير، لم يخمسها - صلى الله عليه وسلم - بل كانت له خاصة، يوزعها كما يشاء، وقد آثر بها المهاجرين، وقسمها عليهم: ولم يعط الأنصار منها شيئا سوى ثلاثة رجال منهم، كانت بهم حاجة فأعطاهم، وبذلك نرى أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يتقيد فى التوزيع لهذه الأموال، بمن ورد ذكرهم فى الآية الثانية.
وما دام الأمر كذلك، فلا حاجة إلى القول بأن الآية الثانية، ببيان وتفصيل للآية الأولى.
هذا وهناك أقوال أخرى فى معنى هذه الآية، مبسوطة فى كتب الفقه والتفسير، فليرجع إليها من شاء المزيد من الأحكام الفقهية...
وقوله - سبحانه -: { كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ ٱلأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ... } بيان لحكمة هذا التشريع الذى شرعه - سبحانه - بالنسبة للأموال التى أتت عن طريق الفىء.. والضمير المستتر فى قوله: { يَكُونَ } للفىء.
و "الدُّولة" بضم الدال المشددة اسم لما يتداوله الناس فيما بينهم من أموال، فيكون فى يد هذا تارة، وفى يد ذاك تارة أخرى.
والدَّولة - بفتح الدال المشددة - اسم للنوبة من الظفر والنصر فى الحرب وغيرها.
يقال: لفلان على فلان دولة، أى: غلبة ونصر.
وبعضهم يرى أن الدولة - بالضم والفتح - بمعنى واحد، وهو ما يدور ويدول للإِنسان من الغنى والنصر.
والمعنى: شرعنا لكم هذه الأحكام المتعلقة بتقسيم الفىء، كى لا يكون المال الناجم عنه، متداولا بين أيدى أغنيائكم دون فقرائكم.
والمقصود بهذه الجملة الكريمة، إبطال ما كان شائعا فى الجاهلية، من استئثار قواد الجيوش، ورؤساء القبائل، بالكثير من الغنائم دون غيرهم ممن اشترك معهم فى الحروب، كما قال أحد الشعراء، لأحد الرؤساء أو القادة:

لك المِربَاع منها والصفاياوحُكْمُك والنَّشيِطةُ والفُضُول

أى: لك - أيها القائد وحدك - من الغنيمة ربعها، والصفايا أى: والنفيس منها، ولك - أيضا ما تحكم به على العدو، ولك النشيطة، وهى ما يصيبه الجيش من العدو قبل الحرب، ولك - كذلك - الفضول، أى: ما يبقى بعد قسمة الغنائم.
وقد أبطل الإِسلام كل ذلك، حيث جعل مصارف الفىء، تعود إلى المسلمين جميعا، بطريقة عادلة، بينها - سبحانه - فى هذه الآية وفى غيرها..
قال بعض العلماء: والجدير بالذكر هنا: أن دعاة المذاهب الاقتصادية الفاسدة، يحتجون بهذه الآية على مذهبهم الفاسد، ويقولون: ويجوز للدولة أن تستولى على مصادر الإِنتاج ورءوس الأموال، لتعطيها أو تشرك فيها الفقراء، وما يسمونهم طبقة العمال، وهذا على ما فيه من كساد اقتصادى، وفساد اجتماعى، قد ثبت خطؤه وظهر بطلانه مجانبا لحقيقة الاستدلال.
لأن هذا المال ترك لمرافق المسلمين العامة، من الإِنفاق على المجاهدين، وتأمين الغزاة فى الحدود والثغور، وليس يعطى للأفراد كما يقولون، ثم - هو أساسا - مال جاء غنيمة للمسملين، وليس نتيجة كدح الفرد وكسبه الحلال.
ولما كان مال الغنيمة ليس ملكا لشخص، ولا هو - أيضا - كسب لشخص معين، تحقق فيه العموم فى مصدره، وهو الغنيمة، والعموم فى مصرفه وهو عموم مصالح الأمة، ولا دخل ولا وجود للفرد فيه، فشتان بين هذا الأصل فى التشريع، وهذا الفرع فى التضليل...
ثم أمر - سبحانه - المسلمين أن يمتثلوا أمر رسولهم - صلى الله عليه وسلم - امتثالا تاما، فقال: { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }.
وقوله: { آتَاكُمُ } من الإِتيان، والمقصود به هنا ما جاءهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من هدايات وتشريعات، وآداب. ويدخل فى ذلك دخولا أوليا قسمته لفىء بنى النضير بين المهاجرين، دون الأنصار.
أى: ما أمركم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بفعله - أيها المؤمنون - فافعلوه، وما نهاكم عن فعله فاجتنبوه، واتقوا الله فى كل أحوالكم، فإنه - سبحانه - شديد العقاب لمن خالف أمره. ومنهم من جعل { آتَاكُمُ } هنا بمعنى أعطاكم من الفىء، وجعل { نَهَاكُمْ } بمعنى نهاكم عن الأخذ منه، وكأن صاحب هذا الرأى يستعين على ما ذهب إليه بفحوى المقام.
قال صاحب الكشاف: قوله: { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ } من قسمة غنيمة أو فىء فخذوه وما نهاكم عنه، أى: عن أخذه منه { فَٱنتَهُواْ } عنه.
والأجود أن يكون - الأمر والنهى - عاما فى كل ما آتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونهى عنه، أمر الفىء داخل فى عمومه...
وقال الإِمام ابن كثير: وقوله - تعالى -: { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ }.
أى: مهما أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمر بخير، وينهى عن شر.
أخرج الشيخان عن ابن مسعود أنه قال: لعن الله الواشمات والمستشومات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، والمغيرات لخلق الله - عز وجل - فبلغ ذلك امرأة من بنى أسد يقال لها أم يعقوب، وكان يقرأ القرآن، فأتته فقالت بلغنى انك قلت كذا وكذا، فقال: ومالى لا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو فى كتاب الله.
فقالت لقد قرأت ما بين لوحى المصحف فما وجدته. فقال: إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه، أما قرأت: { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ }؟ قالت: بلى.
قال: فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه. قالت: إنى لأظن أهلك يفعلونه!!..
قال: اذهبى فانظرى، فذهبت فلم تر من حاجتها شيئا. فجاءت فقالت: ما رأيت شيئا. قال: لو كان كذا لم تجامعنا...
وقال بعض العلماء وفى الآية دليل على وجوب الأخذ بالسنن الصحيحة فى كل الأمور.
وعن أبى رافع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدرى!! ما وجدنا فى كتاب الله اتبعناه.." .
وهذا الحديث من أعلام النبوة، فقد وقع ذلك بعدُ من الجاهلين بكتاب الله، وبمنصب الرسالة، ومن الزنادقة الصادين عن سبيل الله...
ثم أثنى - سبحانه - على المهاجرين الذين فارقوا أموالهم وعشيرتهم، من أجل إعلاء كلمته - تعالى - فقال: { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ }.
قال الإِمام الرازى: اعلم أن هذا بدل من قوله - تعالى -: { وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ... } كأنه قيل: أعنى بأولئك الأربعة، هؤلاء الفقراء المهاجرين الذين من صفتهم كذا وكذا.
ثم إنه - تعالى - وصفهم بأمور، أولها: أنهم فقراء، ثانيها: أنهم مهاجرون وثالثها: أنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم، يعنى أن الكفار أجبروهم على الخروج.. ورابعها: أنهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا، والمراد بالفضل ثواب الجنة، وبالرضوان: قوله:
{ وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ أَكْبَرُ } وخامسها: قوله: { وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } أى: بأنفسهم وأموالهم.
وسادسها: قوله: { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } يعنىأنهم لما هجروا لذَّات الدنيا وتحملوا شدائدها لأجل الدين، ظهر صدقهم فى دينهم...
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف المهاجرين فى سبيله، بجملة من المناقب الحميدة. التى استحقوا بسببها الفلاح والفوز برضوان الله.
ثم مدح - سبحانه - بعد ذلك الأنصار، الذين يحبون من هاجر إليهم فقال: { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ }.
والجملة الكريمة معطوفة على { الْمُهَاجِرِينَ } أو مبتدأ وخبره: { يُحِبُّونَ } والتبوؤ: النزول فى المكان، ومنه المباءة للمنزل الذى ينزل فيه الإِنسان.
والمراد بالدار: المدينة المنورة، وأل للعهد. أى: الدار المعهودة المعروفة وهى دار الهجرة.
وقوله: { وَٱلإِيمَانَ } منصوب بفعل مقدر، أى: وأخلصوا الإِيمان.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما معنى عطف الإِيمان على الدار، ولا يقال: تبوأوا الإِيمان؟..
قلت معناه: تبوأوا الدار وأخلصوا الإِيمان. كقوله: علفتها تبنا وماء باردا.
أى: وجعلوا الإِيمان مستقرا ومتوطنا لهم، لتمكنهم منه، واستقامتهم عليه، كما جعلوا المدينة كذلك.
أو أراد: دار الهجرة ودار الإِيمان، فأقام لام التعريف فى الدار مقام المضاف إليه، وحذف المضاف من دار الإِيمان، ووضع المضاف إليه مقامه..
أو سمى المدينة - لأنها دار الهجرة، ومكان ظهور الإِيمان - بالإِيمان..
وقوله: { مِن قَبْلِهِمْ } أى: من قبل المهاجرين، وهو متعلق بقوله { تَبَوَّءُوا }.
وقوله: { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } خبر لمبتدأ، أو حال من الذين تبوأوا الدار..
أى: هذه هى صفات المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم... وهذا هو جزاؤهم..
أما الذين سكنوا دار الهجرة وهى المدينة المنورة، من قبل المهاجرين، وأخلصوا إيمانهم وعبادتهم لله - تعالى-، فإن من صفاتهم أنهم يحبون إخوانهم الذين هاجروا إليهم حبا شديدا، لأن الإِيمان ربط قلوبهم برباط المودة والمحبة. وقوله: { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ } صفة أخرى من صفات الأنصار.
ومعنى: { يَجِدُونَ } هنا: يحسون ويعلمون، والضمير للأنصار، وفى قوله { أُوتُواْ } للمهاجرين. والحاجة فى الأصل: اسم مصدر بمعنى الاحتياج، أى الافتقار إلى الشىء.
والمراد بها هنا: المأرب أو الرغبة الناشئة عن التطلع إلى ما منحه النبى - صلى الله عليه وسلم - للمهاجرين دون الأنصار، من فىء أو غيره.
أى: أن من صفات الأنصار - أيضا - أنهم لا تتطلع نفوسهم إلى شىء مما أعطى للمهاجرين من الفىء أو غيره، لأن المحبة التى ربطت قلوب الأنصار بالمهاجرين، جعلت الأنصار يرتفعون عن التشوف إلى شىء مما أعطاه النبى - صلى الله عليه وسلم - المهاجرين وحدهم..
ثم وصفهم - سبحانه - بصفة ثالثة كريمة فقال: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ... }.
والإِيثار معناه: أن يؤثر الإِنسان غيره على نفسه، على سبيل الإِكرام والنفع، والخصاصة: شدة الحاجة، وأصلها من خصاص البيت، وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج والفتحات.
أى: أن من صفات الأنصار أنهم كانوا يقدمون فى النفع إخوانهم المهاجرين على أنفسهم، ولو كانوا فى حاجة ماسة، وفقر واضح، إلى ما يقدمونه لإِخوانهم المهاجرين.
ولقد ضرب الأنصار - رضى الله عنهم - أروع الأمثال وأسماها فى هذا المضمار، ومن ذلك ما رواه الشيخان والترمذى والنسائى وغيرهم عن أبى هريرة قال:
"أتى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أصابنى الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد شيئا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلةرحمه الله ؟ فقام رجل من الأنصار - وفى رواية أنه أبو طلحة - فقال: أنا يا رسول الله، فذهب به إلى أهله، فقال لامرأته: أكرمى ضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: والله ما عندى إلا قوت الصيبة!! قال: إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالى فأطفئى السراج، ونطوى بطوننا الليلة لضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففعلت.
ثم غدا الضيف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة وأنزل الله فيهما: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ... }."
وقوله - سبحانه -: { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } تذييل قصد به حض الناس على التحلى بفضيلة السخاء والكرم.
والشح: يرى بعضهم أنه بمعنى البخل، ويرى آخرون أن الشح غريزة فى النفس تحملها على الإِمساك والتقتير، وأما البخل فهو المنع ذاته، فكأن البخل أثر من آثار الشح.
قال صاحب الكشاف: "الشح" - بالضم والكسر قد قرئ بهما -: اللؤم، وأن تكون نفس المرء كزة حريصة على المنع كما قال الشاعر:

يمارس نفسا بين جنبيه كَزَّةًإذا هَمَّ بالمعروف قالت له مهلا

وقد أضيف إلى النفس لأنه غريزة فيها، وأما البخل فهو المنع نفسه، ومنه قوله - تعالى -: { وَأُحْضِرَتِ ٱلأنْفُسُ ٱلشُّحَّ... } أى: ومن يوق - بتوفيق الله وفضله - شح نفسه وحرصها على الإِمساك، فيخالفها فيما تأمره به من المنع والتقتير. فأولئك الذين يخالفونها هم المفلحون، الفائزون برضا الله - عز وجل -.
ومن الأحاديث التى وردت فى النهى عن الشح، ما أخرجه مسلم - فى صحيحه - عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم" .
ثم مدح - سبحانه - كل من سار على نهج المهاجرين والأنصار فى قوة الإِيمان، وفى طهارة القلب، وسماحة النفس فقال - تعالى -: { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ... }.
قال الآلوسى: قوله: { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ... } عطف عند الأكثرين أيضا على المهاجرين، والمراد بهؤلاء: قيل: الذين هاجروا حين قوى الإِسلام، فالمجىء حسى، وهو مجيئهم إلى المدينة، وضمير من بعدهم، للمهاجرين الأولين.
وقيل هم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة، فالمجىء إما إلى الوجود أو إلى الايمان وضمير { مِن بَعْدِهِمْ } للفريقين: المهاجرين والأنصار.
وهذا هو الذى يدل عليه كلام عمر - رضى الله عنه - وكلام كثير من السلف كالصريح فيه، فالآية قد استوعبت جميع المؤمنين...
ويبدو لنا أن هذا الرأى الثانى، وهو كون الذين جاءوا من بعدهم يشمل المؤمنين الصادقين جميعا، أقرب إلى الصواب، لأنهم هم التابعون بإحسان للمهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة، كما قال - تعالى -:
{ وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ... } وعليه يكون المعنى: والذين جاءوا من بعد المهاجرين والأنصار، واتبعوهم بإحسان إلى يوم القيامة { يَقُولُونَ } على سبيل الدعاء لأنفسهم ولإِخوانهم فى العقيدة، { رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا } أى: يا ربنا اغفر لنا ذنوبنا، واغفر، لإِخواننا فى الدين { ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإِيمَانِ } فهم أسبق منا إلى الخير والفضل.. { وَلاَ تَجْعَلْ } يا ربنا { فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ } أى: حسدا وحقدا { لِّلَّذِينَ آمَنُواْ } أى: يا ربنا لا تجعل فى قلوبنا أى غل أو حسد لإِخواننا المؤمنين جميعا.
{ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } أى: يا ربنا إنك شديد الرأفة بعبادك واسع الرحمة بهم.
وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة، أن من حق الصحابة - رضى الله عنهم - على من جاءوا بعدهم، أن يدعوا لهم، وأن ينزلوهم فى قلوبهم منزلة الاحترام والتبجيل والتكريم..
ورحم الله الإِمام القرطبى فقد أفاض فى بيان هذا المعنى، فقال ما ملخصه: قوله - تعالى -: { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ... } يعنى التابعين، ومن دخل فى الإِسلام إلى يوم القيامة.
قال ابن أبى ليلى: الناس على ثلاثة منازل: المهاجرون، والذين تبوأوا الدار والإِيمان، والذين جاءوا من بعدهم، فاجتهد ألا تخرج من هذه المنازل.
وهذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة..
وقال الإِمام الرازى: واعلم أن هذه الآيات قد استوعبت جميع المؤمنين لأنهم إما المهاجرون، أو الأنصار، أو الذين جاءوا من بعدهم، وبين أن من شأن من جاء من بعد المهاجرين والأنصار، أن يذكر السابقين، وهم المهاجرون والأنصار بالدعاء والرحمة، فمن لم يكن كذلك، بل ذكرهم بسوء كان خارجا من جملة أقسام المؤمنين، بحسب نص هذه الآية...
وبعد أن رسمت السورة الكريمة، تلك الصورة الوضيئة للمهاجرين والأنصار والذين ابتعوهم بإحسان.. بعد كل ذلك أخذت فى رسم صورة أخرى، متباينة تمام المباينة مع صورة هؤلاء الصادقين، ألا وهى صورة المنافقين، الذين انضموا إلى كل مناوئ للدعوة الإِسلامية، فقال - تعالى -: { أَلَمْ تَرَ... }.