الوسيط في تفسير القرآن الكريم
المعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يقترحون عليك المقترحات الباطلة قل لهم: ليس عندى خزائن الرزق فأعطيكم منها ما تريدون، وإنما ذلك لله - تعالى - فهو الذى له خزائن السماوات والأرض، وقد كان المشركون يقولون للنبى صلى الله عليه وسلم إن كنت رسولا من الله فاطلب منه أن يوسع عيشنا ويغنى فقرنا، وقل لهم كذلك إنى لا أعلم الغيب فاخبركم بما مضى وبما سيقع فى المستقبل، وإنما علم ذلك عند الله، وقد كانوا يقولون له أخبرنا بما ينفعنا ويضرنا فى المستقبل. حتى نستعد لتحصيل المصالح ودفع المضار، وقل لهم: إنى لست ملكا فأطلع على ما لا يطلع عليه الناس وأقدر على ما لا يقدرون عليه. وقد كانوا يقولون: ما لهذا الرسول يأكل طعاما ويمشى فى الأسواق ثم يتزوج النساء.
ثم بين لهم وظيفته فقال: { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ } أى إن وظيفتى اتباع ما يوحى إلى من ربى. فأنا عبده وممتثل لأمره، وحاشاى أن أدعى شيئا من تلك الأشياء التى اقترحتموها على. فالآية الكريمة مسوقة على سبيل الاستئناف لإِظهار تبريه عما يقترحونه عليه.
ثم بين لهم - سبحانه - الفرق بين المهتدى والضال فقال: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ }.
أى: قل لهم: هل يستوى أعمى البصيرة الضال عن الصراط المستقيم الذى دعوتكم إليه، وذو البصيرة المنيرة التى اهتدت إلى الحق فآمنت به واتبعته؟
فالمراد بالأعمى الكافر الذى لم يستجب للحق، وبالبصير المؤمن الذى انقاد له.
والاستفهام للانكار ونفى الوقوع، أى: كما أنه لا يتساوى أعمى العينين وبصيرهما، فكذلك لا يتساوى المهتدى والضال والرشيد والسفيه، بل إن الفرق بين المهتدى والضال أقوى وأظهر، لأنه كم من أعمى العينين وبصير القلب هو من أعلم العلماء وأهدى الفضلاء وكم من بصير العينين أعمى القلب هو أضل من الأنعام، ولذا قرعهم الله - تعالى - بقوله: { أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ }؟ أى: أفلا تتفكرون فى ذلك فتميزوا بين ضلالة الشرك وهداية الإِسلام، وبين صفات الرب وصفات الإِنسان. والاستفهام هنا للتحريض على التفكر والتدبر.
ثم أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجتهد فى إنذار قوم يتوقع منهم الصلاح والاستجابة للحق، بعد أن أمره قبل ذلك بتوجيه دعوته إلى الناس كافة فقال تعالى: { وَأَنذِرْ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }.
والمعنى: عظ وخوف يا محمد بهذا القرآن أولئك الذين يخافون شدة الحساب والعقاب، وتعتريهم الرهبة عندما يتذكرون أهوال يوم القيامة لأنهم يعلمون أنه يوم لا تنفع فيه خلة ولا شفاعة، فهؤلاء هم الذين ترجى هدايتهم لرقة قلوبهم وتأثرهم بالعظات والعبر.
فالمراد بهم المؤمنون العصاة الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، ولذا قال ابن كثير: { وَأَنذِرْ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ } أى وأنذر بهذا القرآن يا محمد الذين هم من خشية ربهم مشفقون، والذين يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب أى: يوم القيامة، { لَيْسَ لَهُمْ } يومئذ { من دون الله ولى ولا شفيع } أى: لا قريب لهم ولا شفيع فيهم من عذابه إن أراده بهم { لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } فيعملون فى هذه الدار عملا ينجيهم الله به يوم القيامة من عذابه ويضاعف لهم الجزيل من ثوابه).
ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقرب فقراء المسلمين من مجلسه لأنهم مع فقرهم أفضل عند الله من كثير من الأغنياء. فقال تعالى:
{ وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ }.
أى: لا تبعد أيها الرسول الكريم عن مجالسك هؤلاء المؤمنين الفقراء الذين يدعون ربهم صباح مساء، ويريدون بعملهم وعبادتهم وجه الله وحده بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك فهم أفضل عند الله من الأغنياء المتغطرسين والأقوياء الجاهلين.
وقد روى المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها ما جاء عن ابن مسعود قال: مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا؟ أنحن نصير تبعاً لهؤلاء؟ لا.. اطردهم فلعلك إن طردتهم نتبعك؟ فنزلت هذه الآية.
ففى الآية الكريمة نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن أن يطرد هؤلاء الضعفاء من مجلسه. لأنه وإن كان صلى الله عليه وسلم يميل إلى تأليف قلوب الأقوياء للاسلام لينال بقوتهم قوة، إلا أن الله تعالى بين له أن القوة فى الإِيمان والعمل الصالح، وأن هؤلاء الضعفاء من المؤمنين قد وصفهم خالقهم بأنهم يتضرعون إليه فى كل أوقاتهم ولا يقصدون بعبادتهم إلا وجه الله، فكيف يطردون من مجالس الخير؟
ثم قال تعالى: { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ }.
أى: إن الله تعالى هو الذى سيتولى حسابهم وجزاءهم ولن يعود عليك من حسابهم شىء، كما أنه لا يعود عليهم من حسابك شىء، فهم مجزبون بأعمالهم، كما أنك أنت يا محمد مجزى بعملك، فإن طردتهم استجابة لرضى غيرهم كنت من الضالين. إذ أنهم لم يصدر عنهم ما يستوجب ذلك، وحاشا للرسول صلى الله عليه وسلم أن يطرد قوما تلك هى صفاتهم.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: أما كفى قوله { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } حتى ضم إليه { وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ }؟ قلت: قد جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة وقصد بهما مؤدى واحد وهو المعنى فى قوله: { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعاً كأنه قيل: لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه.
وقيل: الضمير للمشركين. والمعنى: لا يؤاخذون بحسابك ولا أنت بحسابهم حتى يهمك إيمانهم ويحركك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين.
وهنا تخريج آخر لقوله: { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ } بأن المعنى: ما عليك شىء من حساب رزقهم إن كانوا فقراء، وما من حسابك فى الفقر والغنى عليهم من شىء، أى أنت مبشر ومنذر ومبلغ للناس جميعاً سواء منهم الفقير والغنى، فكيف تطرد فقيراً لفقره، وتقرب غنيا لغناه؟ إنك إن فعلت ذلك كنت من الظالمين، ومعاذ الله أن يكون ذلك منك.
وقوله { فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } جواب للنهى عن الطرد، وقوله { فَتَطْرُدَهُمْ } جواب لنفى الحساب.
ثم قال تعالى: { وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولوۤاْ أَهَـٰؤُلاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّاكِرِينَ }.
والمعنى: ومثل ذلك الفتن. أى الابتلاء والاختبار، جعلنا بعض البشر فتنة لبعض، ليترتب على هذه الفتن أن يقول المفتونون الأقوياء فى شأن الضعفاء: أهؤلاء الصعاليك خصهم الله بالإِيمان من بيننا! وقد رد الله عليهم بقوله { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّاكِرِينَ } أى: أليس هو بأعلم بالشاكرين له بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم فيوفقهم ويهديهم سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم.
والكاف فى قوله { وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } فى محل نصب على أنها نعت لمصدر محذوف والتقدير: ومثل ذلك الفتون المتقدم الذى فهم من سياق أخبار الأمم الماضية فتنا بعض هذه الأمم ببعض، ومن مظاهر ذلك أننا ابتلينا الغنى بالفقير، والفقير بالغنى، فكل واحد مبتلى بضده، فكان ابتلاء الأغنياء الشرفاء حسدهم لفقراء الصحابة على كونهم سبقوهم إلى الإِسلام وتقدموا عليهم، فامتنعوا عن الدخول فى الإِسلام لذلك، فكان ذلك فتنة وابتلاء لهم وأما فتنة الفقراء بالأغنياء فلما يرون من سعة رزقهم وخصب عيشهم. فكان ذلك فتنة لهم.
واللام فى قوله { لِّيَقُولوۤاْ أَهَـٰؤُلاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ } تعليلية لأنها هى للباعث على الاختبار أى: ومثل ذلك الفتون فتنا ليقولوا هذه المقالة ابتلاء منا وامتحانا.
والاستفهام فى قوله { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّاكِرِينَ } للتقرير على أكمل وجه لأنه سبحانه محيط بكل صغير وكبير ودقيق وجليل.
وكذلك تكون الآيات الكريمة قد قررت أن الفضل ليس بالغنى ولا بالجاه ولا بالقوة فى الدنيا، ولكنه بمقدار شكر الله على ما أنعم، وأنه سبحانه هو العالم وحده بمن يستحق الفضل علماً ليس فوقه علم.