التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ
٥
سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ
٦
هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ
٧
يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ
٨
-المنافقون

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآيات روايات متعددة، فصلها الإِمام ابن كثير -رحمه الله - فقال ما ملخصه:
وقد ذكر غير واحد من السلف أن هذا السياق نزل فى عبد الله بن أبى بن سلول وأتباعه، فقد ذكر محمد بن إسحاق، أنه لما قدم النبى - صلى الله عليه وسلم - المدينة بعد غزوة أحد، قام عبد الله بن أبى، والرسول - صلى الله عيه وسلم - يخطب للجمعة، فقال: أيها الناس، هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكرمكم الله به.. فأخذ بعض المسلمين بثيابه من نواحيه وقالوا له: اجلس يا عدو الله، لست لهذا المقام بأهل، وقد صنعت ما صنعت - يعنون مرجعه بثلث الناس دون أن يشتركوا فى غزوة أحد -.
فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول: والله لكأنما قلت بَجْرًا - أى: أمرا منكرا - أن قمت أشدد أمره.
فلقيه رجال من الأنصار بباب المسجد، فقالوا له: ويلك، مالك؟ .. ارجع للنبى يستغفر لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: والله ما أبتغى أن يستغفر لى.
وفى رواية أنه قيل له: لو أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألته أن يستغفر لك، فجعل يلوى رأسه ويحركه استهزاء..
ثم قال الإِمام ابن كثير -رحمه الله - ما ملخصه: وذكر ابن إسحاق فى حديثه عن غزوة بنى المصطلق - وكانت فى شعبان من السنة الخامسة من الهجرة -
"أن غلاما لعمر بن الخطاب - رضى الله عنه - اسمه الجهجاه بن سعيد الغفارى تزاحم على ماء مع رجل من الأنصار اسمه سنان بن وَبْر..
فقال سنان: يا معشر الأنصار، وقال الجهجاه: يا معشر المهاجرين. فغضب عبد الله بن أبى - وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم - وقال: أو قد فعلوها؟!! قد نافرونا وكاثرونا فى بلادنا. والله ما مثلنا وجلابيب قريش - يعنى المهاجرين - إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك والله لئن رجعنا إلى المدينة، ليخرجن الأعز منها الأذل.
فذهب زيد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الخبر..
فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله، مر عباد بن بشر فليضرب عنق عبد الله بن أبى بن سلول.
فقال - صلى الله عليه وسلم -: فكيف إذا الناس تحدث يا عمر، أن محمدا يقتل أصحابه؟ لا، ولكن ناد يا عمر فى الناس بالرحيل.
فلما بلغ عبد الله بن أبى أن ذلك قد بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه فاعتذر إليه، وحلف بالله ما قال الذى قاله عنه زيد بن أرقم..
وراح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهجرا فى ساعة كان لا يروح فيها، فلقيه أسيد بن الحضير، فقال له: يا رسول الله، لقد رحت فى ساعة ما كنت تروح فيها.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما بلغك ما قال صاحبك بن أبى؟ زعم أنه إذا قدم المدينة أنه سَيُخْرِجُ الأعزُّ منها الأذلَّ.
فقال أسيد: فأنت يا رسول الله العزيز وهو الذليل..
وإنما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى هذا الوقت الذى لم يتعود السفر فيه، ليشغل الناس عن الحديث، الذى كان من عبد الله بن أبى"
.
قال ابن إسحق: ونزلت سورة المنافقين فى ابن أبىّ وأتباعه، فلما نزلت أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأذن زيد بن أرقم ثم قال: "هذا الذى أوفى الله بأذنه" .
وفى رواية أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى زيد فقرأها عليه ثم قال: "إن الله قد صدقك" ثم قال ابن إسحاق: وبلغنى أن عبد الله بن عبد الله بن أبى بلغه ما كان من أمر أبيه، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: " يا رسول الله بلغنى أنك تريد قتل أبى.. فإن كنت فاعلا، فمرنى به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده منى، وإنى أخشى أن تأمر غيرى بقلته، فلا تدعنى نفسى أن أرى قاتل أبى يمشى على الأرض فأقتله، فأكون قد قتلت مؤمنا بكافر، فأدخل النار.
فقال - صلى الله عليه وسلم -: بل نترفق به ونحسن صحبته، ما بقى معنا"
.
وذكر عكرمة وابن زيد وغيرهما: أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة، وقف عبد الله بن عبد الله بن أبى على باب المدينة، واستل سيفه، فجعل الناس يمرون عليه، فلما جاء أبوه قال له: وراءك فقال له أبوه: ويلك مالك؟ فقال: والله لا تجوز من ها هنا حتى يأذن لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه العزيز وأنت الذليل.
فلما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يسير فى مؤخرة الجيش شكا إليه عبد الله بن أبى ما فعله ابنه عبد الله معه.
فقال ابنه: والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له. فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فقال عبد الله لأبيه: أما إذ أذن لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجز الآن.
والآن وبعد ذكر جانب من هذه الآثار التى وردت فى سبب نزول هذه الآيات، نعود إلى تفسيرها فنقول وبالله التوفيق.
قوله - تعالى -: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ.. } بيان لصفة أخرى من صفات المنافقين، تدل على عنادهم وإصرارهم على كفرهم ونفاقهم.
والقائل لهم: { تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ } جماعة من المؤمنين، على سبيل النصح لهؤلاء المنافقين لعلهم يقلعون عن كفرهم وفجورهم.
والمراد باستغفار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم: توبتهم من ذنوبهم، وتركهم لنفاقهم، وإعلان ذلك أمامه - صلى الله عليه وسلم - لكى يدعو الله - تعالى - لهم بقبول توبتهم.
وقوله: { لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ } من اللى بمعنى الإِمالة من جانب إلى آخر، يقال: لوى فلان رأسه، إذا أمالها وحركها، وهو كناية عن التكبر والإِعراض عن النصيحة.
أى: وإذ قال قائل لهؤلاء المنافقين: لقد نزل فى شأنكم ما نزل من الآيات القرآنية التى تفضحكم.. فتوبوا إلى الله توبة نصوحا، وأقلعوا عن نفاقكم، وأقبلوا نحو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقلب سليم، لكى يستغفر الله - تعالى - لكم، بأن يلتمس منه قبول توبتكم.. ما كان من هؤلاء المنافقين، إلا أن تكبروا ولجوا فى طغيانهم، وأمالوا رءوسهم استهزاء وسخرية ممن نصحهم.
{ وَرَأَيْتَهُمْ } أيها المخاطب { يَصُدُّونَ } أى: يعرضون عن النصيحة { وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } عن قبولها، لانطماس بصائرهم، وإصرارهم على ما هم فيه من باطل وجحود للحق.
قال الآلوسى ما ملخصه: روى أنه لما صدق الله - تعالى - زيد بن أرقم فيما أخبر به عن ابن أبى، مقت الناس ابن أبى، وقال له بعضهم: امض إلى رسول الله - صلى الله عيه وسلم - واعترف بذنبك، يستغفر لك، فلوى رأسه إنكارا لهذا الرأى، وقال لهم: لقد أشرتم على بالإِيمان فآمنت، وأشرتم على بأن أعطى زكاة مالى فأعطيت.. ولم يبق لكم إلا أن تأمرونى بالسجود لمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
وفى حديث أخرجه أحمد والشيخان.. أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاهم ليستغفر لهم، فلووا رءوسهم...
وقوله: { يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ... } مجزوم فى جواب الأمر، وهو قوله: { تَعَالَوْاْ } وقوله: { لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ } جواب { إِذَا }.
والتعبير بقوله: { تَعَالَوْاْ } تتضمن إرادة تخليص هؤلاء المنافقين مما هم فيه من ضلال، وإرادة ارتفاعهم من انحطاط هم فيه إلى علو يدعون إليه، لأن الأصل فى كله "تعالى" أن يقولها من كان فى مكان عال، لمن هو أسفل منه.
والتعبير بقوله - تعالى -، { وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } يرسم صورة بغيضة لهم وهم يتركون دعوة الناصح لهم، بعناد وتكبر وغرور، وبراهم الرائى بعينه وهم على تلك الصورة المنكرة، التى تدل على جهالاتهم وإعراضهم عن كل خير.
وقوله - سبحانه -: { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ.. } تيئيس له - صلى الله عليه وسلم - من إيمانهم، ومن قبولهم للحق.
ولفظ "سواء" اسم مصدر بمعنى الاستواء، والمراد به الفاعل. أى: مستو، ولذلك يوصف به كما يوصف بالمصدر، كما فى قوله - تعالى -:
{ قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ... } أى: مستوية.
أى: إن هؤلاء الراسخين فى الكفر والنفاق، قد استوى عندهم استغفارك لهم وعدم استغفارك، فهم لتأصل الجحود فيهم صاروا لا يفرقون بين الحق والباطل، ولا يؤمنون بثواب أو عقاب.. ولذلك فلن يغفر الله - تعالى - لهم مهما حرصت على هدايتهم وصلاحهم.
وقوله - سبحانه -: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ } تعليل لانتفاء المغفر من الله - تعالى - لهم.
أى: لن يغفر الله - تعالى - لهم، لأن سنته - سبحانه - قد اقتضت أن لا يهدى إلى طاعته، وأن لا يشمل بمغفرته، من فسق عن أمره، وآثر الباطل على الحق، والكفر على الإِيمان، لسوء استعداده، واتباعه لخطوات الشيطان.
وقوله - سبحانه -: { هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ... } كلام مستأنف جار مجرى التعليل لفسقهم، وحكاية لجانب من أقوالهم الفاسدة.. والقائل هو عبد الله بن أبى، كما جاء فى روايات أسباب النزول لهذه الآيات، والتى سبق أن ذكرنا بعضها.
ونسب - سبحانه - القول إليهم جميعا، لأنهم رضوا به، وقبلوه منه.
ومرادهم بمن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المهاجرون الذين تركوا ديارهم فى مكة، واستقروا بالمدينة.
أى: إن هؤلاء المنافقين لن يغفر الله - تعالى - لهم، لأنهم فسقوا عن أمره، ومن مظاهر فسوقهم وفجورهم، أنهم أيدوا زعيمهم فى النفاق، عندما قال لهم: لا تنفقوا على من عند رسول الله من فقراء المهاجرين، ولا تقدموا لأحد منهم عونا أو مساعدة، حتى ينفضوا من حوله. أى: حتى يتفرقوا من حوله. يقال: انفض القوم: إذا فنيت أزوادهم يقال: نفض الرجل وعاءه من الزاد فانفض، إذا انتهى زاده وليس مرادهم حتى ينفضوا ويتفرقوا عنه، فإذا فعلوا ذلك فانفقوا عليهم. وإنما مرادهم، استمروا على عدم مساعدتكم لهم، حتى يتركوا المدينة، وتكون مسكنا لكم وحدكم.
وقوله - سبحانه -: { وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ }.
والخزائن: جمع خزينة، وهى ما يخزن فيها المال والطعام وما يشبههما، والمراد بها أرزاق العباد التى يمنحها الله - تعالى - لعباده.
أى: ولله - تعالى - وحده لا لأحد غيره، ملك أرزاق العباد جميعا: فيعطى من يشاء، ويمنع من يشاء، ولكن المنافقين لا يفقهون ذلك ولا يدركونه، لجهلهم بقدرة الله - تعالى -، ولاستيلاء الجحود والضلال على نفوسهم.
ثم حكى - سبحانه - قولا آخر من أقوالهم القبيحة فقال: { يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ.. }.
والقائل هو عبد الله بن سلول، ولكن القرآن نسب القول إليهم جميعا لأنهم رضوا بقوله، ووافقوه عليه.
وجاء الأسلوب بصيغة المضارع، لاستحضار هذه المقالة السيئة، وتلك الصورة البغيضة لهؤلاء القوم.
والأعز: هو القوى لعزته، بمعنى أنه يغلب غيره، والأذل هو الذى يغلبه غيره لذلته وضعفه.
وأراد عبد الله بن أبى بالأعز، نفسه، وشيعته من المنافقين، وأراد بالأذل، الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المهاجرين وغيرهم من المؤمنين الصادقين.
والمراد بالرجوع فى قوله { لَئِن رَّجَعْنَآ } الرجوع إلى المدينة بعد انتهاء غزوة بنى المصطلق.
أى: يقول هؤلاء المنافقون - على سبيل التبجح وسوء الأدب - لئن رجعنا إلى المدينة بعد انتهاء هذه الغزوة، ليخرجن الفريق الأعز منا الفريق الأذل من المدينة، حتى لا يبقى فيها أحد من هذا الفريق الأذل، بل تصبح خالية الوجه لنا. وقد رد الله - تعالى - على مقالتهم الباطلة هذه بما يخرس ألسنتهم فقال: { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }.
أى: لقد كذب المنافقون فيما قالوا، فإن لله - تعالى - وحده العزة المطلقة والقوة التى لا تقهر، وهى - أيضا - لمن أفاضها عليه من رسله ومن المؤمنين الصادقين، وهى بعيدة كل البعد عن أولئك المنافقين.
وقال - سبحانه -: { وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } بإعادة حرف الجر، لتأكيد أمر هذه العزة، وأنها متمكنة منهم لأنها مستمدة من إيمانهم بالله - تعالى - وحده.
وقوله - تعالى -: { وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } استدرك قصد به تجهيل هؤلاء المنافقين، أى: ليست العزة إلا لله - تعالى - ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنافقين لا يعلمون ذلك، ولا يعرفونه لاستيلاء الجهل والغباء عليهم، لأنهم لو كانت لهم عقول تعقل، لعلموا أن العزة لدعوة الحق، بدليل انتشارها فى الآفاق يوما بعد يوم، وانتصار أصحابها على أعدائهم حينا بعد حين، وازدياد سلطانهم وقتا بعد وقت.
قال صاحب الكشاف قوله - تعالى -: { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ... } أى: الغلبة والقوة لله - تعالى -، ولمن أعزه الله وأيده من رسوله، ومن المؤمنين، وهم الأخصاء بذلك، كما أن المذلة والهوان، للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين.
وعن الحسن بن على - رضى الله عنهما - أن رجلا قال له: إن الناس يزعمون أن فيك تيها، قال: ليس بتيه، ولكنه عزة، وتلا هذه الآية.
وقال الإِمام الرازى: العزة غير الكبر، ولا يحل للمؤمن أن يذل نفسه - لغير الله - فالعزة معرفة الإِنسان بحقيقة نفسه، وإكرامها عن أن يضعها فى غير موضعها اللائق بها، كما أن الكبر جهل الإِنسان بنفسه، وإنزالها فوق منزلتها، فالعزة تشبه الكبر من حيث الصورة، وتختلف من حيث الحقيقة، كاشتباه التواضع بالضعة، فالتواضع محمود، والضعة مذمومة، والكبر مذموم والعزة محمودة...
هذا، وإن المتدبر لهذه الآيات الكريمة وفى أسباب نزولها، ليرى فيها ألوانا من العظات والعبر.
يرى فيها التصرف الحكيم من الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ أنه - صلى الله عليه وسلم - بمجرد أن بلغته تلك الأقوال التى قالها عبد الله بن أبى، لكى يثير الفتنة بين المسلمين، ما كان منه إلا أن أمر عمر ابن الخطاب، بأن ينادى فى الناس بالرحيل.. لكى يشغل الناس عما تفوه به ابن أبى، حتى لا يقع بينهم ما لا تحمد عقباه.
كما يرى كيف أنه - صلى الله عليه وسلم - عالج تلك الأحداث بحكمة حكيمة فعندما أشار عليه عمر - رضى الله عنه - بقتل بن أبى.. ما كان منه - صلى الله عليه وسلم - إلا أن قال له: يا عمر، كيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟! وأبى - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر بقتله بل ترك لعشيريته من الأنصار تأديبه وتوبيخه.
ولقد بلغ الحال بابنه عبد الله - رضى الله عنه - وهو أقرب الناس إليه، أن يمنعه من دخول المدينة حتى يأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدخولها.
كما يرى المتدبر لهذه الآيات، والأحداث التى نزلت فيها، أن النفوس إذا جحدت الحق، واستولت عليها الأحقاد، واستحوذ عليها الشيطان.. أبت أن تسلك الطريق المستقيم، مهما كانت معالمه واضحة أمامها..
فعبد الله بن أبى وجماعته، وقفوا من الدعوة الإِسلامية موقف المحارب لها ولأتباعها، وسلكوا فى إذاعة السوء حول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحول أصحابه كل مسلك.. مع أن آيات القرآن الكريم، كانت تتلى على مسامعهم صباح مساء، ومع أن إرشادات الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانت تصل إليهم يوما بعد يوم، ومع أن المؤمنين الصادقين كانوا لا يكفون عن نصحهم ووعظهم..
كما نرى أن الإِيمان متى خالطت بشاشته القلوب، ضحى الإِنسان من أجله بكل شىء.. فعبد الله بن عبد الله بن أبى بن سلول، يقول للرسول - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله بلغنى أنك تريد قتل أبى، فإن كنت لابد فاعلا فمرنى به فأنا أحمل إليك رأسه..
ثم يقف على باب المدينة شاهرا سيفه، ثم يمنع أباه من دخولها حتى يأذن له الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدخولها، وحتى يقول: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو العزيز، وأنه هو - أى عبد الله ابن أبى - هو الذليل.
وهكذا تعطينا هذه الآيات وأحداثها ما تعطينا من عبر وعظات..
ثم تختتم السورة الكريمة بنداء توجهه إلى المؤمنين، تأمرهم فيه بالمواظبة على طاعة الله - تعالى - وتنهاهم عن أن يشغلهم عن ذلك شاغل، وتحضهم على الإِنفاق فى سبيل إعلاء كلمته - سبحانه -، وعلى تقديم العمل الصالح الذى ينفعهم قبل فوات الأوان، قال - تعالى -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ... }.