التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ
١٢
وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
١٣
أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ
١٤
هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ
١٥
ءَأَمِنتُمْ مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ
١٦
أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ
١٧
وَلَقَدْ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ
١٨
-الملك

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله: { يَخْشَوْنَ } من الخشية، وهى أشد الخوف وأعظمه، والغيب: مصدر غاب يغيب، وكثيرا ما يستعمل بمعنى الغائب، وهو ما لا تدركه الحواس ولا يعلم ببداهة العقل.
أى: إن الذين يخشون ربهم فيخافون عذابه، ويعبدونه كأنهم يرونه، مع أنهم لا يرونه بأعينهم.. هؤلاء الذين تلك صفاتهم، لهم من خالقهم - عز وجل - مغفرة عظيمة، وأجر بالغ الغاية فى الكبر والضخامة.
وقوله { بِٱلْغَيْبِ } حال من الفاعل، أى: غائبا عنهم، أو من المفعول. أى: غائبين عنه. أى. يخشون عذابه دون أن يروه - سبحانه - .
ويجوز أن يكون المعنى: يخشون عذابه حال كونهم غائبين عن أعين الناس، فهم يراقبونه - سبحانه - فى السر، كما يراقبونه فى العلانية كما قال الشاعر:

يتجنب الهفوات فى خلواتهعف السريرة، غَيبُه كالمشهد

والحق أن هذه الصفة، وهى خوف الله - تعالى - بالغيب، على رأس الصفات التى تدل على قوة الإِيمان، وعلى طهارة القلب، وصفاء النفس..
ثم بين - سبحانه - بأبلغ أسلوب، أن السر يتساوى مع العلانية بالنسبة لعلمه - تعالى - فقال: { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ... }.
وقد ذكروا فى سبب نزول هذه الآية، أن المشركين كانوا ينالون من النبى صلى الله عليه وسلم فلما أطلعه الله - تعالى - على أمرهم، فقال بعضهم لبعض: أسروا قولكم كى لا يسمعه رب محمد..
وصيغة الأمر فى قوله: { وَأَسِرُّواْ } و { ٱجْهَرُواْ } مستعملة فى التسوية بين الأمرين، كما فى قوله - تعالى - { فَٱصْبِرُوۤاْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ... }
أى: إن إسراركم - أيها الكافرون - بالإِساءة إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم - أو جهركم بهذه الإِساءة، يستويان فى علمنا، لأننا لا يخفى علينا شئ من أحوالكم، فسواء عندنا من أسر منكم القول ومن جهر به.
وجملة { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } تعليق للتسوية المستفادة من صيغة الأمر أى: سواء فى علمه - تعالى- إسراركم وجهركم، لأنه - سبحانه - عليم علما تاما بما يختلج فى صدوركم، وما يدور فى نياتكم التى هى بداخل قلوبكم.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } ثم أكد - سبحانه - شمول علمه لكل شئ بقوله: { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ }.
واللطيف من اللطف، وهو العالم بخبايا الأمور، والمدبر لها برفق وحكمة ويسر..
والخبير: من الخُبْر، وهو العلم بجزئيات الأشياء الخفية، التى من شأنها أن يخبر الناس بعضهم بعضا بحدوثها، لأنها كانت خافية عليهم.
ولفظ { من } فى قوله { مَنْ خَلَقَ } يصح أن يكون مفعولا لقوله { يَعْلَمُ }، والعائد محذوف أى: ألا يعلم الله - تعالى - شأن الذين خلقهم، والحال أنه - سبحانه - هو الذى لطف علمه ودق، إذ هو المدبر لأمور خلقه برفق وحكمة، العليم علما تاما بأسرار النفوس وخبايا ما توسوس به..
ويجوز أن يكون { من } فاعلا لقوله { يعلم } على أن المقصود به ذاته - تعالى - ويكون مفعول يعلم محذوفا للعلم به، والمعنى: ألا يعلم السر ومضمرات القلوب الله الذى خلق كل شئ وأوجده - وهو - سبحانه - الموصوف بأنه لطيف خبير.
والاستفهام على الوجهين لإِنكار ما زعمه المشركون من انتفاء علمه - تعالى - بما يسرونه فيما بينهم، حيث قال بعضهم لبعض: أسروا قولكم كى لا يسمعه رب محمد.
ثم ذكر - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله على عباده فقال: { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ }.
والذلول: السهلة المذللة المسخرة لما يراد منها؛ من مَشْى عليها، أو غَرْس فيها، أو بناء فوقها.. من الذِّل وهو سهولة الانقياد للغير، ومنه قوله - تعالى -:
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ... } أى: غير مذللة ولا مدربة على حرث الأرض..
والأمر فى قوله { فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا } للإِباحة، والمناكب جمع منكب وهو ملتقى الكتف مع العضد والمراد به هنا: جوانبها أو طرقها وفجاجها أو أطرافها..
وهو مثل لفرط التذليل، وشدة التسخير..
أى: هو - سبحانه - الذى جعل لكم - بفضله ورحمته - الأرض المتسعة الأرجاء، مذللة مسخرة لكم، لتتمكنوا من الانتفاع بها عن طريق المشى عليها، أو البناء فوقها. أو غرس النبات فيها..
وما دام الأمر كذلك فامشوا فى جوانبها وأطرافها وفجاجها.. ملتمسين رزق ربكم فيها وداوموا على ذلك، ففى الحديث الشريف:
"التمسوا الرزق فى خبايا الأرض" .
والمراد بقوله: { وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ } الانتفاع بما فيها من وجوه النعم، وعبر عنه بالأكل لأنه أهم وجوه الانتفاع.
فالآية الكريمة دعوة حارة للمسلمين لكى ينتفعوا بما فى الأرض من كنوز، حتى يستغنوا عن غيرهم فى مطعمهم ومشربهم وملبسهم وسائر أمور معاشهم.. فإنه بقدر تقصيرهم فى استخراج كنوزها، تكون حاجتهم لغيرهم.
قال بعض العلماء: قال الإِمام النووى فى مقدمة المجموع: إن على الأمة الإِسلامية أن تعمل على استثمار وإنتاج كل حاجاتها حتى الإِبرة، لتستغنى عن غيرها، وإلا احتاجت إلى الغير بقدر ما قصرت فى الإِنتاج..
وقد أعطى الله - تعالى - العالم الإِسلامى الأولوية فى هذا كله. فعليهم أن يحتلوا مكانهم، ويحافظوا على مكانتهم، ويشيدوا كيانهم بالدين والدنيا معا..
وقد أفاض بعض العلماء فى بيان معنى قوله - تعالى -: { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً.. } فقال ما ملخصه: والناس لطول إلفهم لحياتهم على هذه الأرض وسهولة استقرارهم عليها.. ينسون نعمة الله فى تذليلها لهم وتسخيرها، والقرآن يذكرهم هذه النعمة الهائلة، ويبصرهم بها، فى هذا التعبير الذى يدرك منه كل أحد، وكل جيل، ما ينكشف له من علم هذه الأرض الذلول..
والله - تعالى - جعل الأرض ذلولا للبشر من حيث جاذبيتها.. ومن حيث سطحها.. ومن حيث تكوينها، ومن حيث إحاطة الهواء بها.. ومن حيث حجمها..
وقوله: { وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ } معطوف على ما قبله، لبيان أن مصيرهم إليه - تعالى - بعد قضائهم فى الأرض المذللة لهم، مدة حياتهم..
أى: وإليه وحده مرجعكم، وبعثكم من قبوركم، بعد أن قضيتم على هذه الأرض، الأجل الذى قدره - سبحانه - لكم.
ثم حذر - سبحانه - من بطشه وعقابه فقال: { أَأَمِنتُمْ مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ }..
والخسف: انقلاب ظاهر السطح من بعض الأرض فصير باطنا، والباطن ظاهرا..
والمَوْر: شدة الاضطراب والتحرك. يقال: مار الشئ مَوْرا، إذا ارتج واضطرب، والمراد بمن فى السماء: الله - عز وجل - بدون تحيز أو تشبيه أو حلول فى مكان.
قال الإمام الآلوسى: قوله: { أَأَمِنتُمْ مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ } وهو الله - عز وجل - كما ذهب إليه غير واحد، فقيل على تأويل: من فى السماء أمره وقضاؤه، يعنى أنه من التجوز فى الإِسناد، أو أن فيه مضافا مقدرا، وأصله: من فى السماء أمره، فلما حذف وأقيم المضاف إليه مقامه ارتفع واستتر، وقيل على تقدير: خالق من فى السماء..
وقيل فى بمعنى على، ويراد العلو بالقهر والقدرة..
وأئمة السلف لم يذهبوا إلى غيره - والآية عندهم من المتشابه وقد قال صلى الله عليه وسلم آمنوا بمتشابهه ولم يقل أولوه. فهم مؤمنون بأنه - عز وجل - فى السماء: على المعنى الذى أراده - سبحانه - مع كمال التنزيه. وحديث الجارية - التى قال لها الرسول صلى الله عليه وسلم أين الله؟ فأشارت إلى السماء - من أقوى الأدلة فى هذا الباب. وتأويله بما أول به الخلف، خروج عن دائرة الإِنصاف عند ذوى الألباب..
والمعنى: أأمنتم - أيها الناس - من فى السماء وهو الله - عز وجل - أن يذهب الأرض بكم، فيجعل أعلاها أسفلها.. فإذا هى تمور بكم وتضطرب، وترتج ارتجاجا شديدا تزول معه حياتكم.
فالمقصود بالآية الكريمة تهديد الذين يخالفون أمره، بهذا العذاب الشديد، وتحذيرهم من نسيان بطشه وعقابه.
والباء فى قوله { بِكُم } للمصاحبة. أى: يخسفها وأنتم مصاحبون لها بذواتكم، بعد أن كانت مذللة ومسخرة لمنفعتكم..
ثم انتقل - سبحانه - من تهديدهم بالخسف إلى تهديدهم بعذاب آخر فقال: { أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ }.
أى: بل أأمنتم - أيها الناس - من السماء، وهو الله - عز وجل - بسلطانه وقدرته.. أن يرسل عليكم { حَاصِباً } أى: ريحا شديدة مصحوبة بالحصى والحجارة التى تهلك، فحينئذ ستعلمون عند معاينتكم للعذاب، كيف كان إنذارى لكم متحققا وواقعا وحقا..
فالاستفهام فى الآيتين المقصود به التعجيب من أمنهم عذاب الله - تعالى - عند مخالفتهم لأمره، وخروجهم عن طاعته.
وقدم - سبحانه - التهديد بالخسف على التهديد بإرسال الحصب، لأن الخسف من أحوال الأرض، التى سبق أن بين لهم أنه خلقها مذللة لهم، وفيها ما فيها من منافعهم، فهذه المنافع ليس عسيرا على الله - تعالى - أن يحولها إلى عذاب لهم...
ثم ذكرهم - سبحانه - بما جرى للكافرين السابقين فقال: { وَلَقَدْ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ }..
أى: ووالله لقد كذب الذين من قبل كفار مكة من الأمم السابقة، كقوم نوح وعاد وثمود.. فكان إنكارى عليهم، وعقابى لهم، شديدا ومبيرا ومدمرا لهم تدميرا تاما.
فالنكير بمعنى الإِنكار، والاستفهام فى قوله: { فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ } للتهويل.
أى: إن إنكارى عليهم كفرهم كان إنكارا عظيما، لأنه ترتب عليه، أن أخذتهم أخذ عزيز مقتدر.
كما قال - تعالى -:
{ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ثم تنتقل السورة بعد هذا التهديد والإِنذار، إلى دعوتهم إلى التأمل والتفكر، فى مشهد الطير صافات فى الجو.. وفى أحوال أنفسهم عند اليأس والفقر، وعند الهزيمة والإِعراض عن الحق.. فيقول - سبحانه -:
{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ.. }.