التفاسير

< >
عرض

وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّٰكُم بِٱلَّيلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٦٠
وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ
٦١
ثُمَّ رُدُّوۤاْ إِلَىٰ ٱللَّهِ مَوْلاَهُمُ ٱلْحَقِّ أَلاَ لَهُ ٱلْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ ٱلْحَاسِبِينَ
٦٢
قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ
٦٣
قُلِ ٱللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ
٦٤
-الأنعام

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله - تعالى -: { وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِٱللَّيْلِ } أى: ينيمكم فيه. والتوفى أخذ الشىء وافياً، أى تاما كاملا. والتوفى يطلق حقيقة على الإِماتة، وإطلاقه على النوم - كما هنا - مجاز لشبه النوم بالموت فى انقطاع الإِدراك والعمل والإِحساس قال - تعالى -: { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا وَٱلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِـهَا فَيُمْسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا ٱلْمَوْتَ وَيُرْسِلُ ٱلأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } فهذه الآية صريحة فى أن التوفى أعم من الموت، فقد صرحت بأن الأنفس التى تتوفى فى منامها غير ميتة، فهناك وفاتان: وفاة كبرى وتكون بالموت، ووفاة صغرة وتكون بالنوم. والمعنى: وهو - سبحانه - الذى يتوفى أنفسكم فى حالة نومكم بالليل، دون غيره لأن غيره لا يملك موتاً ولا حياة ولا نشورا.
{ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ } أى: ما كسبتم وعملتهم فيه من أعمال. وأصل الجرح تمزيق جلد الحى بشىء محدد مثل السكين والسيف والظفر والناب وأطلق هنا على ما يكتسبه الإِنسان بجوارحه من يد أو رجل أو لسان.
وتخصيص الليل بالنوم، والنهار بالكسب جرياً على المعتاد، لأن الغالب أن يكون النوم ليلا، وأن يكون الكسب والعمل نهاراً، قال - تعالى-:
{ وَجَعَلْنَا ٱللَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى } أى: ثم إن بعد توفيكم بالنوم يوقظكم منه فى النهار، لأجل أن يقضى كل فرد أجله المسمى فى علم الله - تعالى -، والمقدر له فى هذه الدنيا، فقد جعل - سبحانه - لأعماركم آجالا محددة لا بد من قضائها وإتمامها.
وجملة { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ } معطوفة على { يَتَوَفَّاكُم بِٱللَّيْلِ } فتكون ثم للمهلة الحقيقية وهو الأظهر.
{ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أى: ثم إليه وحده يكون رجوعكم بعد انقضاء حياتكم فى هذه الدنيا، فيحاسبكم على أعمالكم التى اكتسبتموها فيها، إن خيراً فخير وإن شرا فشر.
فالآية الكريمة تسوق للناس مظهراً من مظاهر قدرة الله وتبرهن لهم على صحة البعث والحساب يوم القيامة، لأن النشأة الثانية - كما يقول القرطبى - منزلتها بعد الأولى كمنزلة اليقظة بعد النوم فى أن من قدر على أحدهما فهو قادر على الأخرى.
هذا، ويرى جمهور المفسرين أن ظاهر الخطاب فى الآية للمؤمنين والكافرين، ولكن الزمخشرى خالف فى ذلك فجعلها خطابا للكافرين فقال: { وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِٱللَّيْلِ } الخطاب للكفرة، أى: أنتم منسدحون الليل كله كالجيف - أى مسطحون على القفا - { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ } ما كسبتم من الآثام فيه { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ } من القبور فى شأن ذلك الذى قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار { لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى } وهو الأجل الذى سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم).
والذى نراه أن رأى الجمهور أرجح لأنه لم يرد نص يدل على تخصيص الخطاب فى الآية للكافرين.
ثم قال - تعالى -: { هُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } أى: وهو الغالب المتصرف فى شئون خلقه يفعل بهم ما يشاء إيجادا وإعداما وإحياء وأماتة وإثابة وعقابا إلى غير ذلك، والمراد بالفوقية فوقية المكانة والرتبة لا فوقية المكان والجهة.
قال الإِمام الرازى: وتقرير هذا القهر من وجوه:
الأول: أنه قهار للعدم بالتكوين والإِيجاد.
والثانى: أنه قهار للوجود بالإِفناء والإِفساد، فإنه - تعالى - هو الذى ينقل الممكن من العدم إلى الوجود تارة، ومن الوجود إلى العدم تارة أخرى، فلا وجود إلا بإيجاده، ولا عدم إلا بإعدامه فى الممكنات.
والثالث: أنه قهار لكل ضد بضده، فيقهر النور بالظلمة، والظلمة بالنور، والنهار بالليل، والليل بالنهار، وتمام تقريره فى قوله:
{ قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وقوله { وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً } أى: ويرسل عليكم ملائكة تحفظ أعمالكم وتحصيها وتسجل ما تعملونه من خير أو شر. قال: - تعالى -: { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } وقال - تعالى -: { إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } وفى الصحيحين عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار يجتمعون فى صلاة الفجر وصلاة العصر؛ ثم يعرج بالذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادى فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون" .
قال صاحب الكشاف: فإن قلت إن الله - تعالى - غنى بعلمه عن كتابة الملائكة فما فائدتها؟ قلت: فيها لطف للعباد، لأنهم إذا علموا أن الله رقيب عليهم، والملائكة الذين هم أشرف خلقه موكلون بهم يحفظون عليهم أعمالهم ويكتبونها فى صحائف تعرض على رءوس الأشهاد فى مواقف القيامة، كان ذلك أزجر لهم عن القبيح وأبعد عن السوء.
وجملة { وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً } يجوز أن تكون معطوفة على اسم الفاعل الواقع صلة لـ (أل)، لأنه فى معنى يقهر والتقدير وهو الذى يقهر عباده ويرسل، فعطف الفعل على الإِسم لأنه فى تأويله.
وقوله { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } أى: حتى إذا احتضر أحدكم وحان أجله قبضت روحه ملائكتنا الموكلون بذلك حالة كونهم لا يتوانون ولا يتأخرون فى أداء مهمتهم.
قال الآلوسى: وحتى فى قوله { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ } هى التى يبتدأ بها الكلام وهى مع ذلك تجعل ما بعدها من الجملة الشرطية غاية لما قبلها، كأنه قيل: ويرسل عليكم حفظة يحفظون ما يحفظون منكم مدة حياتكم، حتى إذا انتهت مدة أحدكم وجاءت أسباب الموت ومباديه توفته رسلنا الآخرون المفوض إليهم ذلك، وانتهى هناك حفظ الحفظة. والمراد بالرسل - على ما أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس - أعوان ملك الموت.
وقال الجمل: فإن قلت: إن هناك آية تقول:
{ ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا } وثانية تقول: { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } والتى معنا تقول { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } فكيف الجمع بين هذه الآيات؟.
فالجواب على ذلك أن المتوفى فى الحقيقة هو الله، فإذا حضر أجل العبد أمر الله ملك الموت بقبض روحه، ولملك الموت أعوان من الملائكة فيأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده، فإذا وصلت إلى الحلقوم تولى قبضها ملك الموت نفسه، وقيل المراد من قوله { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } ملك الموت وحده وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيما له.
ثم صرح - سبحانه - بأن مصير الخلق جميعا إليه فقال: { ثُمَّ رُدُّوۤاْ إِلَىٰ ٱللَّهِ مَوْلاَهُمُ ٱلْحَقِّ } أى: ثم رد الله - تعالى - هؤلاء الذين توفتهم الملائكة إلى مالكهم الحق الذى لا يشوب ملكه باطل ليتولى حسابهم وجزاءهم على أعمالهم.
فالضمير فى { رُدُّوۤاْ } يعود على الخلائق الذين توفتهم الملائكة والمدلول عليهم بأحد. والسر فى الإِفراد أولا الجمع ثانياً وقوع التوفى على الأفراد والرد على الاجتماع. أى: ردوا بعد البعث فيحكم فيهم بعدله. قال - تعالى -
{ قُلْ إِنَّ ٱلأَوَّلِينَ وَٱلآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } وقيل إن الضمير فى { رُدُّوۤاْ } يعود على الملائكة. أى: ثم ردوا أولئك الرسل بعد إتمام مهمتهم بإماتة جميع الناس فيموتون هم أيضاً. وجملة { أَلاَ لَهُ ٱلْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ ٱلْحَاسِبِينَ } تذييل ولذلك ابتدىء بأداة الاستفتاح المؤذنة بالتنبيه إلى أهمية الخبر.
أى: ألا له الحكم النافذ لا لغيره وهو - سبحانه - أسرع الحاسبين لأنه لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه الخلائق من تفكر واشتغال بحساب عن حساب.
وبذلك تكون هذه الآيات الثلاث قد أقامت أقوى البراهين وأصحها على كمال قدرة الله، ونفاذ إرادته، ومحاسبته لعباده يوم القيامة على ما قدموا وأخروا.
ثم ساق القرآن لوناً آخر من الدلائل الدالة على كمال قدرة الله وسابغ رحمته وفضله وإحسانه فقال - تعالى -: { قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ }.
قال صاحب الكشاف: ظلمات البر والبحر مجاز عن مخاوفهما وأهوالهما.
يقال لليوم الشديد يوم مظلم ويوم ذو كواكب، أى اشتدت ظلمته حتى عاد كالليل.
وقيل: حمله على الحقيقة أولى فظلمة البر هى ما اجتمع فيه من ظلمة الليل ومن ظلمة السحاب فيحصل من ذلك الخوف الشديد لعدم الاهتداء إلى الطريق الصواب، وظلمة البحر ما اجتمع فيه من ظلمة الليل وظلمة الرياح العاصفة والأمواج الهائلة فيحصل من ذلك أيضاً الخوف الشديد من الوقوع فى الهلاك.
والتضرع: المبالغة فى الضراعة مع الذل والخضوع. والخفية - بالضم والكسر - الخفاء والاستتار. وللكرب الغم الشديد مأخوذ من كرب الأرض وهو إثارتها وقلبها بالحفر. فالغم يثير النفس كما يثير الأرض كاربها.
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء الغافلين من الذى ينجيكم من ظلمات البر والبحر عندما تغشاكم بأهوالها المرعبة، وشدائدها المدهشة، إنكم فى هذه الحالة تلجأون إلى الله وحده تدعونه إعلانا وإسرارا بذلة وخضوع وإخلاص قائلين له: لئن أنجيتنا يا ربنا من هذه الشدائد والدواهى المظلمة لنكونن لك من الراسخين فى الشكر المداومين عليه { قُلِ ٱللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ } أى قل لهم يا محمد: الله وحده هو الذى ينجيكم من هذه المخاوف والأهوال ومن كل غم يأخذ بنفوسكم، ثم أنتم بعد هذه النجاة تشركون معه غيره، مخلفين بذلك وعدكم حانثين فى أيمانكم.
قال الإِمام الرازى: "والمقصود من ذلك أنه عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد لا يرجع الإِنسان إلا إلى الله، وهذا الرجوع يحصل ظاهرا وباطنا، لأن الإِنسان فى هذه الحالة يعظم إخلاصه فى حضرة الله، وينقطع رجاؤه عن كل ما سواه، وهو المراد من قوله { تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } فبين - سبحانه - أنه إذا شهدت الفطرة السليمة والخلقة الأصلية فى هذه الحالة بأن لا ملجأ إلى إلى الله ولا تعويل إلا على فضله، وجب أن يبقى هذا الإِخلاص فى كل الأحوال، لكن الإِنسان ليس كذلك فإنه بعد الفوز بالسلامة والنجاة يحيل تلك السلامة إلى الأسباب الجسمانية ويقدم على الشرك.
ولفظ الآية يدل على أنه عند حصول الشدائد يأتى الإِنسان بأمور:
أحدها: الدعاء.
وثانيها: التضرع.
وثالثها: الإِخلاص بالقلب هو المراد من قوله { وَخُفْيَةً }.
ورابعها: التزام الاشتغال بالشكر. ونظير هذه الآية قوله - تعالى -
{ وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِي ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } وقوله { وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } وبالجملة فعادة أكثر الناس أنهم إذا شاهدوا الأمر الهائل أخلصوا، وإذا انتقلوا إلى الأمن والرفاهية أشركوا به.
ثم بين - سبحانه - قدرته على تعذيبهم تهديدا لهم حتى يخشوا بأسه أثر بيان قدرته على تنجيتهم فقال - تعالى -: { قُلْ هُوَ... }.