التفاسير

< >
عرض

عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَٱللَّهُ قَدِيرٌ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٧
لاَّ يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوۤاْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ
٨
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ
٩
-الممتحنة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

"عسى" فعل مقاربة يدل على الرجاء، وإذا صدر من الله - تعالى - كان متحقق الوقوع، لصدوره من أكرم الأكرمين.
قال صاحب الكشاف: "عسى" وعد من الله على عادات الملوك، حيث يقولون فى بعض الحوائج: عسى أو لعل، فلا تبقى شبهة للمحتاج فى تمام ذلك، أو قصد به إطماع المؤمنين.
وقال الجمل فى حاشيته: لما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار، عادى المؤمنون أقرباءهم المشركين وأظهروا لهم العداوة والبراءة. وعلم الله شدة ذلك على المؤمنين، فوعد - سبحانه - المسلمين بإسلام أقاربهم الكفار، فيوالونهم موالاة جائزة، وذلك من رحمته - سبحانه - بالمؤمنين، ورأفته بهم، فقال: { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً }.
والمعنى: عسى الله - تعالى - أن يجعل بينكم - أيها المؤمنون - وبين الذين عاديتموعم من أقاربكم الكفار، مودة ومحبة.. بأن يهديهم إلى الدخول فى دين الإِسلام، فتتحول عداوتكم لهم، إلى أخوة صادقة. وصلة طيبة، ومحبة شديدة.
وقد أنجز الله - تعالى - وعده، فهدى كثيراً من كفار قريش إلى الدخول فى الإِسلام، والتقوا هم وأقاربهم الذين سبقوهم إلى الإِسلام، على طاعة الله ومحبته، والدفاع عن دينه، وبذل أنفسهم وأموالهم فى سبيله.
{ وَٱللَّهُ قَدِيرٌ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أى: والله - تعالى - شديد القدرة على أن يغير أحوال القلوب، فيصبح المشركون مؤمنين، والأعداء أصدقاء، والله - تعالى - واسع المغفرة والرحمة، لمن استجاب لأمره ونهيه، وأقلع عن المعصية إلى الطاعة، ونبذ الكفر وتحول إلى الإِيمان.
فالآية الكريمة بشارة عظيمة للمؤمنين، بأنه - سبحانه - كفيل بأن يجمع شملهم بكثير من أقاربهم الكافرين، وبأن يحول العداء الذى بينهم، إلى مودة ومحبة، بسبب التقاء الجميع على طاعة الله - تعالى - وإخلاص العبادة له.
وقد تم ذلك بصورة موسعة، بعد أن فتحت مكة، ودخل الناس فى دين الله أفواجا.
ثم بين - سبحانه - للمؤمنين القاعدة التى يسيرون عليها فى مودتهم وعداوتهم وصلتهم ومقاطعتهم. فقال - تعالى -: { لاَّ يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوۤاْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ }.
وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآية والتى بعدها روايات منها، ما أخرجه البخارى وغيره
"عن أسماء بنت أبى بكر الصديق قالت: أتتنى أمى راغبة - أى: فى عطائى - وهى مشركة فى عهد قريش ... فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أأصلها؟ فأنزل الله - تعالى -: { لاَّ يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ }.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم صلى أمك"
.
وروى الإِمام أحمد وجماعة عن عبد الله بن الزبير قال: قدمت قتيلة بنت عبد العزى - وهى مشركة - على ابنتها اسماء بنت أبى بكر بهدايا، فأبت أسماء أن تقبل هديتها، أو تدخلها بيتها، حتى أرسلت إلى عائشة، لكى تسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذا، فسألته، فأنزل الله - تعالى -: { لاَّ يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ }.
وقال الحسن وأبو صالح: نزلت هذه الآية فى قبائل من العرب كانوا قد صالحوا النبى - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يقاتلوه، ولا يعينوا عليه.
وقال مجاهد: نزلت فى قوم بمكة آمنوا ولم يهاجروا، فكان المهاجرون والأنصار يتحرجون من برهم، لتركهم فرض الهجرة.
قال الآلوسى - بعد أن ذكر هذه الروايات وغيرهما -: { والأكثرون على أنها فى كفرة اتصفوا بما فى حيز الصلة...
والذى تطمئن إليه النفس أن هاتين الآيتين، ترسمان للمسلمين المنهج الذى يجب أن يسيروا عليه مع غيرهم، وهو أن من لم يقاتلنا من الكفار، ولم يعمل أو يساعد على إلحاق الأذى والضرر بنا، فلا يأس من بره وصلته.
ومن قاتلنا، وحاول إيذاءنا منهم. فعلينا أن نقطع صلتنا به، وأن نتخذ كافة الوسائل لردعه وتأديبه، حتى لا يتجاوز حدوده معنا.
والمعنى: { لاَّ يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ } تعالى - أيها المؤمنون - { عَنِ } مودة وصلة الكافرين { ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ } أى: لم يقاتلوكم من أجل أنكم مسلمون، ولم يحاولوا إلحاق أى أذى بكم، كالعمل على إخراجكم من دياركم.
لا ينهاكم الله - تعالى - عن { أَن تَبَرُّوهُمْ } أى: عن أن تحسنوا معاملتهم وتكرموهم. وعن أن { تُقْسِطُوۤاْ إِلَيْهِمْ } أى تقضوا إليهم بالعدل، وتعاملوهم بمثل معاملتهم لكم، ولا تجوروا عليهم فى حكم من الأحكام.
{ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } أى العادلين فى أقوالهم وأفعالهم وأحكامهم، الذين ينصفون الناس، ويعطونهم العدل من أنفسهم، ويحسنون إلى من أحسن إليهم.
{ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ } - تعالى - { عَنِ } بر وصلة { ٱلَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ } أى قاتلوكم لأجل أنكم على غير دينهم { وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ } التى تسكنونها { وَظَاهَرُواْ عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ }.
أى: وعاونوا غيرهم على إخراجكم من دياركم، يقال: ظاهر فلان فلانا على كذا، إذا عاونه فى الوصول إلى مطلبه.
وقوله: { أَن تَوَلَّوْهُمْ } بدل اشتمال من { ٱلَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ } أى: ينهاكم - سبحانه - عن موالاة، ومواصلة، وبر الذين قاتلوكم فى الدين، وأخرجوكم من دياركم.
{ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ } أى: ومن يبر منكم - أيها المؤمنون - هؤلاء الذين قاتلوكم { فَأُوْلَـٰئِكَ } الذين يفعلون ذلك { هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } لأنفسهم ظلما شديدا يستحقون بسببه العقاب الذى لا يعلمه إلا هو - سبحانه -.
فأنت ترى أن الآية الأولى قد رخصت لنا فى البر والصلة - قولا وفعلا - للكفار الذين لم يقاتلونا لأجل ديننا، ولم يحاولوا الإِساءة إلينا، بينما الآية الثانية قد نهتنا عن البر أو الصلة لأولئك الكافرين، الذين قاتلونا من أجل مخالفتنا لهم فى العقيدة، وحاولوا إخراجنا من ديارنا أو أخرجوا بعضنا بالفعل - وعاونوا غيرهم على إنزال الأذى بنا.
هذا، ويرى بعض العلماء أن الآية الأولى منسوخة.
قال القرطبى: قال ابن زيد: كان هذا فى أول الإِسلام عند الموادعة، وترك الأمر بالقتال، ثم نسخ هذا الحكم.
قال قتادة: نسخها قوله - تعالى -
{ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } والذى عليه المحققون من العلماء، أن الآية محكمة وليست منسوخة، لأنها تقرر حكما يتفق مع شريعة الإِسلام فى كل زمان ومكان، وهو أننا لا نؤذى إلا من آذانا، ولا نقاتل إلا من أظهر العداوة لنا بأية صورة من الصور.
وأقوال النبى - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله تؤيد عدم النسخ، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يستقبل الوفود التى تأتيه لمناقشتها فى بعض الأمور الدينية، مقابلة كريمة، ويتجلى ذلك فيما فعله مع وفد نجران، ووفد تميم وغيرهما.
كذلك مما يؤيد عدم النسخ، أنه لا تعارض بين هذه الآية، وبين آية السيف، لأن الأمر بالقتال إنما هو بالنسبة لقوم يستحقونه، بأن يكونوا قد قالتونا أو أخرجونا من ديارنا، كما جاء فى الآية الثانية.
وأما الرخصة فى البر والصلة، فهى فى شأن الذين لم يقاتلونا ولم يخرجونا من ديارنا، وهذا ما صرحت به الآية الأولى.
ورحم الله الإِمام ابن جرير فقد قال بعد أن ذكر الآراء فى ذلك: وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب قول من قال: عنى بقوله - تعالى -: { لاَّ يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ.. } جميع أصناف الملل والأديان، أن تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم.. ويشمل ذلك من كانت تلك صفته، دون تخصيص لبعض دون بعض.
ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ، لن بر المؤمن من أهل الحرب، ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن لا قرابة بينه ولا نسب، غير محرم، ولا منهى عنه، إذا لم يكن فى ذلك، دلالة له أو لأهل الحرب، على عورة لأهل الإِسلام، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح.
ثم انتقلت السورة الكريمة إل بيان بعض الأحكام التى تتعلق بالنساء المؤمنات، اللاتى تركن أزواجهن الكفار، ورغبن فى الهجرة إلى دار السلام فقال - تعالى -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا.... }.