التفاسير

< >
عرض

يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ ٱلْعِدَّةَ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً
١
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً
٢
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ٱللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
٣
-الطلاق

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

افتتح الله - تعالى - السورة الكريمة بتوجيه النداء إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال: { يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ ٱلْعِدَّةَ }.
وأحكام الطلاق التى وردت فى هذه الآية، تشمل النبى - صلى الله عليه وسلم - كما تشمل جميع المكلفين من أمته - صلى الله عليه وسلم -.
وإنما كان النداء له - صلى الله عليه وسلم - وكان الخطاب بالحكم عاما له ولأمته، تشريفا وتكريما له - صلى الله عليه وسلم - لأنه هو المبلغ للناس، وهو إمامهم وقدوتهم والمنفذ لأحكام الله - تعالى - فيهم.
قال صاحب الكشاف: خُصَّ النبى - صلى الله عليه وسلم - بالنداء، وعُمًّ بالخطاب، لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - إمام أمته وقدوتهم، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان: افعلوا كيت وكيت، وإظهارا لتقدمه، واعتبارا لترؤسه، وأنه مِدْرة قومه ولسانهم - والمدرة: القرية.
أى: أنه بمنزلة القرية لقومه، وأنه الذى يصدرون عن رأيه، ولا يستبدون بأمر دونه، فكان هو وحده فى حكم كلهم، وساد مسد جميعهم.
وهذا التفسير الذى اقتصر عليه صاحب الكشاف، هو المعول عليه، وهو الذى يناسب بلاغة القرآن وفصاحته، ويناسب مقام النبى - صلى الله عليه وسلم -.
وقيل: الخطاب له ولأمته: والتقدير: يأيها النبى وأمته إذا طلقتم، فحذف المعطوف لدلالة ما بعده عليه.
وقيل: هو خطاب لأمته فقط، بعد ندائه - عليه السلام - وهو من تلوين الخطاب، خاطب أمته بعد أن خاطبه.
وقيل: إن الكلام على إضمار قول، أى: يأيها النبى قل لأمتك إذا طلقتم.
والحق أن الذى يتدبر القرآن الكريم، يرى أن الخطاب والأحكام المترتبة عليه، تارة تكون خاصة به - صلى الله عليه وسلم - كما فى قوله - تعالى -:
{ يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } وتارة يكون شاملا له - صلى الله عليه وسلم - ولأمته كما فى هذه الآية التى معنا، وكما فى قوله - تعالى -: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَاهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَافِقِينَ وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ } وتارة يكون - صلى الله عليه وسلم - خارجا عنه كما فى قوله - تعالى -: { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } فصيغة الخطاب هنا وإن كانت موجهة إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - إلا إنه ليس داخلا فيها، لأن والديه لم يكونا موجودين عند نزول هاتين الآيتين.
والمراد بقوله: { إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } أى: إذا أردتم تطليقهن، لأن طلاق المطلقة من باب تحصيل الحاصل.
وهذا الأسلوب يرد كثيرا فى القرآن الكريم، ومنه قوله - تعالى -:
{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ.. } أى: إذا أردتم القيام للصلاة فاغسلوا.
والمراد بالنساء هنا: الزوجات المدخول بهن، لأن غير المدخول بهن خرجن بقوله - تعالى -:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } واللام فى قوله - سبحانه -: فطلقوهن لعدتهن، هى التى تسمى بلام التوقيت، وهى بمعنى عند، أو بمعنى فى، كما يقول القائل: كتبت هذا الكتاب لعشر مضين من شهر كذا.
ومنه قوله - تعالى -:
{ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ.. } ): أى عند أو فى وقت دلوكها.
وقوله: { وَأَحْصُواْ ٱلْعِدَّةَ } من الإِحصاء بمعنى العد والضبط، وهو مشتق من الحصى، وهى من صغار الحجارة، لأن العرب كانوا إذا كثر عدد الشىء، جعلوا لكل واحد من المعدود حصاة، ثم عدوا مجموع ذلك الحصى.
والمراد به هنا: شدة الضبط، والعناية بشأن العد، حتى لا يحصل خطأ فى وقت العدة. والمعنى: يأيها النبى، أخبر المؤمنين ومرهم، إذا أرادوا تطليق نسائهم المدخول بهن، من المعتدات بالحيض، فعليهم أن يطلقوهن فى وقت عدتهن.
أى: فى طهر لم يجامعوهن فيه، ثم يتركوهن حتى تنقضى عدتهن.
وعليهم كذلك أن يضبطوا أيام العدة ضبطا تاما حتى لا يقع فى شأنها خطأ أو لبس.
قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه: خوطب النبى - صلى الله عليه وسلم - أولا تشريفا وتكريما، ثم خاطب الأمة تبعا، فقال: { يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ ٱلْعِدَّةَ... }.
روى ابن أبى حاتم عن أنس قال:
"طلق النبى - صلى الله عليه وسلم - حفصة، فأتت أهلها، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية. وقيل له: راجعها فإنها صوامة قوامة، وهى من أزواجك فى الجنة" .
وروى البخارى "أن عبد الله بن عمر، طلق امرأة له وهى حائض، فذكر عمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك، فتغيظ - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: فليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها، فتلك العدى التى أمر الله - تعالى -."
ثم قال -رحمه الله - : ومن ها هنا أخذ الفقهاء أحكام الطلاق، وقسموه إلى طلاق سنة، وطلاق بدعة.
فطلاق السنة: أن يطلقها طاهرا من غير جماع، أو حاملا قد استبان حملها.
والبدعى: هو أن يطلقها فى حال الحيض، - وما يشبهه كالنفاس -، أو فى طهر قد جامعها فيه، ولا يدرى أحملت أم لا؟...
وتعليق { طَلَّقْتُمُ } بإذا الشرطية، يشعر بأن الطلاق خلاف الأصل، إذ الأصل فى الحياة الزوجية أن تقوم على المودة والرحمة، وعلى الدوام والاستقرار.
قال - تعالى -:
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ... } قال القرطبى: روى الثعلبى من حديث ابن عمر قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم - "إن من أبغض الحلال إلى الله الطلاق" .
وعن أبى موسى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تطلقوا النساء إلا من ريبة فإن الله - عز وجل - لا يحب الذواقين ولا الذواقات" .
وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما حلف بالطلاق، ولا استحلف به إلا منافق" .
والمراد بالأمر فى قوله - تعالى -: { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } إرشاد المؤمنين إلى ما يجب عليهم اتباعه إذا ما أرادوا مفارقة أزواجهم، ونهيهم عن إيقاع الطلاق فى حال الحيض أو ما يشبهها كالنفاس، لأن ذلك يكون طلاقا بدعيا محرما، إذ يؤدى إلى تطويل عدة المرأة لأن بقية أيام الحيض لا تحسب من العدة، ويؤدى - أيضا - إلى عدم الوفاء لها، حيث طلقها فى وقت رغبته فيها فاترة..
ولكن الطلاق مع ذلك يعتبر واقعا ونافذا عند جمهور العلماء.
قال القرطبى: من طلق فى طهر لم يجامع فيه، نفذ طلاقه وأصاب السنة، وإن طلقها وهى حائض نفذ طلاقه وأخطأ السنة.
وقال سعيد بن المسبب: لا يقع الطلاق فى الحيض لأنه خلاف السنة، وإليه ذهبت الشيعة.
وفى الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال:
"طلقت امرأتى وهى حائض، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتغيظ وقال: فليراجعها ثم فليمسكها حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التى طلقها فيها" .
وكان عبد الله بن عمر قد طلقها تطليقة، فحسبت من طلاقها، وراجعها عبد الله بن عمر كما أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وفى رواية أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال له: "هى واحدة" وهذا نص. وهو يرد على الشيعة قولهم.
وقد بسط الفقهاء وبعض المفسرين الكلام فى هذه المسألة فليرجع إليها من شاء...
والمخاطب بقوله { وَأَحْصُواْ ٱلْعِدَّةَ } الأزواج على سبيل الأصالة، لأنهم هم المخاطبون بقوله { طَلَّقْتُمُ } وبقوله { فَطَلِّقُوهُنَّ }، ويدخل معهم الزوجات على سبيل التبع، وكذلك كل من له صلة بهذا الحكم، وهو إحصاء العدة.
ثم أمر - سبحانه - بتقواه فقال: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمْ } أى، واتقوا الله ربكم، بأن تصونوا أنفسم عن معصيته، التى من مظاهرها إلحاق الضرر بأزواجكم، بتطليقهن فى وقت حيضهن. أو فى غير ذلك من الأوقات المنهى عن وقوع الطلاق فيها.
فالمقصود بهذه الجملة الكريمة: التحذير من التساهل فى أحكام الطلاق والعدة، كما كان أهل الجاهلية يفعلون.
وجمع - سبحانه - بين لفظ الجلالة، وبين الوصف بربكم، لتأكيد الأمر بالتقوى، وللمبالغة فى وجوب المحافظة على هذه الأحكام.
ثم بين - سبحانه - حكما آخر يتعلق بالأزواج والزوجات فقال: { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ }.
والجملة الكريمة مستأنفة، أو حال من ضمير { وَأَحْصُواْ ٱلْعِدَّةَ } أى: حالة كون العدة فى بيوتهن، والخطاب للأزواج، والزوجات، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال والأساليب.
والفاحشة: الفعلة البالغة الغاية فى القبح والسوء، وأكثر إطلاقها على الزنا.
وقوله: { مُّبَيِّنَةٍ } صفة للفاحشة، وقراءة الجمهور - بكسر الياء - أى: بفاحشة توضح لمن تبلغه أنها فاحشة لشدة قبحها.
وقرأ ابن كثير { مُّبَيَّنَةٍ } بفتح الياء - أى: بفاحشة قامت الحجة على مرتكيبيها قياما لا مجال معه للمناقشة أو المجادلة.
أى: واتقوا الله ربكم - أيها المؤمنون - فيما تأتون وتذرون، ومن مظاهر هذه التقوى، أنكم لا تخرجون زوجاتكم المطلقات من مساكنهن إلى أن تنقضى عدتهن، وهن - أيضا - لا يخرجن منها بأنفسهن فى حال من الأحوال، إلا فى حال إتيانهن بفاحشة عظيمة ثبتت عليهن ثبوتا واضحا.
فالمقصود بالجملة الكريمة نهى الأزواج عن إخراج المطلقات المعتدات من مساكنهن عند الطلاق إلى أن تنتهى عدتهن، ونهى المعتدات عن الخروج منها إلا عند ارتكابهن الفاحشة الشديدة القبح.
وأضاف - سبحانه - البيوت إلى ضمير النساء فقال: { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } للإِشعار بأن استحقاقهن للمكث فى بيوت أزواجهن مدة عدتهن كاستحقاق المالك لما يملكه، ولتأكيد النهى عن الإِخراج والخروج.
وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة، أن المطلقة لا يصح إخراجها أو خروجها من بيت الزوجية ما دامت فى عدتها، إلا لأمر ضرورى.
قال الألوسى ما ملخصه: وقوله: { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } أى: من مساكنهن عند الطلاق إلى أن تنقضى عدتهن.. وعدم العطف للإِيذان باستقلاله بالطلب اعتناء به، والنهى عن الإِخراج يتناول بمنطوقة عدم إخراجهن غضبا عليهن، أو كراهة لمساكنتهن.. ويتناول بإشارته عدم الإِذن لهن بالخروج، لأن خروجهن محرم، لقوله - تعالى -: { وَلاَ يَخْرُجْنَ } فكأنه قيل: لا تخرجوهن، ولا تأذنوا لهن فى الخروج إذا طلبن ذلك، ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن، فهناك دلالة على أن سكونهن فى البيوت حق للشرع مؤكد، فلا يسقط بالإِذن.. وهذا رأى الأحناف.
ومذهب الشافعية أنهما لو اتفقا على الانتقال جاز. إذ الحق لا يعدوهما، فيكون المعنى: لا تخرجوهن ولا يخرجن باستبدادهن.
والاستثناء فى قوله: { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } يرى بعضهم أنه راجع إلى { وَلاَ يَخْرُجْنَ } فتكون الفاحشة المبينة هى نفس الخروج قبل انقضاء العدة، أى: لا يطلق لهن فى الخروج، إلا فى الخروج الذى هو فاحشة، ومن المعلوم أنه لا يطلق لهن فيه، فيكون ذلك منعا من الخروج على أبلغ وجه.. كما يقال لا تزن إلا أن تكون فاسقا...
وقال بعض العلماء: والذى تخلص لى أن حكمة السكنى للمطلقة، أنها حفظ للأعراض، فإن المطلقة يكثر التفات العيون لها، وقد يتسرب سوء الظن إليها، فيكثر الاختلاف عليها، ولا تجد ذا عصمة يذب عنها، فلذلك شرعت لها السكنى، فلا تخرج إلا لحاجياتها الضرورية..
ومن الحكم - أيضا - فى ذلك أن المطلقة قد لا تجد مسكنا، لأن غالب النساء لم تكن لهن أموال، وإنما هن عيال على الرجال..
ويزاد فى المطلقة الرجعية، قصد استبقاء الصلة بينها وبين مطلقها، لعله يثوب إليه رشده فيراجعها..
فهذا مجموع علل، فإذا تخلفت واحدة منها لم يتخلف الحكم، لأن الحكم المعلل بعلتين فأكثر لا يبطله سقوط بعضها...
واسم الإِشارة فى قوله: { وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ } يعود إلى الأحكام التى سبق الحديث عنها، والحدود: جمع حد، وهو مالا يصح تجاوزه أو الخروج عنه.
أى: وتلك الأحكام التى بيناها لكم، هى حدود الله - تعالى - التى لا يصح لم تعديها أو تجاوزها، وإنما يجب عليكم الوقوف عندها، وتنفيذ ما اشتملت عليه من آداب وهدايات.
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة من يتجاوز حدوده فقال: { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } أى: ومن يتجاوز حدود الله التى حدها لعباده، بأن أخل بشىء منها، فقد حمل نفسه وزرا، وأكسبها إثما، وعرضها للعقوبة والعذاب.
وقوله - تعالى -: { لاَ تَدْرِى لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } ترغيب فى امتثال الأحكام السابقة، بعد أن سلك فى شأنها مسلك الترهيب من مخالفتها، ودعوة إلى فتح باب المصالحة بين الرجل وزوجه، وعدم السير فى طريق المفارقة حتى النهاية..
والخطاب لكل من يصلح له، أو هو للمتعدى بطريق الالتفات، والجملة الكريمة مستأنفة، مسوقة لتعليل مضمون ما قبلها، وتفصيل لأحواله.
أى: اسلك - أيها المسلم - الطريق الذى أرشدناك إليه فى حياتك الزوجية، وامتثل ما أمرناك به، فلا تطلق امرأتك وهى حائض، ولا تخرجها من بيتها قبل تمام عدتها.. ولا تقفل باب المصالحة بينك وبينها، بل اجعل باب المصالحة مفتوحا، فإنك لا تدرى لعل الله - تعالى - يحدث بعد ذلك النزاع الذى نشب بينك وبين زوجك أمرا نافعا لك ولها، بأن يحول البغض إلى حب، والخصام إلى وفاق، والغضب إلى رضا..
فالجملة الكريمة قد اشتملت على أسمى ألوان الإِرشاد لحمل النفوس المتجهة نحو الطلاق.. إلى التريث والتعقل، وفتح باب المواصلة بعد المقاطعة والتقارب بعد التباعد، لأن تقليب القلوب بيد الله - عز وجل - وليس بعيدا عن قدرته - تعالى - تحويل القلوب إلى الحب بعد البغض.
قال القرطبى: الأمر الذى يحدثه الله أن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه، فيراجعها.
وقال جميع المفسرين: أراد بالأمر هنا الرغبة فى الرجعة...
ثم بين - سبحانه - حكما يتعلق بما بين الزوجين من حقوق فقال - تعالى -: { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ.. }.
والفاء فى قوله { فَإِذَا بَلَغْنَ.. } للتفريع على ما تقدم من أحكام تتعلق بالعدة.
والمراد ببلوغ أجلهن، مقاربة نهاية مدة العدة بقرينة ما بعده، لأن الرجل لا يؤمر بإمساك زوجه بعد انقضاء عدتها، لأن الإِمساك يكون قبل انقضائها.
فالكلام من باب المجاز، لمشابهة مقاربة الشىء، بالحصول فيه، والتلبس به.
والمراد بالإِمساك المراجعة وعدم السير فى طريق مفارقتها.
والمعروف: ما أمر به الشرع من حسن المعاملة بين الزوجين، وحرص كل واحد منهما على أداء ما عليه لصاحبه من حقوق.
والمعنى: لقد بينت لكم جانبا من الأحكام التى تتعلق بعدة النساء، فإذا قاربن وشارفن آخر عدتهن، فأمسكوهن وراجعوهن بحسن معاشرة، أو فارقوهن بمعروف بأن تعطوهن حقوقهن كاملة غير منقوصة، بأن تكفوا ألسنتكم عن ذكرهن بسوء..
والأمر فى قوله: { فَأَمْسِكُوهُنَّ } و { فَارِقُوهُنَّ } للإِباحة، و "أو" للتخيير.
والتعبير بالإِمساك للإِشعار بأن المطلقة طلاقا رجعيا لها حكم الزوجة، ما عدا الاستمتاع بها، فعليه أن يستمسك بها، ولا يتسرع فى فراقها، فهى ما زالت فى عصمته.
وقدم - سبحانه - الإِمساك على الفراق، للإِشارة إلى أنه هو الأولى رعاية لحق الزوجية، وإبقاء للمودة والرحمة.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ... } ثم قال - سبحانه -: { وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ } أى: وأشهدوا عند المراجعة لأزواجكم وعند مفارقتكم لهن رجلين تتوفر فيهما العدالة والاستقامة لأن الإِشهاد يقطع التنازع، ويدفع الريبة، وينفى التهمة.
والأمر فى قوله: { وَأَشْهِدُواْ } للندب والاستحباب فى حالتى المراجعة والمفارقة، فهو كقوله - تعالى -:
{ وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } وهذا رأى جمهور العلماء.
قال الآلوسى: قوله { وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ } أى: عند الرجعة إن اخترتموها، أو الفرقة إن اخترتموها، تبريا عن الريبة، وقطعا للنزاع. وهذا أمر ندب كما فى قوله - تعالى -:
{ { وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } }. وقال الشافعى فى القديم: إنه للوجوب فى الرجعة. وزعم الطبرسى أن الظاهر أنه أمر بالإِشهاد على الطلاق، وأنه مروى عن أثمة أهل البيت، وأنه للوجوب، وشرط فى صحة الطلاق...
وقوله: { وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَادَةَ لِلَّهِ } معطوف على ما قبله، والخطاب لكل من تتعلق به الشهادة.
والمراد بإقامة الشهادة: أداؤها بالعدل والصدق.
أى: وعليكم - أيها المؤمنون - عند أدائكم للشهادة، أن تؤدوها بالعدل والأمانة، وأن تجعلوها خالصة لوجه الله - تعالى - وامتثالا لأمره.
والجملة الكريمة دليل على أن أداء الشهادة على وجهها الصحيح عند الحكام وغيرهم، أمر واجب، لأن الشهادة هنا اسم للجنس، ولأن الله - تعالى - يقول فى آية أخرى:
{ وَلاَ تَكْتُمُواْ ٱلشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ... } والإِشارة فى قوله - سبحانه -: { ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } تعود إلى جميع ما تقدم من أحكام، كإحصاء العدة وعدم إخراج المطلقة من بيت الزوجية حتى تنتهى عدتها، والحث على أداء الشهادة بالحق والعدل.
والوعظ معناه: التحذير مما يؤذى بطريقة تؤثر فى القلوب، وتهدى النفوس إلى الرشد.
أى: ذلك الذى ذكرناه لكم من أحكام إنما يتأثر به، ويعمل بمقتضاه الذين يؤمنون بالله - تعالى - وباليوم الآخر إيمانا حقا.
وخص - سبحانه - الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر بالذكر، لأنهم هم المنتفعون بهذه الأحكام، وهم المنفذون لها تنفيذا صحيحا.
ثم بشر - سبحانه - عباده الذين يتقونه ويراقبونه ببشارات متعددة فقال: { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ }.
والجملة الكريمة اعتراض بين قوله - تعالى -: { وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَادَةَ لِلَّهِ } وبين قوله - سبحانه - بعد ذلك:
{ وَٱللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ } وجىء بهذا الاعتراض بين هذه الأحكام لحمل النفوس على تقبل تشريعاته - تعالى - وآدابه، ولحض الزوجين على مراقبته - سبحانه - وتقواه.
أى: ومن يتق الله - تعالى - فى كل أقواله وأفعاله وتصرفاته. يجعل له - سبحانه - مخرجا من هموم الدنيا وضوائقها ومتاعبها، ومن شدائد الموت وغمراته، ومن أهوال الآخرة وعذابها، ويزرقه الفوز بخير الدارين، من طرق لا تخطر له على بال، ولا ترد له على خاطر، فإن أبواب رزقه - سبحانه - لا يعلمها أحد إلا هو - عز وجل -.
وفى هذه الجملة الكريمة ما فيها من البشارة للمؤمن، حتى يثبت فؤاده، ويستقيم قلبه، ويحرص على طاعة الله - تعالى - فى كل أحواله.
قال القرطبى: قال أبو ذر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"إنى لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم، ثم تلا: { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ }" .
وعن جابر بن عبد الله قال: "نزلت هذه الآية فى عوف بن مالك الأشجعى، أسر المشركون ابنا له، فأتى النبى - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بذلك. فقال له - صلى الله عليه وسلم -: اتق الله واصبر، وآمرك وزوجك أن تستكثرا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
فعاد إلى بيته وقال لامرأته: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنى وإياك أن نستكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله. فقالت: نعم ما أمرنا، فجعلا يقولان ذلك، فغفل العدو عن ابنه، فساق غنمهم وجاء بها إلى أبيه عوف،"
فنزلت الآية...
ثم قال - تعالى -: { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ٱللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً }.
ولفظ { حَسْبُ } بمعنى كاف وأصله اسم مصدر أو مصدر، ومعنى { بَالِغُ أَمْرِهِ } بإضافة الوصف إلى مفعوله، أى: يبلغ ما يريده - سبحانه -، وقرأ الجمهور { بَالِغُ أَمْرِهِ } بتنوين الوصف ونصب أمره على المفعولية، والمراد بأمره، شأنه ومراده. وهذه الجملة تعليل لما قبلها.
أى: ومن يفوض أمره إلى الله - تعالى - ويتوكل عليه وحده، فهو - سبحانه - كافيه فى جميع أموره، لأنه - سبحانه - يبلغ ما يريده، ولا يفوته مراد، ولا يعجزه شىء، ولا يحول دون أمره حائل.. ومن مظاهر حكمه فى خلقه، أنه عز وجل - قد جعل لكل شىء تقديرا قبل وجوده، وعلم علما تاما مقاديرها وأوقاتها وأحوالها.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } وقوله - سبحانه -: { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } وقوله - عز وجل -: { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } قال بعض العلماء ما ملخصه: ولهذه الجملة، وهى قوله - تعالى -: { قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } موقع تتجلى فيه صورة من صور إعجاز القرآن، فى ترتيب مواقع الجمل بعضها بعد بعض.. فهذه الجملة لها موقع الاستئناف البيانى الناشىء عما اشتملت عليه جمل: { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً.. } إلى قوله: { إِنَّ ٱللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } لأن استعداد السامعين لليقين بما تضمنته تلك الجمل متفاوت، فقد يستبعد بعض السامعين تحقق الوعد لأمثاله، فيقول: أين أنا من تحصيل هذا الشىء.. ويتملكه اليأس.. فيقول الله - تعالى - له: { قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } أى: فلا تيأس أيها الإِنسان.
ولها موقع التعليل لجملة { وَأَحْصُواْ ٱلْعِدَّةَ } فإن العدة من الأشياء التى تعد، فلما أمر الله بإحصائها علل ذلك فقال: { قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً }.
ولها موقع التذبيل لجملة { وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } أى: الذى وضع تلك الحدود، قد جعل الله لكل شىء قدرا لا يعدوه، كما جعل الحدود.
ولها موقع التعليل لجملة: { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ }، لأن المعنى إذا بلغن القدر الذى جعله الله لمدة العدة، فقد حصل المقصد الشرعى، الذى أشار إليه بقوله - تعالى -: { لاَ تَدْرِى لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً }.
ولها موقع التعليل لجملة: { وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَادَةَ } فإن الله - تعالى - جعل الشهادة قدرا لرفع النزاع.
فهذه الجملة جزء آية، وهى تحتوى على حقائق من الحكمة...
ثم ذكر - سبحانه - أحكاما أخرى تتعلق بعدة أنواع أخرى من النساء وأكد الأمر بتقواه - عز وجل - وأمر برعاية النساء والانفاق عليهن.. فقال - تعالى -: { وَٱللاَّئِي يَئِسْنَ... }.