التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ ٱلْحَقِّ يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ
١
إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُوۤاْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِٱلسُّوۤءِ وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ
٢
لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٣
-الممتحنة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

افتتحت سورة "الممتحنة" بهذا النداء للمؤمنين، وقد تضمن هذا النداء نهيهم عن موالاة أعداء الله وأعدائهم.
وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآيات روايات منها، ما ذكره الإِمام الآلوسى فقال:
"نزلت فى حاطب بن أبى بلتعة.. فقد أخرج الإِمام أحمد، والبخارى، ومسلم، وأبو داود، والترمذى، والنسائى، وابن حبان، وجماعة عن على بن أبى طالب - رضى الله عنه - قال: بعثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا والزبير والمقداد فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ - وهومكان بين مكة والمدينة - فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها فأتونى به فخرجنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة فقلنا لها: أخرجى الكتاب. فقالت: ما معى من كتاب، فقلنا: أخرجى الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا فيه: من حاطب بن أبى بلتعة، إلى أناس من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر النبى - صلى الله عليه وسلم -.
فقال - صلى الله عليه وسلم - ما هذا يا حاطب،؟ فقال حاطب: لا تعجل علىَّ يا رسول الله إنى كنت إنسانا ملصقا فى قريش، ولم أكن منها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهلهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتنى ذلك من النسب فيها، أن أصطنع إليهم يدا، يحمون بها قرابتى، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن الإِسلام.
فقال عمر: دعنى يا رسول الله أضرب عنقه، فقال، - صلى الله عليه وسلم -: إنه شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"
فنزلت هذه الآيات.
وقد ذكروا أن هذه القصة كانت فى الوقت الذى أعد فيه النبى - صلى الله عليه وسلم - العدة لأجل العمرة، سنة صلح الحديبية، وقيل كانت هذه القصة فى الوقت الذى تهيأ النبى - صلى الله عليه وسلم - لفتح مكة، وكان من بين الذين علموا ذلك حاطب بن أبى بلتعة.
والمراد بالعدو هنا: الأعداء عموما، ويدخل فيهم دخولا أولياء كفار قريش، الذين أرسل إليهم حاطب بن أبى بلتعة خطابه، لكى يحذرهم من مهاجمة المسلمين لهم.
والمراد بالعداوة: العداوة الدينية التى جعلت المشركين، يحرصون كل الحرص على أذى المسلمين، أى: يامن آمنتم بالله - تعالى - إيمانا حقا، احذروا أن تتخذوا أعدائى وأعداءكم أولياء وأصدقاء وحلفاء. بل جاهدوهم وأغلظوا عليهم، واقطعوا الصلة التى بينكم وبينهم.
وناداهم بصفة الإِيمان، لتحريك حرارة العقيدة الدينية فى قلوبهم ولحضهم على الاستجابة لما نهاهم عنه.
وقدم - سبحانه - عداوته للمشركين، على عداوة المؤمنين لهم، لأن عداوة هؤلاء المشركين لله - تعالى - أشد وأقبح، حيث عبدوا غير خالقهم، وشكروا غير رزاقهم، وكذبوا رسل ربهم وآذوهم.
وفى الحديث القدسى:
"إنى والجن والإِنس فى نبأ عظيم. أخلق ويعبد غيرى، وأرزق ويشكر سواى.. خيرى إلى العباد نازل، وشرهم إلى صاعد، أتحبب إليهم بالنعم. ويتبغضون إلى بالمعاصى" .
وعبر - سبحانه - بالاتخاذ الذى هو افتعال من الأخذ، للمبالغة فى نهيهم عن موالاة هؤلاء الأعداء. إذ الاتخاذ يشعر بشدة الملابسة والملازمة.
والمفعول الأول لقوله { تَتَّخِذُواْ } قوله: { عَدُوِّي } والمفعول الثانى قوله: { أَوْلِيَآءَ }.
وقوله - سبحانه -: { تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ } تفسير وتوضيح لهذه الموالاة التى نهوا عنها أو فى موضع الحال من ضمير { لاَ تَتَّخِذُواْ }.
وحقيقة الإِلقاء: قذف ما فى اليد على الأرض أو فى الفضاء، والمراد به هنا: إيصال ما يدخل السرور على قلوب أعدائهم. والباء فى قوله: { بِٱلْمَوَدَّةِ } لتأكيد اتصال الفعل بمفعوله.
أى: احذروا أن تعاملوا أعدائى وأعداءكم معاملة الأصدقاء والحلفاء، بأن تظهروا لهم المودة والمحبة.
ويصح أن تكون الباء للسببية فيكون المعنى: تلقون إليهم بأخباركم التى لا يجوز لكم إظهارها لهم، بسبب مودتكم لهم.
وقد ذكروا أن حاطبا أرسل بهذه الرسالة إلى أهل مكة، عندما تجهز النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه للذهاب إليها لأجل العمرة عام الحديبية، أو لأجل فتح مكة.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: { تُلْقُونَ } بم يتعلق؟ قلت: يجوز أن يتعلق بقوله: { لاَ تَتَّخِذُواْ } حالا من ضميره.. ويجوز أن يكون استئنافا.
والإِلقاء: عبارة عن إيصال المودة والإِفضاء بها إليهم يقال: ألقى إليه خَراشِىَ صدره - أى أسرار صدره - وأفضى إليه بقشوره.
والباء فى { بِٱلْمَوَدَّةِ } إما زائدة مؤكدة للتعدى مثلها فى قوله:
{ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } وإما ثابتة على أن مفعول تلقون محذوف، ومعناه: تلقون إليهم إخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبب المودة التى بينكم وبينهم.
ثم ساق - سبحانه - الأسباب التى من شأنها تحمل المؤمنين على عدم موالاة أعداء الله وأعدائهم، فقال: { وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ ٱلْحَقِّ } أى: لا تتخذوا - أيها المؤمنون - هؤلاء الأعداء أولياء، وتلقون إليهم بالمودة، والحال أن هؤلاء الأعداء قد كفروا بما جاءكم على لسان رسولكم - صلى الله عليه وسلم - من الحق الذى يتمثل فى القرآن الكريم، وفى كل ما أوحاه - سبحانه - إلى رسوله.
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة، تصوير هؤلاء الكافرين، بما ينفر المؤمنين من إلقاء المودة إليهم.
وقوله - تعالى -: { يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمْ } بيان لسبب آخر من الأسباب التى تدعو المؤمنين إلى مقاطعة أعدائهم الكافرين.
وجملة: { يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ } يصح أن تكون مستأنفة لبيان كفرهم، أو فى محل نصب حال من فاعل { كَفَرُواْ } وقوله: { وَإِيَّاكُمْ } معطوف على الرسول، وقدم عليهم على سبيل التشريف لمقامه - صلى الله عليه وسلم - وجملة { أَن تُؤْمِنُواْ } فى محل نصب مفعول لأجله.
أى: أن هؤلاء الكافرين لم يكتفوا بكفرهم بما جاءكم - أيها المؤمنون - من الحق، بل تجاوزوا ذلك إلى محاولة إخراج رسولكم - صلى الله عليه وسلم - وإخراجكم من مكة، من أجل إيمانكم بالله ربكم، وإخلاصكم العبادة له - تعالى -.
وأسند - سبحانه - محاولة الإِخراج إلى جميع الأعداء، لأنهم كانوا راضين بهذا الفعل ومتواطئين على تنفيذه؛ بعضهم عن طريق التخطيط له، وبعضهم عن طريق التنفيذ الفعلى.
والمتأمل فى هذه الجملة الكريمة، يراها قد ساقت أقوى الأسباب وأعظمها، للتشنيع على مشركى قريش، ولإِلهاب حماس المؤمنين من أجل عدم إلقاء المودة إليهم.
وجواب الشرط فى قوله - تعالى -: { إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِي } محذوف للدلالة ما قبله عليه أى: إن كنتم - أيها المؤمنون - قد خرجتم من مكة من أجل الجهاد فى سبيلى، ومن أجل طلب مرضاتى، فاتركوا اتخاذ عدوى وعدوكم أولياء، واتركوا مودتهم ومصافاتهم.
فالمقصود من الجملة الكريمة، زيادة التهييج للمؤمنين، حتى لا يبقى فى قلوبهم أى شىء من المودة نحو الكافرين.
وقوله - سبحانه -: { تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ } بدل من قوله - تعالى -: قبل ذلك: { تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ }. بدل بعض من كل. لأن إلقاء المودة أعم من أن تكون فى السر أو فى العلن.
ويصح أن يكون بدل اشتمال، لأن الإِسرار إليهم بالمودة، مما اشتمل عليه إلقاء المودة إليهم.
وهذه الجملة جىء بها على سبيل العتاب والتعجيب ممن فى قلبه مودة لهؤلاء الكافرين، بعد أن بين الله - تعالى - له، ما يوجب قطع كل صلة بهم.
ومفعول { تُسِرُّونَ } محذوف. أى: ترسلون إليهم أخبار المسلمين سرا، بسبب مودتكم لهم؟ وجملة: { وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ } هى مناط التعجيب ممن يتخذ هؤلاء الأعداء أولياء. أو من يسر إليهم بالمودة، وهى حالية من فاعل { تُلْقُونَ و تُسِرُّونَ }.
أى: تفعلون ما تفعلون من إلقاء المودة إلى عدوى وعدوكم، ومن إسراركم بها إليهم والحال أنى أعلم منهم ومنكم بما أخفيتموه فى قلوبكم، وما أعلنتموه، ومخبر رسولنا - صلى الله عليه وسلم - بذلك.
وما دام الأمر كذلك فكيف أباح بعضكم لنفسه، أن يطلع عدوى وعدوكم على مالا يجوز إطلاعه عليه؟!
قال الآلوسى: قوله: { وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ } فى موضع الحال و { أَعْلَمُ } أفعل تفضيل. والمفضل عليه محذوف. أى: منكم.. و { مَآ } موصولة أو مصدرية، وذكر { مَآ أَعْلَنتُمْ } مع الاستغناء عنه، للإِشارة إلى تساوى العلمين فى علمه - عز وجل -.
ولذا قدم { مَآ أَخْفَيْتُمْ }. وفى هذه الحال إشارة إلى أنه لا طائل لهم فى إسرار المودة إليهم كأنه قيل: تسرون إليهم بالمودة والحال أنى أعلم ما أخفيتم وما أعلنتم، ومطلع رسولى على ما تسرون، فأى فائدة وجدوى لكم فى الإِسرار؟.
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان سوء عاقبة من يخالف أمره فقال: { وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ }.
والضمير فى قوله: { يَفْعَلْهُ } يعود إلى الاتخاذ المفهوم من قوله { لاَ تَتَّخِذُواْ }.
أى ومن يفعل ذلك الاتخاذ لعدوى وعدوكم أولياء. ويلقى إليهم بالمودة، فقد أخطأ طريق الحق والصواب. وضل عن الصراط المستقيم.
ثم بين - سبحانه - حال هؤلاء الأعداء عندما يتمكنون من المؤمنين فقال: { إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُوۤاْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِٱلسُّوۤءِ وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ }.
ومعنى { يَثْقَفُوكُمْ } يظفروا بكم، ويدركوا طلبتهم منكم. وأصل الثقف: الحذق فى إدراك الشىء وفعله، ومنه رجل ثقف إذا كان سريع الفهم، ويقال: ثقفت الرجلَ فى الحرب إذا أدركته وظفرت به.
أى: إن يظفر بكم هؤلاء الأعداء - أيها المؤمنون - ويتمكنوا منكم، يظهروا لكم ما انطوت عليه قلوبهم نحوكم من بغضاء: ولا يكتفون بذلك، بل يمدون إليكم أيديهم بما يضركم، وألسنتهم مما يؤذيكم.
ثم هم بعد كل ذلك يودون ويتمنون أن تصيروا كفارا مثلهم.
فأنت ترى أن الآية الكريمة، قد وضحت أن هؤلاء الكافرين، قد سلكوا فى عداوتهم للمؤمنين كل مسلك، فهم عند تمكنهم من المؤمنين يظهرون حقدهم القديم، ويؤذونهم بأيديهم وألسنتهم، ويتمنون فى جميع الأحوال أن يردوهم بعد إيمانهم كافرين.
وقال - سبحانه -: { وَيَبْسُطُوۤاْ إِلَيْكُمْ.. } للإِشعار بكثرة ما ينزلونه بالمؤمنين من أذى، إذ التعبير بالبسط يدل على الكثرة والسعة.
وقوله: { وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ } معطوف على جملة الشرط والجزاء، ويكون - سبحانه - قد أخبر عنهم بخبرين:
أحدهما: ما تضمنته الجملة الشرطية من عداوتهم للمؤمنين.
وثانيهما: تمنيهم ارتدادهم من الإِيمان إلى الكفر.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف أورد جواب الشرط مضارعا مثله، ثم قال { وَوَدُّواْ } بلفظ الماضى؟
قلت: الماضى وإن كان يجرى فى باب الشرط مجرى المضارع فى علم الإِعراب. فإن فيه نكتة، كأنه قيل: وودوا قبل كل شىء كفركم وارتدادكم. يعنى: أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين جميعا، من قتل الأنفس وتمزيق الأعراض، وردكم كفارا.
وهذا الرد إلى الكفر أسبق المضار عندهم وأولها، لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم، لأنكم بذالون لها دونه. والعدو أهم شىء عنده، أن يقصد أعز شىء عند صاحبه.
ثم بين - سبحانه - الآثار السيئة التى تترتب على ضلالهم عن سواء السبيل فقال: { لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ... }.
والأرحام: جمع رحم والمراد بهم الأقارب، الذين كان بعض المؤمنين يوالون المشركين من أجلهم.
أى: منكم - أيها المؤمنون - من أفشى أسراركم للكافرين، خوفا على أقاربه أو أولاده الذين يعيشون فى مكة مع هؤلاء الكافرين، والحق أنه لن تنفعكم قراباتكم ولا أولادكم الذين توالون المشركين من أجلهم شيئا من النفع يوم القيامة، لأنه فى هذا اليوم { يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } أى يفرق بينكم وبين أقاربكم وأولادكم يوم القيامة، كما قال - تعالى -:
{ فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } وكما قال - سبحانه -: { يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَٰحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } وخص - سبحانه - الأولاد بالذكر مع أنهم من الأرحام، لمزيد المحبة لهم - والحنو عليهم.
قال الشوكانى: وجملة { يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } متسأنفة لبيان عدم نفع الأرحام والأولاد فى ذلك اليوم، ومعنى { يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } يفرق بينكم، فيدخل أهل طاعته الجنة. ويدخل أهل معصيته النار، وقيل: المراد بالفصل بينهم، أنه يفر كل منهم من الآخر من شدة الهول.. قيل: ويجوز أن يتعلق { يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } بما قبله. أى: لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة، فيوقف عليه، ويبتدأ بقوله { يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } والأولى أن يتعلق بما بعده - أى: يفصل بينكم يوم القيامة، فيوقف على { أَوْلاَدُكُمْ } ويبتدأ بيوم القيامة.
وقراءة الجمهور { يُفْصِلُ بَيْنَكُمْ } - بضم الياء وإسكان الفاء وفتح الصاد - على البناء للمجهول. وقرأ عاصم { يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } بفتح الياء وكسر الصاد - على البناء للفاعل، وقرأ حمزة والكسائى { يُفَصِّلُ بَيْنَكُمْ } - بضم الياء وفتح الفاء وتشديد الصاد مع الكسر - بالبناء للفاعل - أيضا -.
وقرأ ابن عامر { يُفَصَّلُ بَيْنَكُمْ } - بضم الياء وفتح الفاء وتشديد الصاد مع الفتح - على البناء للمجهول.
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله: { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أى: والله - تعالى - لا يخفى عليه شىء من أعمالكم، بل هو مطلع عليها اطلاعا تاما وسيجازيكم يوم القيامة بما تستحقونه من ثواب أو عقاب.
هذا، ومن الأحكام والآداب التى أخذها العلماء من الآيات الكريمة ما يأتى:
1 - أن هذه الآيات أصل فى النهى عن موالاة الأعداء ومصافاتهم بأية صورة من الصور، وشبيه بها قوله - تعالى -:
{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } }. وقوله - سبحانه -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ٱلْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } 2 - أن هذه الآيات الكريمة تتجلى فيها رحمة الله - تعالى - بعباده المؤمنين، حيث ناداهم بهذه الصفة مع وقوع بعضهم فى الخطأ الجسيم، وهو إفشاء أسرار المؤمنين لأعدائهم قالوا: وفى هذا رد على المعتزلة الذين يقولون: إن المعصية تنافى الإِيمان.
3 - أن هذه الآيات الكريمة فيها ما فيها من الأساليب الحكيمة فى الدعوة إلى الفضائل واجتناب الرذائل، لأن الله - تعالى - عندما نهى المؤمنين عن موالاة أعدائه وأعدائهم، ساق لهم الأسباب التى تحملهم على قطع كل صلة بهؤلاء الأعداء. بأن ذكر لهم أن هؤلاء الأعداء قد كفروا بالحق، وحرصوا على إخراج الرسول والمؤمنين من ديارهم، وأنهم إن يتمكنوا من المؤمنين، فسينزلون بهم أشد ألوان الأذى.
وهكذا يجب أن يتعلم الدعاة إلى الله - تعالى - أن على رأس الوسائل التى توصلهم إلى النجاح فى دعوتهم، أن يأتوا فى دعوتهم بالأسباب المقنعة لاعتناق الحق، واجتناب الباطل.
4 - أن هذه الآيات الكريمة صريحة فى أن ما يتعلق بالدين والعقيدة، يجب أن يقدم على ما يتعلق بالأرحام والأولاد، لأن الأرحام والأولاد لن تنفع يوم القيامة، وإنما الذى ينفع هو ما يتعلق بالاستجابة لما يفرضه الدين علينا من واجبات وتكاليف.
وبعد هذا النهى للمؤمنين عن موالاة أعداء الله وأعدائهم.. ساقت لهم السورة الكريمة، جانبا من قصة إبراهيم - عليه السلام - الذى تبرأ من كل صلة تربطه بغيره سوى صلة الإِيمان، وإخلاص العبادة لله - تعالى -، وأمرتهم بأن يقتدوا به فى ذلك لينالوا رضا الله - عز وجل - فقال - تعالى -: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ... }.