التفاسير

< >
عرض

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
١
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ
٢
كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ
٣
إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ
٤
-الصف

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

افتتحت سورة "الصف" - كما افتتحت قبلها سورة الحديد والحشر بتنزيه الله - تعالى - عن كل مالا يليق به.
أى: نزه الله - تعالى - وقدسه، جميع ما فى السماوات وجميع ما فى الأرض من مخلوقات، وهو - عز وجل - { ٱلْعَزِيزُ } الذى لا يغلبه غالب { ٱلْحَكِيمُ } فى كل أقواله وأفعاله.
ثم وجه - سبحانه - نداء إلى المؤمنين فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ }.
وقد ذكروا فى سبب نزول هذه الآيات روايات منها: ما روى عن ابن عباس أنه قال: كان أناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لَوَدِدْنا أن الله - عز وجل - دلنا على أحب الأعمال إليه، فنعمل به، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إليه، إيمان به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإِيمان ولم يقروا به.
فلما نزل الجهاد كره ذلك أناس من المؤمنين وشق عليهم أمره، فنزلت هذه الآيات.
وقال قتادة والضحاك: نزلت توبيخا لقوم كانوا يقولون: قتَلْنَا، ضرَبْنَا، طَعَنَّا، وفَعَلنْا، ولم يكونوا فعلوا ذلك.
والاستفهام فى قوله - تعالى -: { لِمَ تَقُولُونَ } للانكار والتوبيخ على أن يقول الإِنسان قولا لا يؤيده فعله، لأن هذا القول إما أن يكون كذبا، وإما أن يكون خلفا للوعد، وكلاهما يبغضه الله - تعالى -.
و { لِمَ } مركبة من اللام الجارة، وما الاستفهامية، وحذفت ألف ما الاستفهامية مع حرف الجر، تخفيفا لكثرة استعمالها معا، كما فى قولهم: بِمَ، وفِيمَ، وعَمَّ.
أى: يا من آمنتم بالله واليوم الآخر.. لماذا تقولون قولا، تخالفه أفعالكم، بأن تزعموا بأنكم لو كلفتم بكذا لفعلتموه، فلما كلفتم به قصرتم فيه، أو أن تقولوا بأنكم فعلتم كذا وكذا، مع أنكم لم تفعلوا ذلك.
وناداهم بصفة الإِيمان الحق، لتحريك حرارة الإِيمان فى قلوبهم، وللتعريض بهم، إذ من شأن الإِيمان الحق أن يحمل المؤمن على أن يكون قوله مطابقا لفعله.
وقوله - سبحانه -: { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } بيان للآثار السيئة التى تترتب على القول الذى يخالفه الفعل.
وقوله: { كَبُرَ } بمعنى عظم، لأن الشىء الكبير، لا يوصف بهذا الوصف، إلا إذا كان فيه كثرة وشدة فى نوعه.
والمقت: البغض الشديد، ومنه قوله - تعالى -
{ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً } وهو منصوب على التمييز المحول عن الفاعل: للإِشعار بأن قولهم هذا مقت خالص لا تشوبه شائبة من الرضا.
أى: كبر وعظم المقت الناشىء عن قولكم قولا لا تطابقه أفعالكم.
وقال - سبحانه -: { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ } للإِشعار بشناعة هذا البغض من الله - تعالى - لهم، بسبب مخالفة قولهم لفعلهم، لأنه إذا كانت هذه الصفة عظيمة الشناعة عند الله، فعلى كل عاقل أن يجتنبها، ويبتعد عنها.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه، ونداؤهم بالإِيمان تهكم بهم وبإيمانهم وهذا من أفصح الكلام وأبلغه فى معناه. وقصد فى "كَبُرَ" التعجب من غير لفظه... ومعنى التعجب: تعظيم الأمر فى قلوب السامعين، لأن التعجب لا يكون إلا من شىء خارج عن نظائره وأشكاله.
وأُسْنِد إلى { أَن تَقُولُواْ } ونُصِب { مَقْتاً } على التمييز، للدلالة على أن قولهم مالا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه، لفَرْط تمكن المقت منه. واختير لفظ المقت، لأنه أشد البغض وأبلغه، ومنه قيل: نكاح المقت - وهو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه -.
وإذا ثبت كِبر مقته عند الله، فقد تم كبره وشدته، وانزاحت عنه الشكوك...
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد ذم الذين يقولون مالا يفعلون ذما شديدا، ويندرج تحت هذا الذم، الكذب فى القول، والخلف فى الوعد، وحب الشخص للثناء دون أن يكون قد قدم عملا يستحق من أجله الثناء.
وبعد أن وبخ - سبحانه - الذين يقولون مالا يفعلون، أتبع ذلك ببيان من يحبهم الله - تعالى - فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ }.
ومبحة الله - تعالى - لشخص، معناها: رضاه عنه، وإكرامه له.
والصف يطلق على الأشياء التى تكون منتظمة فى مظهرها، متناسقة فى أماكنها، والمرصوص: هو المتلاصق الذى انضم بعضه إلى بعض. يقال: رصصت البناء، إذا ألزقت بعضه ببعض حتى صار كالقطعة الواحدة.
والمعنى: أن الله - تعالى - يحب الذين يقاتلون فى سبيل إعلاء دينه قتالا شديدا، حتى لكأنهم فى ثباتهم، واجتماع كلمتهم، وصدق يقينهم.. بنيان قد التصق بعضه ببعض، فلا يستطيع أحد أن ينفذ من بين صفوفه.
فالمقصود بالآية الكريمة: الثناء على المجاهدين الصادقين، الذين يثبتون أمام الأعداء وهم يقاتلونهم، ثباتا لا اضطراب معه ولا تزلزل.
قال الإِمام الرازى: أخبر الله - تعالى - أنه يحب من يثبت فى الجهاد، ويلزم مكانه، كثبوت البناء المرصوص.
ويجوز أن يكون على أن يستوى أمرهم فى حرب عدوهم، حتى يكونوا فى اجتماع الكلمة، وموالاة بعضهم بعضا، كالبنيان المرصوص.
ثم ساق - سبحانه - جانبا مما قاله موسى - عليه السلام - لقومه. وكيف أنهم عندما انصرفوا عن الحق، عاقبهم - سبحانه - بما يستحقون من عقاب فقال: { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ... }.