التفاسير

< >
عرض

زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ
٧
فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلنّورِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلْنَا وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
٨
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ ٱلْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلتَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
٩
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَآ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
١٠
مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
١١
وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ
١٢
ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ
١٣
-التغابن

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال صاحب الكشاف: قوله: { زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ }. الزعم: ادعاء العلم، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "زعموا مطية الكذب" وعن شريح: لكل شىء كنية وكنية الكذب زعموا، ويتعدى المفعولين تعدى العلم، كما قال الشاعر:

وإن الذى قد عاش يا أم مالك يموت، ولم أزعمك عن ذاك معزلا

و "أنْ" مع ما فى حيزها قائم مقامهما.
و { بَلَىٰ } حرف يذكر فى الجواب لإِثبات النفى فى كلام سابق، والمراد هنا: إثبات ما نفوه وهو البعث.
أى: زعم الذين كفروا من أهل مكة وأشباههم من المشركين، أنهم لن يبعثوا يوم القيامة، لأن البعث وما يترتب عليه من حساب، فى زعمهم محال.
قل لهم - أيها الرسول الكريم - على سبيل الجزم واليقين، كذبتم فيما تزعمونه من أنه لا بعث ولا حساب.. والله لتبعثن يوم القيامة، ثم لتنبؤن بما عملتموه فى الدنيا من أعمال سيئة، ولتحاسبن عليها حسابا عسيرا، يترتب عليه الإِلقاء بكم فى النار.
وجىء فى نفى زعمهم بالجملة القسمية، لتأكيد أمر البعث الذى نفوه بحرف { لَّن } ولبيان أن البعث وما يترتب عليه من ثواب وعقاب، أمر ثابت ثبوتا قطعيا. وجملة { ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ } ارتقاء فى الإِيطال. و { ثُمَّ } للتراخى النسبى.
أى: قل لهم إنكم لا تبعثون فحسب، بل ستبعثون، ثم تجدون بعد ذلك ما هو أشد من البعث، ألا وهو إخباركم بأعمالكم السيئة، ثم الإِلقاء بكم فى النار بعد ذلك.
فالمراد بالإِنباء لازمه، وهو ما يترتب عليه من حساب وعقاب.
واسم الإِشارة فى قوله: { وَذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } يعود إلى البعث وما يترتب عليه من حساب.
أى: وذلك البعث والحساب، يسير وهين على الله - تعالى - لأنه - سبحانه - لا يعجزه شىء، ولا يحول دون تنفيذ قدرته حائل.
فهذا التذييل المقصود به إزالة ما توهموه وعموه من أن البعث أمر محال، كما قالوا:
{ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } والفاء فى قوله - تعالى - { فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلنّورِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلْنَا.. } هى الفصيحة، أى: التى تفصح عن شرط مقدر. والمراد بالنور: القرآن الكريم، كما قال - تعالى -: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } والمعنى: إذا علمتم ما ذكرناه لكم - أيها المشركون - فاتركوا العناد، وآمنوا بالله - تعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - إيمانا حقا، وآمنوا - أيضا - بالقرآن الكريم الذى أنزلناه على عبدنا ورسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ليكون هذا القرآن معجزة ناطقة بصدقه - صلى الله عليه وسلم -.
وجملة { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } تذييل قصد به الوعد والوعيد، أى: والله - تعالى - مطلع إطلاعا تاما على كل تصرفاتكم، وسيمنحكم الخير إن آمنتم، وسيلقى بكم فى النار إن بقيتم على كفركم.
ثم حذرهم - سبحانه - من أهوال يوم القيامة فقال - تعالى -: { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ ٱلْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلتَّغَابُنِ }.
والظرف { يَوْمَ } متعلق بقوله - تعالى - قبل ذلك: { ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ }.
والمراد بيوم الجمع: يوم القيامة, سمى بذلك لأنه اليوم الذى يجتمع فيه الأولون والآخرون؟ فى مكان واحد للحساب والجزاء.
وسمى - أيضا بيوم التغابن، لأنه اليوم الذى يغبن فيه أهل الحق أهل الباطل.
والتغابن تفاعل من الغبن بمعنى الخسران والنقص، يقال غبن فلان فلانا إذا بخسه حقه، بأن أخذ منه سلعة بثمن أقل من ثمنها المعتاد، وأكثر ما يستعمل الغبن فى البيع والشراء، وفعله من باب ضرب، ويطلق الغبن على مطلق الخسران أى: قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الجاحدين للبعث: لتبعثن يوم القيامة ثم لتنبؤن بما عملتم يوم القيامة يوم يجتمع الخلائق للحساب فيغبن فيه أهل الحق أهل الباطل، ويغبن فيه المؤمنون الكافرين، لأن أهل الإِيمان ظفروا بالجنة، وبالمقاعد التى كان سيظفر بها الكافرون لو أنهم آمنوا، ولكن الكافرين استمروا على كفرهم فخسروا مقاعدهم فى الجنة، ففاز بها المؤمنون.
قال القرطبى: { يَوْمُ ٱلتَّغَابُنِ } أى: يوم القيامة.. وسمى يوم القيامة بيوم التغابن، لأنه غبن أهلُ الجنة أهلَ النار.
أى: أن أهل اجنة أخذوا الجنة، وأهل النار أخذوا النار على طريق المبادلة فوقع الغبن على الكافرين لأجل مبادلتهم الخير بالشر، والنعيم بالعذاب.
يقال: غبنت فلانا، إذا بايعَته أو شاريتَه، فكان النقص عليه، والغلبة لك.
فإن قيل: فأى معاملة وقعت بينهما حتى يقع الغبن فيها؟ قيل له: هو تمثيل الغبن فى الشراء والبيع.
وقال الآلوسى ما ملخصه: { ذَلِكَ يَوْمُ ٱلتَّغَابُنِ } أى يومُ غبنَ فيه أهل الجنة أهل النار، فالتفاعل ليس على ظاهره، كما فى التواضع والتحامل لوقوعه من جانب واحد، واختير للمبالغة.
وقد ورد هذا التفسير عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. واختاره الواحدى.
وقال غير واحد: { ذَلِكَ يَوْمُ ٱلتَّغَابُنِ } أى: اليوم الذى غبن فيه بعض الناس بعضا، بنزول السعداء منازل الأشقياء لو كانوا سعداء، وبالعكس ففى الحديث الصحيح:
"ما من عبد يدخل الجنة إلا أُرِى مقعده من النار - لو أساء - ليزداد شكرا، وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة - لو أحسن ليزداد حسرة -" وهو مستعار من تغابن القوم فى التجارة، وفيه تهكم بالأشقياء لأنهم لا يغبنون حقيقة السعداء، بنزولهم فى منازلهم من النار.
ثم فصل - سبحانه - أحوال الناس فى هذا اليوم الهائل الشديد فقال؛ { وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ }.
أى: ومن يؤمن بالله - تعالى - إيمانا حقا، ويعمل عملا صالحا، يكفر الله - تعالى - عنه سيئاته التى عملها فى الدنيا بأن يزيلها من صحيفة عمله - فضلا منه - تعالى - وكرما - وفوق ذلك يدخله بفضله وإحسانه جنات تجرى من تحت ثمارها الأنهار { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } أى: خلودا أبديا.
{ ذَلِكَ } الذى ذكرناه لكم من تكفير السيئات، ومن دخول الجنات.. هو { ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } الذى لا فوز يقاربه أو يدانيه.
{ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } بربهم بأن أشركوا معه فى العبادة آلهة أخرى.
{ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ } الدالة على وحدانيتنا، وعلى صدق نبينا - صلى الله عليه وسلم -.
{ أُوْلَـٰئِكَ } الكافرون المكذبون هم { أَصْحَابُ ٱلنَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا } خلودا أبديا { وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } مصيرهم النار.
ففى هاتين الآيتين الكريمتين، بيان للتغابن، وتفصيل له، لاحتوائهما على بيان منازل السعداء والأشقياء، وهو ما وقع فيه التغابن.
ثم بين - سبحانه - أن كل شىء بقضائه وقدره فقال: { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ }.
والمراد بالمصيبة: الرزية والنكبة، وكل ما يسوء الإِنسان فى نفسه أو ماله أو ولده.. والمفعول محذوف، و "من" للتأكيد، و { مُّصِيبَةٍ } فاعل.
أى: ما أصاب أحدا مصيبة فى نفسه أو ماله أو ولده.. إلا بإذن الله - تعالى - وأمره وإرادته، لأن كل شىء بقضائه - سبحانه - وقدره.
قال القرطبى: قيل: سبب نزولها أن الكفار قالوا: لو كان ما عليه المسلمون حقا لصانهم الله - تعالى - عن المصائب.
فأنزل الله - تعالى - هذه الآية للرد على المشركين، ولبيان أن كل شىء بإرادته - سبحانه -.
ثم بين - سبحانه - أن الإِيمان الحق يعين على استقبال المصائب بصبر جميل فقال: { وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أى: ومن يؤمن بالله - تعالى - إيمانا حقا يهد قلبه إلى الصبر الجميل، وإلى الاستسلام لقضائه - سبحانه - لأن إيمانه الصادق يجعله يعتقد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، والله - تعالى - عليم بكل شىء، لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء.
قال الإِمام ابن كثير: قوله - تعالى -: { وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } أى: ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره: فصبر واحتسب واستسلم لقضائه - تعالى - هدى الله قلبه، وعوضه عما فاته من الدنيا.
وفى الحديث المتفق عليه:
"عجبا للمؤمن، لا يقضى الله له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن" .
ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات الكريمة بحض الناس على الطاعة والإِخلاص فى العبادة، وحذرهم من اقتراف المعاصى فقال: { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ }.
أى: وعليكم - أيها الناس - أن تطيعوا الله - تعالى - طاعة تامة، وأن تطيعوا رسوله فى كل ما يأمركم به أو ينهاكم عنه.
فإن أعرضتم عن ذلك، وانصرفتم عما أمرناكم به أو نهيناكم عنه فلا ضرر على رسولنا بسبب إعراضكم لأن حسابكم وجزاءكم علينا يوم القيامة، وليس على رسولنا - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة لكم سوى البلاغ الواضح البين، بحيث لا يترك باباً من أبواب الخير إلا ويبينه لكم، ولا يترك باباً من أبواب الشر إلا وحذركم منه.
{ ٱللَّهُ } - تعالى - { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } أى: هو المستحق للعبادة دون غيره، فأخلصوا له هذه العبادة والطاعة { وَعَلَى ٱللَّهِ } - تعالى - وحده { فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } أى: فليفوضوا أمورهم إليه، وليعقدوا رجاءهم عليه فهو - سبحانه - صاحب الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين.
وفى نهاية السورة الكريمة، وجه - سبحانه - نداء إلى المؤمنين، حذرهم فيه من فتنة الأزواج والأولاد والأموال، وحضهم على مراقبته وتقواه، وحذرهم من البخل والشح، ووعدهم بالأجر العظيم متى أطاعوه.. فقال - تعالى -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ مِنْ... }.