التفاسير

< >
عرض

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ٱلْمَلِكِ ٱلْقُدُّوسِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ
١
هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٢
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٣
ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ
٤
-الجمعة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

افتتحت سورة "الجمعة" كغيرها من أخواتها "المسبحات" بالثناء على الله - تعالى - وببيان أن المخلوقات جميعها، تسبح بحمده - تعالى - وتقدس له.
والتسبيح: تنزيه الله - تعالى - عما لا يليق به، اعتقادا وقولا وعملا مأخوذ من السبح وهو المر السريع فى الماء أو الهواء، لأن المسبح لله، - تعالى - مسرع فى تنزيهه - تعالى - وتبرئته من كل سوء.
وقوله: { ٱلْقُدُّوسِ } من التقديس بمعنى التعظيم والتطهير وغير ذلك من صفات الكمال.
أى: أن التسبيح: نفى ما لا يليق بذاته - تعالى -، والتقديس: إثبات ما يليق بجلاله - سبحانه - والمعنى: ينزه الله - تعالى - ويبعده عن كل نقص، جميع ما فى السماوات، وجميع ما فى الأرض من مخلوقات، فهو - سبحانه - { ٱلْمَلِكِ } أى: المدبر لشئون هذا الكون، المتصرف فيه تصرف المالك فيما يملكه..
{ ٱلْقُدُّوسِ } أى: البليغ فى الطهارة وفى التنزه عن كل نقص، من القُدْس - ضم القاف وسكون الدال - بمعنى الطهر، وأصله القَدَس - بفتح القاف والدال - وهو الإِناء الذى يكون فيه ما يتطهر به، ومنه القادوس وهو إناء معروف.
{ ٱلْعَزِيزِ } الذى لا يغلبه غالب { ٱلْحَكِيمِ } فى كل أقواله وأفعاله وتصرفاته.
هذا، ومن الآيات الكثيرة الدالة على أن جميع من فى السماوات ومن فى الأرض، يسبحون لله - تعالى - قوله - عز وجل -:
{ تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَاوَاتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً.. } ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله على خلقه، فقال: { هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ... }.
وقوله: { ٱلأُمِّيِّينَ } جمع أمى، وهو صفة لموصوف محذوف. أى: فى الناس أو فى القوم الأميين، والمراد بهم العرب، لأن معظمهم كانوا لا يعرفون القراءة والكتابة.
وسمى من لا يعرف القراءة والكتابة بالأمى، لغلبة الأمية عليه، حتى لكأن حاله بعد تقدمه فى السن، كحاله يوم ولدته أمه فى عدم معرفته للقراء ة والكتابة.
و "من" فى قوله - تعالى -: { مِّنْهُمْ } للتبعيض، باعتبار أنه واحد منهم، ويشاركهم فى بعض صفاتهم وهى الأمية.
وقوله: { يَتْلُواْ... } من التلاوة، وهى القراءة المتتابعة المرتلة، التى يكون بعضها تلو بعض.
وقوله: { وَيُزَكِّيهِمْ } من التزكية بمعنى التطهير والتنقية من السوء والقبائح.
والمراد بالكتاب: القرآن، والمراد بتعليمه: بيان معانيه وحقائقه، وشرح أحكامه وأوامره ونواهيه..
والمراد بالحكمة: العلم النافع، المصحوب بالعمل الصالح، وفى وضعها إلى جانب الكتاب إشارة إلى أن المقصود بها السنة النبوية المطهرة، إذ بالكتاب وبالسنة، يعرف الناس أصلح الأقوال والأفعال، وأعدل الأحكام وأقوم الآداب، وأسمى الفضائل..
أى: هو - سحبانه - وحده، الذى { بَعَثَ } بفضله وكرمه، { فِي } العرب { ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً } كريما عظيما، كائنا { مِّنْهُمْ } أى: من جنسهم يعرفون حسبه ونسبه وخلقه.. هذا الرسول الكريم أرسلناه إليهم، ليقرأ عليهم آيات الله - تعالى - التى أنزلها عليه لهدايتهم وسعادتهم، متى آمنوا بها، وعملوا بما اشتملت عليه من توجيهات سامية..
وأرسلناه إليهم - أيضا - ليزكيهم، أى: وليطهرهم من الكفر والقبائح والمنكرات وليعلمهم الكتاب، بأن يحفظهم إياه، ويشرح لهم أحكامه، ويفسر لهم ما خفى عليهم من ألفاظه ومعانيه.
وليعلمهم - أيضا - الحكمة. أى: العلم النافع المصحوب بالعمل الطيب وصدر - سبحانه - الآية الكريمة بضمير اسم الجلالة، لتربية المهابة فى النفوس، ولتقوية ما اشتملت عليه من نعم وأحكام، إذ هو - سبحانه - وحده الذى فعل ذلك لا غيره.
وعبر - سبحانه - بفى المفيدة للظرفية فى قوله - تعالى -: { فِي ٱلأُمِّيِّينَ }. للإِشعار بأن هذا الرسول الكريم الذى أرسله إليهم، كان مقيما فيهم، وملازما لهم، وحريصا على أن يبلغهم رسالة الله - تعالى - فى كل الأوقات والأزمان.
والتعبير بقوله: { مِّنْهُمْ } فيه ما فيه من دعوتهم إلى الإِيمان به، لأن هذا الرسول الكريم، ليس غريبا عنهم، بل هو واحد منهم شرفهم من شرفه، وفضلهم من فضله..
وهذه الآية الكريمة صريحة فى أن الله - تعالى - قد استجاب دعوة نبيه إبراهيم - عليه السلام - عندما دعاه بقوله:
{ رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ.. } وقد جاء ترتيب هذه الآية الكريمة وأمثالها فى أسمى درجات البلاغة والحكمة، لأن أول مراحل تبليغ الرسالة، يكون بتلاوة القرآن، ثم ثنى - سبحانه - بتزكيه النفوس من الأرجاس، ثم ثلث بتعليم الكتاب والحكمة لأنهما يكونان بعد التبليغ والتزكية للنفوس.
ولذا قالوا: إن تعليم الكتاب غير تلاوته، لأن تلاوته معناها، قراءته قراءة مرتلة، أما تعليمه فمعناه: بيان أحكامه، وشرح ما خفى من ألفاظه وأحكامه..
فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة، قد اشتملت على جملة من الصفات الجليلة التى منحها - سبحانه - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -.
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك حال الناس قبل بعثته - صلى الله عليه وسلم - فقال: { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }.
وهذه الجملة الكريمة فى موضع الحال من قوله: { هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ... } و "إن" فى قوله { وَإِن كَانُواْ... } مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف..
أى: هو - سبحانه - بفضله وكرمه، الذى بعث فى الأميين رسولا منهم، وحالهم أنهم كانوا قبل إرسال هذا الرسول الكريم فيهم، فى ضلال واضح لا يخفى أمره على عاقل، ولا يلتبس قبحه على ذى ذوق سليم, وحقا لقد كان الناس قبل أن يبزغ نور الإِسلام، الذى جاء به النبى - صلى الله عليه وسلم - من عند ربه، فى ضلال واضح، وظلام دامس، من حيث العقائد والعبادات، والأخلاق والمعاملات..
فكان من رحمة الله - تعالى - بهم، أن أرسل فيهم رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - لكى يخرجهم من ظلمات الكفر والفسوق والعصيان، إلى نور الهداية والاستقامة والإِيمان.
ثم بين - سبحانه - أن رسالة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - لن يكون نفعها مقصورا على المعاصرين له والذين شاهدوه.. بل سيعم نفعها من سيجيئون من بعدهم، فقال - تعالى -: { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ... }.
وقوله: { وَآخَرِينَ } جمع آخر بمعنى الغير، والجملة معطوفة على قوله قبل ذلك { فِي ٱلأُمِّيِّينَ... } فيكون المعنى:
هو - سبحانه - الذى بعث فى الأميين رسولا منهم، كما بعثه فى آخرين منهم.
{ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } أى: لم يجيئوا بعد، وهم كل من يأتى بعد الصحابة من أهل الإِسلام إلى يوم القيامة، بدليل قوله - تعالى -:
{ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ ... } أى: وأوحى إلى هذا القرآن لأنذركم به يا أهل مكة، ولأنذر به جميع من بلغه هذا الكتاب، ووصلت إليه دعوته من العرب وغيرهم إلى يوم القيامة..
وفى الحديث الشريف:
"بلغوا عن الله - تعالى - فمن بلغته آية من كتاب الله، فقد بلغه أمر الله" .
وعن محمد بن كعب قال: من بلغه القرآن فكأنما رأى النبى - صلى الله عليه وسلم -...
ويصح أن يكون قوله: { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ... } معطوف على الضمير المنصوب فى قوله: { وَيُعَلِّمُهُمُ... } فيكون المعنى:
هو الذى بعث فى الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويعلم آخرين منهم { لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } أى: لم يجيئوا بعد وسيجيئون... وهم كل من آمن بالرسول من بعد الصحابة إلى يوم القيامة.
قال صاحب الكشاف: وقوله: { وَآخَرِينَ } مجرور عطف على الأميين يعنى: أنه بعثه فى الأميين الذين على عهده، وفى آخرين من الأميين الذين لم يلحقوا بهم بعد، وسيلحقون بهم، وهم الذين بعد الصحابة.
وقيل: لما نزلت قيل:
"من هم يا رسول الله، فوضع يده على سلمان ثم قال: لو كان الإِيمان عند الثريا لتناوله رجال من هؤلاء" .
وقيل: هم الذين يأتون من بعدهم إلى يوم القيامة.
ويجوز أن ينتصب عطفا عل المنصوب فى { وَيُعَلِّمُهُمُ } أى يعلمهم ويعلم آخرين، لأن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مستندا إلى أوله، فكأنه هو الذى تولى كل ما وجد منه...
والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها تشير ‘لى أن دعوة النبى - صلى الله عليه وسلم - ستبلغ غير المعاصرين له - صلى الله عليه وسلم - وأنهم سيتبعونها، ويؤمنون بها، ويدافعون عنها..
وهذا ما أيده الواقع، فقد دخل الناس فى دين الله أفواجا من العرب ومن غير العرب، ومن أهل المشارق والمغارب..
فالآية الكريمة تخبر عن معجزة من معجزات القرآن الكريم، ألا وهى الإِخبار عن أمور مستقبلة أيدها الواقع المشاهد.
وقوله - تعالى -: { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } تذييل المقصود به بيان أن قدرته - تعالى - لا يعجزها شىء، وأن حكمته هى أسمى الحكم وأسدها.
أى: وهو - سبحانه - العزيز الذى لا يغلب قدرته شىء، الحكيم فيما يريده ويقدره ويوجده.
واسم الإِشارة فى قوله: { ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ... } يعود إلى ما تقدم ذكره من كرمه - تعالى - على عباده، حيث اختص رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - بهذه الرسالة الجامعة لكل خير وبركة، وحيث وفق من وفق من الأميين وغيرهم، إلى اتباع هذا الرسول الكريم..
أى: ذلك البعث منا لرسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - لكى يهدى الناس بإذننا إلى الصراط المستقيم، هو فضلنا الذى نؤتيه ونخصه لمن نشاء اختصاصه به من عبادنا..
{ وَٱللَّهُ } - تعالى -: هو { ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } الذى لا يقاربه فضل، ولا يدانيه كرم.
كما قال - سبحانه -:
{ قُلْ إِنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } ثم انتقلت السورة الكريمة - بعد هذا البيان - لفضل الله - تعالى - على نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وعلى من أرسله لهدايتهم، إلى الحديث عن جانب من رذائل اليهود، وأمرت النبى - صلى الله عليه وسلم - أن يتحداهم وأن يرد على أكاذيبهم.. فقال - تعالى: { مَثَلُ ٱلَّذِينَ... }.