التفاسير

< >
عرض

وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَ جَنَّٰتٍ مَّعْرُوشَٰتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَٰتٍ وَٱلنَّخْلَ وَٱلزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَٰبِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ
١٤١
وَمِنَ ٱلأَنْعَٰمِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَٰنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ
١٤٢
ثَمَٰنِيَةَ أَزْوَٰجٍ مَّنَ ٱلضَّأْنِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْمَعْزِ ٱثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلأُنثَيَيْنِ أَمَّا ٱشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ ٱلأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ
١٤٣
وَمِنَ ٱلإِبْلِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ ٱثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلأُنْثَيَيْنِ أَمَّا ٱشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ ٱلأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّٰكُمُ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ ٱلنَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ
١٤٤
-الأنعام

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله - تعالى - { وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ }.
أنشأ: أى أوجد وخلق. والجنات: البساتين والكروم الملتفة الأشجار.
ومعروشات: أصل العرش فى اللغة شىء مسقف يجعل عليه الكرم وجمعه عروش، يقال عرشت الكرم أعرشه عرشاً من بابى - ضرب ونصر -، وعرشته تعريشاً إذا جعلته كهيئة السقف. فالمادة تدل على الرفع ومنها عرش الملك. قال ابن عباس: المعروشات. ما انبسط على الأرض وانبسط من الزروع مما يحتاج إلى أن يتخذ له عريش يحمل عليه، كالكرم والبطيخ والقرع ونحو ذلك. وغير المعروشات ما قام على ساق واستغنى باستوائه وقوة ساقه عن التعريش كالنخل والشجر.
وقيل المعروشات وغير المعروشات كلاهما فى الكرم خاصة، لأن منه ما يعرش ومنه ما لا يعرش بل يبقى على وجه الأرض منبسطا.
وقيل المعروشات ما غرسه الناس فى البساتين واهتموا به فعرشوه من كرم أو غيره، وغير المعروشات. هو ما أنبته الله فى البرارى والجبال من كرم وشجر.
أى: وهو - سبحانه - الذى أوجد لكم هذه البساتين المختلفة التى منها المرفوعات عن الأرض، ومنها غير المرفوعات عنها، فخصوه وحده بالعبادة والخضوع.
وقوله: { وَٱلنَّخْلَ وَٱلزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ } عطف على جنات، أى: أنشأ جنات، وأنشأ النخل والزرع، والمراد بالزرع جميع الحبوب التى يقتات بها.
وإنما أفردها مع أنهما داخلان فى الجنات لما فيهما من الفضيلة على سائر ما ينبت فى الجنات.
و { مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ } أى، ثمره وحبه فى اللون والطعم والحجم والرائحة.
والضمير فى أكله راجع إلى كل واحد منهما، أى: النخل والزرع والمراد بالأكل المأكول أى، مختلف المأكول فى كل منهما فى الهيئة والطعم.
قال الجمل: وجملة. { مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ } حال مقدرة، لأن النخل والزرع وقت خروجه لا أكل منه حتى يكون مختلفا أو متفقا، فهو مثل قولهم: مررت برجل معه صقر صائداً له غدا.
وقوله: { وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } أى: وأنشأ الزيتون والرمان متشابها فى المنظر وغير متشابه فى الطعم أو متشابها بعض أفرادها فى اللون أو الطعم أو الهيئة "وغير متشابه فى بعضها".
قال القرطبى: وفيه أدلة ثلاثة.
أحدها: ما تقدم من قيام الدليل على أن المتغيرات لا بد لها من مغير.
الثانى: على المنة منه - سبحانه - علينا، فلو شاء إذ خلقنا ألا يخلق لنا غذاء، وإذا خلقه ألا يكون جميل المنظر طيب الطعم، وإذ خلقه كذلك ألا يكون سهل الجنى، فلم يكن عليه أن يفعل ذلك ابتداء، لأنه لا يجب عليه شىء.
الثالث: على القدرة فى أن يكون الماء الذى من شأنه الرسوب يصعد بقدرة الله الواحد علام الغيوب من أسافل الشجرة إلى أعاليها، حتى إذا انتهى إلى آخرها نشأت فيها أوراق ليست من جنسها، وثمر خارج من صفته: الجرم الوافر، واللون الزاهر، والجنى الجديد، والطعم اللذيذ، فأين الطبائع وأجناسها وأي الفلاسفة وأسسها، هل هى فى قدرة الطبيعة أن تتقن هذا الإِتقان أو ترتب هذا الترتيب العجيب. كلا، لا يتم ذلك فى العقول إلا لحى قادر عالم مريد، فسبحان من له فى كل شىء آية ونهاية.
ووجه اتصال هذا بما قبله أن الكفار لما افتروا على الله الكذب. وأشركوا معه وحللوا وحرموا دلهم على وحدانيته بأنه خالق الأشياء، وأنه جعل هذه الأشياء أرزاقا لهم.
ثم ذكر - سبحانه - المقصود من خلق هذه الأشياء فقال: { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ } أى: كلوا من ثمر تلك الزروع والأشجار التى أنشأناها لكم، شاكرين الله على ذلك. والأمر للإِباحة. وفائدة التقييد بقوله { إِذَآ أَثْمَرَ } إباحة الأكل قبل النضوج والإِدراك.
وقيل فائدته: الترخيص للمالك فى الأكل من قبل أداء حق الله - تعالى - لأنه لما أوجب الحق فيه ربما يتبادر إلى الأذهان أنه يحرم على المالك تناول شىء منه لمكان شركة المساكين له فيه، فأباح الله له هذا الأكل.
ثم أمرهم - سبحانه - بأداء حقوق الفقراء والمحتاجين مما رزقهم فقال: { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } أى، كلوا من ثمر ما أنشأنا لكم، وأدوا حق الله فيه للفقراء والمحتاجين يوم حصاده.
ويرى بعض العلماء أن المراد بهذا الحق الصدقة بوجه عام على المستحقين لها، بأن يوزع صاحب الزرع منه عند حصاده على المساكين والبائسين ما يسد حاجتهم بدون إسراف أو تقتير.
وأصحاب هذا الرأى فسروا هذا الحق بالصدقة الواجبة من غير تحديد للمقدار وليس بالزكاة المفروضة لأن الآية مكية والزكاة إنما فرضت بالمدينة.
وهم يرون أن هذا الحق لم ينسخ بالزكاة المفروضة، بل على صاحب الزرع أن يطعم منه المحتاجين عند حصاده.
ويرى بعض آخر من العلماء أن المراد بهذا الحق ما فصلته السنة النبوية من الزكاة المفروضة وهذه الآية مدنية وإن كانت السورة مكية.
ويبدو لنا أن الرأى الأول أرجح، لأنه لا دليل على أن هذه الآية مدنية ولأن فرضية الزكاة لا تمنع إعطاء الصدقات، وفى الأمر بإيتاء هذا الحق يوم الحصاد، مبالغة فى العزم على المبادرة إليه.
والمعنى: اعزموا على إيتاء هذا الحق واقصدوه، واهتموا به يوم الحصاد حتى لا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإِيتاء.
وقيل: إنما ذكر وقت الحصاد تخفيفاً على أصحاب الزروع حتى لا يحسب عليهم ما أكل قبله.
ثم ختمت الآية بالنهى عن الإِسراف فقالت، { وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ }. أى لا تسرفوا فى أكلكم قبل الحصاد ولا فى صدقاتكم ولا فى أى شأن من شئونكم، لأنه - سبحانه - لا يحب المسرفين.
وقال ابن جريج، نزلت فى ثابت بن قيس، قطع نخلا له فقال. لا يأتينى اليوم أحد إلا أطعمته، فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة، فنزلت هذه الآية.
وقال عطاء، نهوا عن السرف فى كل شىء.
وقال إياس بن معاوية، ما جاوزت به أمر الله هو سرف.
ثم بين - سبحانه - حال الأنعام، وأبطل ما تقولوه عليه فى شأنها بالتحريم والتحليل فقال: { وَمِنَ ٱلأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً }.
الحمولة، هى الأنعام الكبار الصالحة للحمل. والفرش هى صغارها الدانية من الأرض، مثل الفرش المفروش عليها.
وقيل الحمولة كل ما حمل عليه من إبل وبقر وبغل وحمار. والفرش ما اتخذ من صوفه ووبره وشعره ما يفرش.
أى: وأنشأ لكم - سبحانه - من الأنعام حمولة وهى ما تحمولن عليه أثقالكم، كما أنشأ لكم منها فرشا وهى صغارها التى تفرش للذبائح من الضأن والمعز والإِبل والبقر.
والجملة معطوفة على جنات، والجهة الجامعة بينهما إباحة الانتفاع بهما.
وقوله { كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }.
أى: كلوا مما رزقكم الله من هذه الثمار والزروع والأنعام وغيرها، وانتفعوا منها بسائر أنواع الانتفاع المشروعة، ولا تتبعوا وساوس الشيطان وطرقه فى التحريم والتحليل كما أتبعها أهل الجاهلية، إذ حرموا ما رزقهم الله افتراء عليه، إن الشيطان عداوته، ظاهرة واضحة لكم، فهو يمنعكم مما يحفظ روحكم، ويطهر قلوبكم، فالجملة الكريمة { إِنَّهُ لَكُمْ } تعليل للنهى عن اتباع خطوات الشيطان.
ثم بين القرآن بعد ذلك بعض ما كان عليه الجاهليون من جهالات، وناقشهم فيما أحلوه وحرموه مناقشة منطقية حكيمة فقال:
{ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ ٱلضَّأْنِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْمَعْزِ ٱثْنَيْنِ }.
وقوله - سبحانه - { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } بدل من { حَمُولَةً وَفَرْشاً } بناء على كونهما قسمين لجميع الأنعام على الراجح، وقيل أن لفظ ثمانية منصوب بفعل مضمر أى: وأنشأ لكم ثمانية أزواج، أو هو مفعول به لفعل { كُلُواْ } وقوله { وَلاَ تَتَّبِعُواْ }... الخ معترض بينهما.
والزوج يطلق على المفرد إذا كان معه آخر من جنسه يزاوجه ويحصل منهما النسل، وكذا يطلق على الاثنين فهو مشترك والمراد هنا الاطلاق الأول.
والمعنى: ثمانية أصناف خلقها الله لكم، لتنتفعوا بها أكلا وركوبا وحملا وحلباً وغير ذلك.
ثم فصل الله - تعالى - هذه الأزواج الثمانية فقال: { مَّنَ ٱلضَّأْنِ ٱثْنَيْنِ } أى. من الضأن زوجين اثنين هما الكبش والنعجة، { وَمِنَ ٱلْمَعْزِ ٱثْنَيْنِ } أى. ومن المعز زوجين اثنين هما التيس والعنز.
ثم أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبكتهم على جهلهم فقال { قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلأُنثَيَيْنِ أَمَّا ٱشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ ٱلأُنثَيَيْنِ }.
أى: قل لهم يا محمد على سبيل التوبيخ وإلزامهم الحجة: أحرم الله الذكرين وحدهما من الضأن والمعز أم الأنثيين وحدهما، أم الأجنة التى اشتملت عليها أرحام إناث الزوجين كليهما سواء أكانت تلك الأجنة ذكوراً أم إناثا؟
وقوله: { نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أى: أخبرونى بأمر معلوم من جهته - تعالى - جاءت به الأنبياء، يدل على أنه - سبحانه - قد حرم شيئاً مما حرمتموه إن كنتم صادقين فى دعوى التحريم.
والأمر هنا للتعجيز لأنهم لا دليل عندهم من العقل أو النقل على صحة تحريمهم لبعض الأنعام دون بعض.
وقوله - تعالى - { وَمِنَ ٱلإِبْلِ ٱثْنَيْنِ } عطف على قوله { مَّنَ ٱلضَّأْنِ ٱثْنَيْنِ } أى: وأنشأ لكم من الإبل اثنين هما الجمل والناقة { وَمِنَ ٱلْبَقَرِ ٱثْنَيْنِ } هما الثور وأنثاه البقرة.
{ قُلْ } إفحاما فى أمر هذين النوعين أيضاً { ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ } الله - تعالى منهما، { أَمِ ٱلأُنْثَيَيْنِ أَمَّا ٱشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ ٱلأُنْثَيَيْنِ } من ذينك النوعين؟
قال الآلوسى: والمعنى - كما قال كثير من أجلة العلماء: إنكار ان الله - تعالى - حرم عليهم شيئا من هذه الأنواع الأربعة، وإظهار كذبهم فى ذلك وتفصيل ما ذكر من الذكور والإِناث وما فى بطونها للمبالغة فى الرد عليهم بإيراد الإِنكار على كل مادة من مواد افترائهم، فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة، وإناثها تارة. وأولادها كيفما كانت تارة أخرى، مسندين ذلك كله إلى الله - سبحانه -.
ثم قال: وإنما لم يل المنكر - وهو التحريم - الهمزة، والجارى فى الاستعمال أن ما نكر وليها لأن ما فى النظم الكريم أبلغ.
وبيانه - على ما قاله السكاكى - أن إثبات التحريم يستلزم إثبات محله لا محالة، فإذا انتفى محله وهو الموارد الثلاثة لزم انتفاء التحريم على وجه برهانى. كأنه وضع الكلام موضع من سلم أن ذلك قد تم، وطالبه ببيان محله كى يتبين كذبه، ويفتضح عند الحاجة.
وإنما لم يورد - سبحانه - الأمر عقيب تفصيل الأنواع الأربعة، بأن يقال: قل ءآلذكور حرم أم الإِناث أما اشتملت عليه أرحام الإِناث، لما فى التكرير من المبالغة أيضا فى الإِلزام والتبكيت.
وقوله - تعالى - { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا } تكرير للإِفحام والتبكيت.
أى: أكنتم حاضرين حين وصاكم الله وأمركم بهذا التحريم؟ لا، ما كنتم حاضرين فمن أين لكم هذه الأحكام الفاسدة؟.
فالجملة الكريمة تبكتهم غاية التبكيت على جهالاتهم وافترائهم الكذب على الله، والاستفهام فى قوله - تعالى - { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ ٱلنَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ } للنفى والإِنكار.
أى: لا أحد أشد ظلما من هؤلاء المشركين الذين يفترون على الله الكذب بنسبتهم إليه - سبحانه - تحريم ما لم يحرمه لكى يضلوا الناس عن الطريق القويم بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
وقوله، { بِغَيْرِ عِلْمٍ } متعلق بمحذوف حال من فاعل افترى، أى: افترى عليه - تعالى - جاهلا بصدور التحريم.
وإنما وصف بعدم العلم مع أن المفترى عالم بعدم الصدور، إيذاناً بخروجه فى الظلم عن الحدود والنهايات، لأنه إذا كان المفترى بغير علم يعد ظالماً فكيف بمن يفترى الكذب وهو عالم بذلك.
ثم ختمت الآية بقوله - تعالى - { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } أى لا يهديهم إلى طريق الحق بسبب ظلمهم، وإيثارهم طريق الغى على طريق الرشد.
هذا، والمتأمل فى هاتين الآيتين الكريمتين يراهما قد ردتا على المشركين بأسلوب له - مع سهولته وتأثيره - الطابع المنطقى الذى يزيد المؤمنين إيماناً بصحة هذا الدين، وصدق هذا القرآن، ويقطع على المعارضين والملحدين كل حجة وطريق.
وتقرير ذلك - كما قال بعض العلماء - أن تطبق قاعدة (السير والتقسيم) فيقال، إن الله - تعالى - خلق من كل صنف من المذكورات نوعين: ذكراً وأنثى، وأنتم أيها المشركون حرمتم بعض هذه الأنعام، فلا يخلو الأمر فى هذا التحريم من:
1 - أن يكون تحريماً معللا بعلة.
2 - أو أن يكون تحريماً تعبدياً ملقى من الله - تعالى -.
ولا جائز أن يكون تحريماً معللا، لأن العلة إن كانت هى (الذكورة) فأنتم أبحتم بعض الذكور وحرمتم بعضا، فلم تجعلوا الأمر فى الذكورة مطرداً وإن كانت العلة هى (الأنوثة) فكذلك الأمر: حيث حرمتم بعض الإِناث وحللتم بعضا، فلم تطرد العلة، ومثل هذا يقال إذا جعلت العلة هى اشتمال الرحم من الأنثى على النوعين، لأنها حينئذ تقتضى أن يكون الكل حراما فلماذا أحلوا بعضه.
وهذا كله يؤخذ من قوله - تعالى - { قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلأُنثَيَيْنِ أَمَّا ٱشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ ٱلأُنثَيَيْنِ }.
فبطل إذن أن يكون التحريم معللا.
ولا جائز أن يكون التحريم تعبديا لا يدرى له علة، أى: مأخوذ عن الله، لأن الأخذ عن الله إما بشهادة توصيته بذلك وسماع حكمه به، وقد أنكر هذا عليهم بقوله: { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا } وإما أن يكون برسول أبلغهم ذلك، وهم لم يأتهم رسول بذلك، وفى هذا يقول - جل شأنه - متحديا لهم { نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ ٱلنَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ }.
وإذن فما قالوه من التحريم إنما هو افتراء وضلال".
ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم بعد إلزام المشركين وتبكيتهم، وبيان أن ما يتقولونه فى أمر التحريم افتراء محض - بعد كل ذكل أمره بأن يبين لهم ما حرمه الله عليهم فقال: { قُل لاَّ أَجِدُ فِي.... }.