التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
٩
فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
١٠
وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ ٱللَّهْوِ وَمِنَ ٱلتِّجَارَةِ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ
١١
-الجمعة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والمقصود بالنداء فى قوله - سبحانه -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ... } جميع المكلفين بها، الذين يجب عليهم أداؤها..
وناداهم - سبحانه - بصفة الإِيمان، لتحريك حرارة الإِيمان فى قلوبهم، ولتحريضهم على المسارعة إليها، إذ من شأن المؤمن القوى، أن يكون مطيعا لما يأمره خالقه به.
والمراد بالنداء: الأذان والإِعلام بوقت حلولها.
والمقصود بالصلاة المنادى لها هنا: صلاة الجمعة، بدليل قوله - تعالى -: { مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ }.
واللام فى قوله { لِلصَّلاَةِ } للتعليل، و { مِن } بمعنى فى، أو للبيان، أو للتبعيض، لأن يوم الجمعة زمان، تقع فيه أعمال، منها الصلاة المعهودة فيه وهى صلاة الجمعة لأن الأمر بترك البيع خاص بها، لوجود الخطبة فيها.
وقوله: { فَٱسْعَوْاْ... } جواب الشرط، من السعى، وهو المشى السريع.
والمراد به هنا: المشى المتوسط بوقار وسكينة، وحسن تهيؤ لصلاة الجمعة..
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله: { فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } أى: امشوا إليه بدون إفراط فى السرعة..
فقد أخرج الستة فى كتبهم عن أبى سلمة من حديث أبى هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا" .
والمراد بذكر الله: الخطبة والصلاة جميعا، لاشتمالهما عليه، واستظهر بعضهم أن المراد به الصلاة، وقصره بعضهم على الخطبة...
وإنما عبر - سبحانه - بالسعى لتضمنه معنى زائدا على المشى، وهو الجد والحرص على التبكير، وعلى توقى التأخير.
والمعنى: يامن آمنتم بالله حق الإِيمان، إذا نادى المنادى لأجل الصلاة فى يوم الجمعة، فامضوا إليها بجد، وإخلاص نية، وحرص على الانتفاع بما تسمعونه من خطبة الجمعة، التى هى لون من ألوان ذكر الله - تعالى - وطاعته.
والأمر فى قوله - سبحانه -: { فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ.. } الظاهر أنه للوجوب، لأن الأمر يقتضى الوجوب، ما لم يوجد له صارف عن ذلك، ولا صارف له هنا.
والمراد من البيع هنا: المعاملة بجميع أنواعها، فهو يعم البيع والشراء وسائر أنواع المعاملات.
أى: إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة، فاخرجوا إليها بحرص وسكينة ووقار. واتركوا المعاملات الدنيوية من بيع، وشراء، وإجارة، وغيرها.
وإنما قال - سبحانه -: { وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ... } لأنه أهم أنواع المعاملات، فهو من باب التعبير عن الشىء بأهم أجزائه.
واسم الإِشارة فى قوله - سبحانه -: { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } يعود إلى ما سبق ذكره من الأمر بالسعى إلى ذكر الله، متى نودى للصلاة، وترك الاشتغال بالبيع وما يشبهه.
أى: ذلك الذى أمرتكم به من السعى إلى ذكر الله عند النداء للصلاة من يوم الجمعة، ومن ترك أعمالكم الدنيوية.. خير لكم مما يحصل لكم من رزق فى هذه الأوقات، عن طريق البيع أو الشراء أو غيرهما.
فالمفضل عليه محذوف، لدلالة الكلام عليه، والمفضل هو السعى إلى ذكر الله - تعالى -.
وهذا التفضيل باعتبار أن منافع السعى إلى ذكر الله - تعالى - باقية دائمة، أما المنافع الدنيوية فهى زائلة فانية..
وجواب الشرط فى قوله { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } محذوف: أى: إن كنتم تعلمون ما هو خير لكم، فاسعوا إلى ذكر الله عند النداء للصلاة، واتركوا البيع والشراء.
أو إن كنتم من أهل العلم والفقه السليم للأمور، عرفتم أن امتثال أمر الله - تعلى - بأن تسعوا، إلى ذكره عند النداء لصلاة الجمعة، خير لكم من الاشتغال فى هذا الوقت بالبيع والشراء..
إذ فى هذا الامتثال سعادتكم ونجاتكم من خزى الدنيا وعذاب الآخرة.
ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر تيسيره عليهم فى تشريعاته فقال: { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ... }.
أى: فإذا فرغتم من أداء الصلاة وأقمتموها على أكل وجه، فانتشروا فى الأرض، وامشوا فى مناكبها، لأداء أعمالكم التى كنتم قد تركتموها عند النداء للصلاة، واطلبوا الربح واكتساب المال والرزق، من فضل الله - تعالى - ومن فيض إنعامه، والأمر هنا للإِباحة، لأنه وارد بعد حظر، فهو كقوله - تعالى -:
{ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ... } أى: أن الانتشار فى الأرض بعد الصلاة لطلب الرزق، ليس واجبا عليهم، إذ طلب الرزق قد يكون فى هذا الوقت، وقد يكون فى غيره..
والمقصود من الآية إنما هو تنبيه الناس، إلى أن لهم فى غير وقت الصلاة، سعة من الزمن فى طلب الرزق، وفى الاشتغال بالأمور الدنيوية، فعليهم أن يسعوا إلى ذكر الله، إذا ما نودى للصلاة من يوم الجمعة، وأن يحرصوا على ذلك حرصا تاما، مصحوبا بالنية الطيبة، وبالهيئة الحسنة. وبالمضى المبكر إلى المسجد.
وقوله - سبحانه -: { وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } تحذير لهم من الانتشار فى الأرض لمصالحهم الدنيوية، دون أن يعطو طاعة الله - تعالى - وعبادته، ما تستحقه من عناية ومواظبة.
أى: إذا قضيت الصلاة، فانتشروا فى الأرض لتحصيل معاشكم، دون أن يشغلكم ذلك عن الإِكثار من ذكر الله - تعالى - فى كل أحوالكم، فإن الفلاح كل الفلاح فى تقديم ما يتعلق بأمور الدين، على ما يتعلق بأمور الدنيا، وفى تفضيل ما يبقى على ما يفنى.
والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها ترسم للمسلم التوازن السامى، بين ما يقتضيه دينه، وما تقتضيه دنياه.
إنها تأمره بالسعى فى الأرض، ولكن فى غير وقت النداء للصلاة من يوم الجمعة، ودون أن يشغله هذا السعى عن الإِكثار من ذكر الله، فإن الفلاح فى الإِقبال على الطاعات التى ترضيه - سبحانه -: ومن بين هذه الطاعات أن يكثر الإِنسان من ذكر الله - تعالى -، حتى فى حالة سعيه لتحصيل رزقه.
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بعتاب يحمل فى طياته ثوب التأديب والإِرشاد والتأنيب، لمن آثر مطالب الدنيا على مطالب الآخرة فقال - تعالى -: { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً... }.
قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه: يعاتب - تبارك وتعالى - على ما كان وقع من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة، التى قدمت المدينة يومئذ، فقال: { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً... }.
فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن جابر قال: قدمت عِيرٌ - أى: تجارة - المدينة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة - فخرج الناس، وبقى اثنا عشر رجلا، فنزلت هذه الآية.
وفى رواية عن جابر - أيضا - أنه قال:
"بينما النبى - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة، فقدمت عير إلى المدينة، فابتدرها الناس، حتى لم يبق مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا اثنا عشر رجلا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: والذى نفسى بيده، لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد، لسال بكم الوادى نارا" ونزلت هذه الآية..br>> وفى رواية أن الذين بقوا فى المسجد كانوا أربعين، وأن العير كانت لعبد الرحمن بن عوف، وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر...
وفى رواية أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب، فقدم دحية الكلى بتجارة له. فتلقاه أهله بالدفوف. فخرج الناس.
و "إذا" فى قوله - تعالى -: { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً... } ظرف للزمان الماضى المجرد عن الشرط، لأن هذه الآية نزلت على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد أن انفض عنه من انفض وهو يخطب وقوله: { ٱنفَضُّوۤاْ } من الانفضاض، بمعنى التفرق. يقال: انفض فلان عن فلان إذا تركه وانصرف عنه، وهو من الفض، بمعنى كسر الشىء والتفريق بين أجزائه.
والضمير فى قوله { إِلَيْهَا } يعود للتجارة، وكانت عودته إليها دون اللهو، لأن الانفضاض كان لها بالأصالة، والمراد باللهو هنا: فرحهم بمجىء التجارة واستقبالهم لها بالدفوف، لأنهم كانوا فى حالة شديدة من الفقر وغلاء الأسعار.
والتعبير بأو يشير إلى أن بعض المنفضين قد انفضوا من أجل التجارة، وأن البعض الآخر قد انفض من أجل اللهو.
قال الجمل فى حاشيته: والذى سوغ لهم الخروج وترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - يخطب، أنهم ظنوا أن الخروج بعد تمام الصلاة جائز، لانقضاء المقصود وهو الصلاة، لأنه كان - صلى الله عليه وسلم - فى أول الإِسلام يصلى الجمعة قبل الخطبة كالعيدين، فلما وقعت هذه الواقعة، ونزلت الآية، قدم الخطبة وأخر الصلاة...
وقوله - سبحانه -: { وَتَرَكُوكَ قَآئِماً } جملة حالية من فاعل { ٱنفَضُّوۤاْ } والمقصود بها توبيخهم على هذا التصرف، حيث تركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفا يخطب على المبنر، وانصرفوا إلى التجارة واللهو.
وقوله - سبحانه -: { قُلْ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ ٱللَّهْوِ وَمِنَ ٱلتِّجَارَةِ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } إرشاد لهم إلى ما هو الأنفع والأبقى والأكرم لهم.
أى: قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الذين انفضوا عنك وأنت تخطب.. قل لهم: ما عند الله - تعالى - من ثواب ومن عطاء خير من اللهو الذى يشغلكم عن ذكر الله، ومن التجارة التى تبتغون من ورائها الربح المادى، والمنافع العاجلة.
والله - تعالى - هو خير الرازقين لأنه - سبحانه - هو وحده الذى يقسم الأرزاق، وهو الذى يعطى ويمنع، كما قال - سبحانه -:
{ مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } وقدمت التجارة على اللهو فى صدر الآية، لأن رؤيتها كانت الباعث الأعظم على الانفضاض إليها، وترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - قائما يخطب على المنبر، ولم يبق معه إلا عدد قليل من أصحابه.
وأخرت فى آخر الآية وقدم اللهو عليها، ليكون ذمهم على انفضاضهم أشد وأوجع، حتى لا يعودوا إلى مثل ذلك.
هذا، ومن الأحكام والآداب التى أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى:
1 - فضل يوم الجمعة، وفضل صلاة يوم الجمعة، والتحذير من ترك أدائها.
ومن الأحاديث التى وردت فى هذا المعنى، ما رواه مسلم وأبو داود والنسائى عن أبى هرير، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم. وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا فى يوم الجمعة" .
وروى الشيخان عن أبى هريرة أنه سمع النبى - صلى الله عليه وسلم - يقول: "نحن الآخرون - أى: زمنا - السابقون يوم القيامة قبل غيرهم -، بيد أنهم - أى: اليهود والنصارى - أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، ثم هذا يومهم الذى فرض عليهم - أى: تعظيمه - فاختلفوا فيه فهدانا الله، فالناس لنا فيه تبع: اليهود غدا - أى: السبت - والنصارى بعد غد - أى: الأحد -" .
وروى مسلم والنسائى عن ابن عمر أنه سمع النبى - صلى الله عليه وسلم - يقول على أعواد مبره: "لينتهين أقوام عن وَدْعِهم الجمعات - أى: تركهم صلاة الجمعة - أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين.." .
قال القرطبى ما ملخصه: وإنما سميت الجمعة جمعة، لأنها مشتقة من الجمع حيث يجتمع الناس فيها للصلاة.. وكان يقال ليوم الجمعة: العَرُوبة..
قال البيهقى: وروينا عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب الزهرى، أن مصعب بن عمير، كان أول من جمَّع الجمعة بالمدينة بالمسلمين، قبل أن يهاجر إليها الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ثم قال القرطبى: وأما أول جمعة جمعها - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه، قال أهل السير والتاريخ:
"قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهاجرا حتى نزل بقباء، على بنى عمروا بن عوف، يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حين اشتد الضحى - ومن تلك السنة يعد التاريخ - فأقام بقباء إلى يوم الخميس، وأسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة، فأدركته الجمعة فى بنى سالم بن عوف، فى بطن وادٍ لهم، فجمع بهم وخطب، وهى أول خطبة خطبها بالمدينة، وقال فيها: الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأستغفره، وأستهديه" .
2 - الآية الكريمة وإن كانت قد أمرت المؤمنين بالسعى إلى صلاة الجمعة عند النداء لها، إلا أن هناك أحاديث متعددة تحض على التبكير بالحضور إليها، وبالغسل لها، وبمس الطيب، وبالحضور إليها على أحسن حالة..
ومن تلك الأحاديث ما رواه الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة - أى: كغسل الجنابة - ثم راح إلى المسجد، فكأنما قرب بدنة - أى: ناقة ضخمة.. ومن راح فى الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح فى الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن - أى له قرون - ومن راح فى الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح فى الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإِمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر" .
وروى ابن ماجه عن ابن مسعود قال: سمعت النبى - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الناس يجلسون يوم القيامة على قدر تراوحهم إلى الجمعات، الأول ثم الثانى ثم الثالث ثم الرابع، وما رابع أربعة من الله ببعيد" .
وروى الشيخان عن أبى سعيد الخدرى، عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "على كل مسلم الغسل يوم الجمعة، ويلبس من صالح ثيابه، وإن كان له طيب مس منه.." .
3 - أخذ العلماء من قوله - تعالى -: { ... إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ .. } أن صلاة الجمعة فريضة محكمة، وأن السعى لأدائها واجب، وأن ترك ذلك محرم شرعا..
ومن المعروف بين العلماء أن الأمر يقتضى الوجوب، ما لم يوجد له صارف، ولا صارف له هنا..
قال الإِمام القرطبى: فرض الله - تعالى - الجمعة على كل مسلم، ردا على من يقول: إنها فرض على الكفاية، ونقل عن بعض الشافعية أنها سنة.
وجمهور الأمة والأئمة أنها فرض على الأعيان، لقوله - تعالى -: { ... إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ... }.
وثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"لينتهِيَنَّ أقوامٌ عن وَدْعِهم الجُمُعَاتِ أو ليخَتِمَنَّ الله على قلوبهم ثم ليكونُنَّ من الغافلين" .
وهذا حجة واضحة فى وجوب الجمعة وفرضيتها...
قال بعض العلماء: جاء فى الآية الكريمة الأمر بالسعى، والأمر للوجوب فيكون السعى واجبا، وقد أخذ العلماء من ذلك أن الجمعة فريضة، لأنه - سبحانه - قد رتب الأمر للذكر على النداء للصلاة، فأذا كان المراد بالذكر هو الصلاة، فالدلالة ظاهرة، لأنه لا يكون السعى لشىء واجبا، حتى يكون ذلك الشىء واجبا.
وأما إذا كان المراد بالذكر الخطبة فقط، فهو كذلك لأن الخطبة شرط الصلاة، وقد أمر بالسعى إليه، والأمر للوجوب، فإذا وجب السعى للمقصود تبعا، فما ذلك إلا لأن المقصود بالذات واجب..
كما أن الاشتغال بالبيع أو الشراء وقت النداء محرم، لأن الأمر للوجوب، وقال بعضهم: هو مكروه كراهة تحريم...
ومما يدل على أن صلاة الجمعة فريضة محكمة، وأن السعى إليها واجب، وأن الاشتغال عنها بالبيع أبو الشراء محرم، ما جاء فى الأحاديث من الأمر بالمحافظة عليها، ومن التحذير من تركها، ومن ذلك ما رواه أبو داود من حديث أبى الجعد، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"من ترك ثلاث جمع تهاونا بها، طبع الله على قلبه" .
4 - قوله - تعالى -: { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ.. } يدل دلالة واضحة، على سمو شريعة الإِسلام، وعلى سماحتها ويسرها، وجمعها بين مطالب الدنيا ومطالب الآخرة.
ومع أن هذا الأمر بالانتشار بعد الصلاة للإِباحة - كما سبق أن قلنا - إلا أن بعض السف كان إذا انتهت الصلاة، خرج من المسجد، ودار فى السوق ساعة، ثم رجع إلى المسجد فصلى ما شاء أن يصلى.
قال الإِمام ابن كثير: كان عراك بن مالك - أحد كبار التابعين - إذا صلى الجمعة، انصرف فوقف على باب المسجد وقال: اللهم إنى أجبت دعوتك وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتنى، فارزقنى من فضلك وأنت خير الرازقين...
هذا، وهناك أحكام أخرى توسع المفسرون والفقهاء فى الحديث عنها، فليرجع إليها من شاء المزيد من معرفة هذه الأحكام والآداب..
وبعد فهذا تفسير لسورة "الجمعة" نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه، ونافعا لعباده..
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.