التفاسير

< >
عرض

ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَ ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ
١
هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىۤ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ
٢
وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَفِي ٱلأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ
٣
-الأنعام

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

افتتحت سورة الأنعام بتقرير الحقيقة الأولى فى كل دين، وهى أن المستحق للحمد المطلق، والثناء الكامل هو رب العالمين.
والحمد: هو الثناء باللسان على الجميل الصادر عن اختيار من نعمة أو غيرها.
وأل فى { ٱلْحَمْدُ } للاستغراق، بمعنى أن المستحق لجميع المحامد ولكافة ألوان الثناء هو الله تعالى، وإنما كان الحمد مقصورا فى الحقيقة على الله، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء فهو صادر عنه ومرجعه إليه، إذ هو الخالق لكل شىء، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم، فهو فى الحقيقة حمد لله، لأنه - سبحانه - هو الذى وفقهم لذلك، وأعانهم عليه.
وقد بين بعض المفسرين الحكمة فى ابتداء السورة الكريمة بقوله تعالى: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } كما بين الفرق بين المدح والحمد والشكر فقال: "اعلم أن المدح أعم من الحمد، والحمد أعم من الشكر، أما بيان أن المدح أعم من الحمد، فلأن المدح يحصل للعاقل ولغير العاقل، ألا ترى أنه كما يحسن مدح الرجل العاقل على أنواع فضائله فكذلك قد يمدح اللؤلؤ لحسن شكله، وأما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإِنعام والإِحسان فثبت أن المدح أعم من الحمد، وأما بيان أن الحمد أعم من الشكر فلأن الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإِنعام سواء كان ذلك الإِنعام واصلا إليك أو إلى غيرك، وأما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك فثبت بما ذكرنا أن المدح أعم من الحمد وهو أعم من الشكر. إذا عرفت هذا فنقول: إنما لم يقل المدح لله لأننا بينا أن المدح كما يحصل للفاعل المختار فقد يحصل لغيره. أما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار، فكان قوله الحمد لله تصريحا بأن المؤثر فى وجود هذا العالم فاعل مختار خلقه بالقدرة والمشيئة. وإنما لم يقل الشكر لله، لأنا بينا أن الشكر عبارة عن تعظيمه بسبب إنعام صدر منه ووصل إليك، وهذا مشعر بأن العبد إذا ذكر تعظيمه بسبب ما وصل إليه من النعمة، فحينئذ يكون المطلوب الأصلى له وصول النعمة إليه وهذه درجة حقيرة فأما إذا قال الحمد لله فهذا يدل على أن العبد حمده لأجل كونه مستحقا للحمد لا لخصوص أنه - تعالى أوصل النعمة إليه، فيكون الإِخلاص أكمل، واستغراق القلب فى مشاهدة نور الحق أتم، وانقطاعه عما سوى الحق أقوى وأثبت".
هذا وفى القرآن الكريم خمس سور مكية اشتركت فى الافتتاح بتقرير أن الحمد لله وحده، ولكن كان لكل سورة منهج خاص فى بيان أسباب ذلك الحمد.
أما السورة الأولى فهى سورة الفاتحة التى تقول فى مطلعها
{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أى: أن الحمد لله وحده، الذى ربى هذا العالم تربية خلقية أساسها الإِيجاد والتصوير، ورباه تربية عقلية أساسها منح قوة التفكير والإِدراك، كما أنه رباه تربية تشريعية قوامها الأحكام التى أوحى بها إلى رسله فتربط استحقاق الحمد لله بربوبيته للعالمين، والربوبية المطلقة تنتظم التربية الخلقية جسمية وعقلية، عن طريق الإِيجاد والتصوير، كما تنتظم التربية التشريعية التى أساسها الأحكام التى أوحاها الله إلى أنبيائه ورسله.
وتجىء بعد سورة الفاتحة فى الترتيب المصحفى سورة الأنعام فأثبتت أيضاً استحقاق الحمد لله وحده، لأنه "خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، فهى تهتم بالحديث عن نوع خاص من التربية، وهو التربية الخلقية التى أساسها الخلق والإِيجاد والتسوية والتصوير الحقيقى.
ثم تجىء بعدهما سورة "الكهف" فتثبت أن الحمد لله، لأنه
{ أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } فتراها تهتم بإبراز التربية التشريعية التى تهذب الروح، وتهدى الفكر.
والسورة الرابعة التى افتتحت بإثبات أن { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } هى سورة سبأ، لأنه - سبحانه -
{ لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلآخِرَةِ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ } ثم تراها بعد ذلك زاخرة بالحديث عن أنواع التربية المطلقة التى تتجلى فى ارساء مظاهر علم الله الشامل، وملكه المطلق، وتدبيره المحكم وقدرته النافذة التى تجعله أهلا لكل حمد وثناء.
أما السورة الخامسة فهى سورة فاطر، فقد أثبتت فى مطلعها أن الحمد لله، لأنه
{ فَاطِرِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِيۤ أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } والذى يقرا هذه السورة الكريمة بتدبير يراها تهتم بإبراز إثبات أن الحمد لله وحده عن طريق الجمع بين التربيتين الخلقية والتشريعية فهى تذكر خلق السماوات والأرض والجبال وتصريف الليل والنهار والشمس والقمر. كما تذكر أنواع الناس فى الانتفاع بوحى الله، وبهدى أنبيائه ورسله.
وهكذا نجد أن السور الخمس قد اشتركت فى أنها افتتحت بجملة { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } وفى قصر الحمد والثناء عليه وحده. إلا أن كل واحدة منها قد سلكت منهجا خاصا فى تقرير هذه الحقيقة، وفى إقامة الأدلة على صدقها.
وقد أحسن القرطبى عندما قال: "فإن قيل: قد افتتح غيرها - أى سورة الأنعام - بالحمد لله فكان الاجتزاء بواحدة يغنى عن سائره فيقال: لأن لكل واحدة منه معنى فى موضعه، لا يؤدى عن غيره من أجل عقده بالنعم المختلفة، وأيضاً فلما فيه من الحجة فى هذا الموضع على الذين هم بربهم يعدلون".
ثم بين القرآن بعد ذلك الأسباب التى تحمل العقلاء على أن يجعلوا حمدهم كله لله - تعالى - فقال:
{ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَاتِ وَٱلنُّورَ }.
والمعنى: الحمد كله لله الذى أنشأ بقدرته هذه العوالم العلوية والسفلية، وأوجد ما فيها من مخلوقات ناطقة وصامتة، وظاهرة وخافية، وأحدث ما يتعاقب عليها من تحولات وتقلبات ونور وظلمات. فالجملة الكريمة قد اشتملت على صفتين من صفات الله - تعالى - تثبتان وجوب استحقاق الحمد الكامل لله - عز وجل - وهما خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور.
وعبر - سبحانه - فى جانب السماوات والأرض بخلق، وفى جانب الظلمات والنور بجعل، لأن الخلق معناه هنا الإنشاء والإِيجاد الابتدائي من العدم، أما الجعل فيتضمن معنى تكوين شىء من شىء أو من أشياء، فالظلمات تتولد من اختفاء الشمس عن الأرض، والنور يتكون من بزوغ الشمس على الأرض، وهذه التقلبات الكونية هى بتقدير الله العزيز العليم.
قال صاحب الكشاف: "والفرق بين الخلق والجعل. أن الخلق فيه معنى التقدير، وفى الجعل معنى التضمين، كإنشاء شىء من شىء، أو تصيير شىء شيئاً، أو نقله من مكان إلى مكان، ومن ذلك
{ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } { وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَاتِ وَٱلنُّورَ }، لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة، والنور من النار".
وقال الفخر الرازى: "وإنما حسن لفظ الجعل هنا، لأن النور والظلمة لما تعاقبا صار كل واحد منهما كأنما تولد من الآخر".
وقال أبو السعود: "والجعل هنا هو الانشاء والإِبداع كالخلق، خلا أن ذلك - أى الخلق - مختص بالإِنشاء التكوينى وفيه معنى التقدير والتسوية وهذا عام له كما فى الآية الكريمة والتشريعى أيضاً كما فى قوله - تعالى -
{ مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ } وقد وردت نصوص تصرح بأن الأرض سبع طبقات كالسماوات. إلا أنها فى كثير من المواضع القرآنية تفرد - أى الأرض - وتجمع السماء كما هنا، لعظم السماء. ولإِحاطتها بالأرض، ولأنه لم يعرف أن الله - تعالى - قد عصى فيها، ولأن طبقاتها متمايزة ينفصل بعضها عن بعض، بخلاف طبقات الأرض فإنها متصلة.
والمراد بالظلمات هنا الظلمات الحسية، كما أن المراد بالنور النور الحسى لأن اللفظ حقيقة فيهما، ولأنهما إذا جعلا مقرونين بذكر السماوات والأرض فإنه لا يفهم منهما إلا هاتان الكيفيتان المحسوستان، ولأن القرآن يستشهد عليهم بمقتضى ما يعلمونه من تفرده بالخلق وهم يعلمون تفرده - سبحانه - بخلق هذه الأشياء.
ويرى بعض المفسرين أن المراد بالظلمات، ظلمات الشرك والكفر والنفاق، وأن المراد بالنور، نور الإِيمان والإِسلام واليقين، وعلى هذا الرأى يكون المراد بهما معنويا لا حسيا.
قال صاحب المنار: قال الواحدى: والأولى حمل اللفظين عليهما، واستشكله الرازى لأنه مبنى على القول بجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز، والمختار عندنا جوازه، وجواز استعمال المشترك فى معنييه أو معانيه إذا احتمل المقام ذلك بلا التباس كما هنا، والتعبير بالجعل دون الخلق يلائم هذا فإن الجعل يشمل الخلق والأمر - أى الشرع - كما تقدم، فيفسر جعل كل نور بما يليق به.
وعبر القرآن فى جانب الظلمات بصيغة الجمع، وفى جانب النور بالإِفراد لأن النور واحد ومن نتائجه الكشف والظهور، وتعدد أسبابه لا يغير حقيقته. أما الظلمة فإنها متنوعة بتنوع أسبابها، فهناك ظلمة الليل، وهناك ظلمة السجون، وهناك ظلمة القبور، وهناك ظلمة الغمام، وهى تتغير حقائقها بتغير أسبابها. ثم ثمة إشارة إلى أمر معنوى وهى أن ظلمة الإِدراك تتعد حقائقها، فهناك ظلمة الانحراف، وظلمة الأهواء، والشهوات وطمس القلوب.
والنور واحد
{ وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } فالنور فى هذا واحد.
ثم بين - سبحانه - الموقف الجحودى الذى وقفه المشركون من قضية الألوهية فقال { ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ }.
العدل: المراد به هنا التسوية، فقال: عدل الشىء بالشىء إذا سواه به والمعنى: أن الله - تعالى - هو الذى خلق السماوات والأرض، وهو الذى جعل الظلمات والنور، فهو لذلك من حقه على خلقه أن يعبدوه وحده وأن يخصوه بالحمد والثناء، ولكن المشركين مع كل هذه الدلائل الدالة على وحدانية الله وقدرته يساوون به غيره فى العبادة، ويشركون معه آلهة أخرى لا تنفع ولا تضر.
وهذه الجملة الكريمة معطوفة على جملة { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } على معنى أن الله - تعالى - حقيق بالحمد على ما خلق من نعم، وأوجد من كائنات ثم الذين كفروا يجحدون كل ذلك فيشركون معه آلهة أخرى.
ويحتمل أن تكون معطوفة على جملة { خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ } على معنى أن الله - تعالى - قد خلق الأشياء العظيمة التى لا يقدر عليها أحد سواه، ثم إن المشركين بعد ذلك يعدلون به جماداً لا يقدر على شىء أصلا.
وجاء العطف "بثم" لإِفادة استبعاد واستقباح ما فعله الكافرون. فإنهم رغم البراهين الواضحة والدالة على وحدانية الله وقدرته، قد نزلوا بمداركهم إلى الحضيض فسووا فى العبادة بين الخالق والمخلوق.
قال القرطبى: قال ابن عطية: فثم دالة على قبح فعل الكافرين لأن المعنى أن خلق السماوات والأرض قد تقرر، وآياته قد سطعت، وإنعامه بذلك قد تبين، ثم بعد ذلك كله عدلوا بربهم، فهذا كما تقول: يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم تشتمنى! ولو وقع العطف بالواو فى هذا ونحوه لم يلزم التوبيخ كلزومه بثم".
ثم ساق القرآن فى الآية الثانية دليلا آخر على أن الله - تعالى - هو المستحق للعبادة والحمد، وعلى أن يوم القيامة حق، فتحدث عن أصل خلق الإِنسان، بعد أن تحدث فى الآية الأولى عن خلق السماوات والأرض فقال:
{ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىۤ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ }.
أى: هو الذى أنشأكم من طين، ثم تعهدكم برعايته فى مراحل خلقكم بعد ذلك، كما قال - تعالى -:
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } وفى ذكر خلق الإِنسان من طين، دليل على قدرة الله وعظمته، لأنه - سبحانه - هو الذى حول هذا الطين إلى بشر سوى مفكر، يختار الخير فيهتدى ويختار الشر فيردى، كما أن فيه تذكيراً له بأصله حتى لا يستكبر أو يطغى، وحتى يوقن بأن من خلقه من هذا الأصل قادر على أن يعيده إليه.
قال تعالى:
{ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ } قال أبو السعود: (وتخصيص خلقهم بالذكر من بين سائر دلائل صحة البعث، مع أن ما ذكر من خلق السماوات والأرض من أوضحها وأظهرها. لما أن محل النزاع بعثهم، فدلالة بدء خلقهم على ذلك أظهر، وهم بشئون أنفسهم أعرف، والتعامى عن الحجة البينة أقبح).
وقال الجمل: (وإنما نسب هذا الخلق إلى المخاطبين لا إلى آدم - عليه السلام - وهو المخلوق منه حقيقة. لتوضيح منهاج القياس، والمبالغة فى إزاحة الاشتباه والالتباس، مع ما فيه من تحقيق الحق، والتنبيه على حكمة خفية هى أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشائه - عليه السلام - منه. حيث لم تكن فطرته البديعة مقصورة على نفسه، بل كانت أنموذجا منطويا على فطرة سائر آحاد البشر انطواء إجماليا، فكان خلقه - عليه السلام - من طين خلقا لكل أحد من فروعه).
ثم قال - تعالى - { ثُمَّ قَضَىۤ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ }. الأجل فى اللغة عبارة عن الوقت المضروب لانقضاء الأمد، وأجل الإِنسان هو الوقت المضروب لانتهاء عمره. والمعنى: أنه سبحانه - قدر لعباده أجلين: أجلا تنتهى عنده حياتهم بعد أن عاشوا زمنا معينا، وأجلا آخر يمتد من وقت موتهم إلى أن يبعثهم الله من قبورهم عند انتهاء عمر الدنيا ليحاسبهم على أعمالهم، هذا هو الرأى الأول فى معنى الأجلين.
وقيل: المراد من الأجل الأول آجال الماضين من الخلق، ومن الثانى آجال الباقين منهم. وقيل المراد من الأول النوم ومن الثانى الموت. وقيل: المراد من الأول ما مضى من عمر الإِنسان ومن الثانى ما بقى منه.
والذى نرجحه هو الرأى الأول لأسباب منها.
1 - أن من تتبع ذكر الأجل المسمى فى القرآن فى سياق الكلام عن الناس يراه قد ورد فى عمر الإِنسان الذى ينتهى بالموت، ومن ذلك قوله
{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّىٰ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } وقوله - تعالى -: { يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } 2 - أن الآية الكريمة مسوقة لإِثبات وحدانية الله ولتقرير أن البعث حق، فالمناسب أن يكون المراد بالأجل الثانى هو انتهاء عمر الدنيا وبعث الناس من قبورهم.
ولذا قال أبو السعود فى تضعيفه للآراء المخالفة للرأى الأول: "ومن ها هنا تبين أن ما قيل من أن الأجل الأول هو النوم والثانى هو الموت، أو أن الأول أجل الماضين والثانى أجل الباقين، أو أن الأول مقدار ما مضى من عمر كل أحد والثانى مقدار ما بقى منه؛ مما لا وجه له أصلا، لما رأيت من أن مساق النظم الكريم استبعاد امترائهم فى البعث الذى عبر عن وقته بالأجل المسمى. فحيث أريد به أحد ما ذكر من الأمور الثلاثة ففى أى شىء تمترون؟".
3 - أن الرأى الأول هو الرأى المأثور عن بعض الصحابة، وبه قال جمهور المفسرين، وقد عزاه ابن كثير فى تفسيره إلى عشرة من التابعين.
وعطفت الجملة الكريمة بثم، للإِشارة إلى أطوار خلق الإِنسان المختلفة، فهو فى أصله من سلالة من طين، ثم يصيره الله - تعالى - نطفة، فعلقة، فمضغة، فعظاما، ثم يكونه - سبحانه - وتعالى خلقا آخر. فتبارك الله أحسن الخالقين".
ووصف الأجل الثانى بأنه (مسمى عنده)، لأن وقت قيام الساعة من الأمور التى لا يعلمها إلا الله قال - تعالى -:
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } وجاء قوله تعالى { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } مقدما على (عنده) لأنه مبتدأ، والذى سوغ الابتداء به مع كونه نكرة تخصصه بالوصف فقارب المعرفة لذلك، فهو كقوله - تعالى - { وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ } ومعنى (عنده) أى: فى علمه الذى لا يعلمه أحد سواه، فهى عندية تشريف وخصوصية.
ثم ختمت الآية الكريمة بتوبيخ الشاكين فى البعث والحساب فقال - تعالى -:
{ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ }. الامتراء: هو التردد الذى ينتهى إلى محاجة ومجادلة وقد ينتهى إلى شك ثم إلى إنكار. مأخوذ من مرى الضرع إذا مسحه للدر ووجه المناسبة فى استعماله فى الشك، أن الشك سبب لاستخراج العلم الذى هو كاللبن الخالص من بين فرث ودم.
والمعنى: ثم إنكم بعد كل هذه الأدلة الدالة على وحدانية الله، وعلى أن يوم القيامة حق، تشكون فى ذلك، وتجادلون المؤمنين فيما تشكون فيه "بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير".
وجاء العطف بثم لبيان التفاوت الكبير بين الحقائق الثابتة الناصعة، وبين ما سولته لهم أنفسهم من المجادلة فيها.
قال الآلوسى: "والمراد استبعاد امترائهم فى وقوع البعث وتحققه فى نفسه مع مشاهدتهم فى أنفسهم من الشواهد ما يقع مادة ذلك بالكلية فإن من قدر على إفاضة الحياة على مادة غير مستعدة لشىء من ذلك، كان أوضح اقتداراً على إقامته على مادة قد استعدت له وقارنته مدة".
وبعد أن أقام - سبحانه - الأدلة فى الآيتين السابقتين على أنه هو المستحق للعبادة والحمد، وعلى أن يوم القيامة حق، جاءت الآية الثالثة لتصفه - سبحانه بأنه هو صاحب السلطان المطلق فى هذا الكون فقال - تعالى -: { هُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَفِي ٱلأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ }.
أى: أنه - سبحانه - هو المعبود بحق فى السماوات والأرض، العليم بكل شىء فى هذا الوجود، الخبير بكل ما يكسبه الإِنسان من خير أو شر فيجازيه عليه بما يستحقه.
والضمير "هو" الذى صدرت به الآية يعود إلى الله - تعالى - الذى نعت ذاته فى الآيتين السابقتين بأنه هو صاحب الحمد المطلق، وخالق السماوات والأرض، وجاعل الظلمات والنور، ومنشىء الإِنسان من طين، وأنه لذلك يكون مختصاً بالعبادة والخضوع.
وقوله - تعالى -: { وَهُوَ ٱللَّهُ } جملة من متبدأ وخبر، معطوفة على ما قبلها، سيقت لبيان شموال ألوهيته لجميع المخلوقات.
قال أبو السعود: وقوله { فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَفِي ٱلأَرْضِ } متعلق بالمعنى الوصفى الذى ينبىء عنه الاسم الجليل إما باعتبار اصل اشتقاقه وكونه علما للمعبود بالحق، كأنه قيل: وهو المعبود فيهما. وإما باعتبار أنه اسم اشتهر بما اشتهرت به الذات من صفات الكمال، فلوحظ معه منها ما يقتضيه المقام من المالكية حسبما تقتضيه المشيئة المبنية على الحكم البالغة، فعلق به الظرف من تلك الحيثية فصار كأنه قيل: هو المالك أو المتصرف المدبر فيهما، كما فى قوله - تعالى -:
{ وَهُوَ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمآءِ إِلَـٰهٌ وَفِي ٱلأَرْضِ إِلَـٰهٌ } وجملة { يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } تقرير لمعنى الجملة الأولى لأن الذى استوى فى علمه السر والعلن هو الله وحده. ويجوز أن تكون كلاما مبتدأ بمعنى: هو يعلم سركم وجهركم، أو خبراً ثانيا.
ثم صور - سبحانه - طبيعة الجاحدين الذين هم - لانطماس بصائرهم واصرارهم على العناد - غدوا لا يجدى معهم دليل ولا تنفع معهم حجة، وساق لهم أخبار من سبقوهم. فقال - تعالى -: { وَمَا تَأْتِيهِم... }.