التفاسير

< >
عرض

ذٰلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَٰفِلُونَ
١٣١
وَلِكُلٍّ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ
١٣٢
وَرَبُّكَ ٱلْغَنِيُّ ذُو ٱلرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ
١٣٣
إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ
١٣٤
قُلْ يَٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنَّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَٰقِبَةُ ٱلدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ
١٣٥
-الأنعام

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الآلوسى: "ذلك" إشارة إلى إتيان الرسل، أو السؤال المفهوم من { أَلَمْ يَأْتِكُمْ } أو ما قص من أمرهم، أعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر وهو إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ مقدر أى: الأمر ذلك، أو مبتدأ خبره مقدر، أو خبره قوله - سبحانه - { أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ } بخلاف اللام على أن { أَن } مصدرية، أو مخففة من أن وضمير الشأن اسمها.
وإما منصوب على أنه مفعول به لفعل مقدر كخذ ذلك، أو فعلنا ذلك.
وفى قوله { بِظُلْمٍ } متعلق بمهلك أى: بسبب ظلم. أو بمحذوف وقع حالا من القرى أى: ملتبسة بظلم..".
والمعنى: ذلك الذى ذكرناه لك يا محمد من إتيان الرسل يقصون على الأمم آيات الله، سببه أن ربك لم يكن من شأنه ولا من سننه فى تربية خلقه أن يهلك القرى من أجل أى ظلم فعلوه قبل أن ينبهوا على بطلانه، وينهوا عنه بواسطة الأنبياء والمرسلين، فربك لا يظلم، ولا يعذب أحداً وهو غافل لم ينذر قال - تعالى -
{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } وقال - تعالى - { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } فالآية الكريمة صريحة فى أن - سبحانه - قد أعذر إلى الثقلين بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وتبيين الآيات، وإلزام الحجة { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ } ثم بين - سبحانه - أن الدرجات إنما هى على حسب الأعمال فقال - تعالى - { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ } أى: ولكل من المكلفين جناً كانوا أو إنساً درجات أى منازل ومراتب { مِّمَّا عَمِلُواْ } أى: من أعمالهم صالحة كانت أو سيئة أو من أجل أعمالهم إذ الجزاء من جنس العمل والعمل متروك للناس يتسابقون فيه، والجزاء ينتظرهم عادلا لا ظلم فيه.
{ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } بل هو عالم بأعمالهم ومحصيها عليهم، لا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء.
ثم صرح - سبحانه - بغناه عن كل عمل وعن كل عامل، وبأنه هو صاحب الرحمة الواسعة، والقدرة النافذة فقال: { وَرَبُّكَ ٱلْغَنِيُّ ذُو ٱلرَّحْمَةِ }.
أى: وربك يا محمد هو الغنى عن جميع خلقه من كل الوجوه، وهم الفقراء إليه فى جميع أحوالهم، وهو وحده صاحب الرحمة الواسعة العامة التى شملت جميع خلقه.
والجملة الكريمة تفيد الحصر. وقوله: وربك مبتدأ، والغنى خبره، وقوله { ذُو ٱلرَّحْمَةِ } خبر بعد خبر. وجوز أن يكون هو الخبر و "الغنى" صفة لربك.
وفى هذه الجملة تنبيه إلى أن ما سبق ذكره من إرسال الرسل وغيره، ليس لنفعه - سبحانه -، بل لترحمه على العباد، وتمهيد لقوله بعد ذلك. { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ } أى: أنه - سبحانه - إن يشأ إذهابكم أيها الناس بالإِهلاك لفعل ذلك فهو قدير على كل شىء وعلى أن ينشىء بعد إذهابكم ما يشاء من الخلق الذين يعملون بطاعته، ولا يكونون أمثالكم.
والكاف فى قوله: { كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } فى موضع نصب والمعنى: إن الله - تعالى - قادر على أن يستخلف من بعدكم ما يشاء استخلافه مثل ما أنشأكم من ذرية قوم آخرين. ونظيره قوله - تعالى -
{ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ ذٰلِكَ قَدِيراً } وقوله { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُـمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ } ثم بين - سبحانه - أن أمر البعث والحساب كائن لا ريب فيه فقال: { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ }.
أى: "إن ما توعدون من أمر القيامة والحساب، والعقاب والثواب لواقع لا شك فيه، وما أنتم بمعجزين، أى: بجاعليه عاجزا عنكم، غير قادر على إدراككم. من أعجزه بمعنى جعله عاجزا، أو: بفائتين العذاب، من أعجزه الأمر. إذا فاته. أى لا مهرب لكم من عذابنا بل هو مدرككم لا محالة.
ثم أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينفض يده من هؤلاء المشركين، وأن يتركهم لأنفسهم. وأن ينذرهم بسوء العاقبة إذا ما ستمروا فى كفرهم فقال - تعالى - { قُلْ يَاقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنَّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ ٱلدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ } .
أى: قل يا محمد لهؤلاء المصرين على كفرهم اعملوا على غاية تمكنكم من أمركم، وأقصى استطاعتكم. مصدر مكن - ككرم - مكانة، إذا تمكن أبلغ التمكن وأقواه، أو المعنى اعملوا على جهتكم واثبتوا على كفركم وحالتكم التى أنتم عليها من قولهم. مكان ومكانة كمقام ومقامة.
قال الزمخشرى: يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حالة: مكانك يا فلان أى: اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه.
والأمر للتهديد والوعيد، وإظهار ما هو عليه صلى الله عليه وسلم فى غاية التصلب فى الدين، ونهاية الوثوق بأمره، وعدم المبالاة بأعدائه أصلا.
وقوله { إِنَّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أى: إنى عامل على مكانتى، ثابت على الإِسلام لا أتزحزح عن الدعوة إليه، فسوف تعلمون بعد حين من تكون له العاقبة الحسنى فى هذه الدنيا.
وقوله: { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } بجانب إفادته للإِنذار، فيه إنصاف فى المقال، وحسن أدب فى الخطاب، حيث لم يقل - مثلا - العاقبة لنا، وإنما فوض الأمر إلى الله، فهو كقوله - تعالى -
{ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } وفيه تنبيه على وثوق المنذر بأنه على الحق.
قال الجمل - "وسوف لتأكيد مضمون الجملة، وهذه الجملة. تعليل لما قبلها والعلم عرفان، ومن استفهامية معلقة لفعل العلم محلها الرفع على الابتداء وخبرها جملة تكون، وهى مع خبرها فى محل نصب لسدها مسد مفعول تعلمون. أى: فسوف تعلمون أينا تكون له العاقبة الحسنى التى خلق الله هذه الدار لها، ويجوز أن تكون موصولة فيكون محلها النصب على أنها مفعول لتعلمون. أى: فسوف تعلمون الذى له عاقبة الدار".
ثم ختمت الآية بقوله - تعالى - { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ } أى: لن يظفروا بمطلوبهم بسبب ظلمهم، وقيل المراد بالظلم هنا الكفر، ووضع الظلم موضع الكفر، إيذاناً بأن امتناع الفلاح يترتب على أى فرد كان من أفراد الظلم، فما ظنك بالكفر الذى هو أعظم أفراده.
قال ابن كثير، وقد أنجز الله موعوده لرسوله صلى الله عليه وسلم فمكن له فى البلاد، وحكمه فى نواصى مخالفيه من العباد، وفتح له مكة، وأظهره على من كذبه من قومه، واستقر أمره على سائر جزيرة العرب.، وكل ذلك فى حياته، ثم فتحت الأقاليم والأمصار بعد وفاته. قال - تعالى -
{ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَادُ } ثم تبدأ السورة بعد ذلك حديثاً مستفيضاً عن أوهام المشركين وجهالاتهم التى تتعلق بمآكلهم، ومشاربهم، ونذورهم، وذبائحهم، وعاداتهم البالية، وتقاليدهم الموروثة، فتناقشهم فى كل ذلك مناقشة منطقية حكيمة، وترد عليهم فيما أحلوه وحرموه بدون علم ولا هدى ولا كتاب منير، وترشدهم إلى الطريق السليم الذى من الواجب عليهم أن يسلكوه. استمع إلى سورة الأنعام وهى تحكى كل ذلك فى بضع عشرة آية بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول: { وَجَعَلُواْ للَّهِ... }.