التفاسير

< >
عرض

أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَـٰفَّـٰتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ
١٩
أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنِ ٱلْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ
٢٠
أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ
٢١
أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٢٢
-الملك

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال بعض العلماء: قوله: { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ.. } عطف على جملة { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً.. } استرسالا فى الدلائل على انفراد الله - تعالى - بالتصرف فى الموجودات، وقد انتقل من دلالة أحوال البشر وعالمهم، إلى دلالة أعجب أحوال العجماوات، وهى أحوال الطير فى نظام حركاتها فى حال طيرانها، إذ لا تمشى على الأرض كما هو فى حركات غيرها على الأرض، فحالها أقوى دلالة على عجيب صنع الله المنفرد به..
والاستفهام فى قوله - تعالى -: { أَوَلَمْ يَرَوْا... } للتعجيب من حال المشركين، لعدم تفكرهم فيما يدعو إلى التفكر والاعتبار..
والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام، والطير: جمع طائر كصحب وصاحب..
والمعنى: أغفل هؤلاء المشركون، وانطمست أعينهم عن رؤية الطير فوقهم، وهن { صَافَّاتٍ } أى: باسطات أجنحتهن فى الهواء عند الطيران فى الجو، { وَيَقْبِضْنَ } أى: ويضممن أجنحتهن تارة على سبيل الاستظهار بها على شدة التحرك فى الهواء.. { مَا يُمْسِكُهُنَّ } فى حالتى البسط والقبض { إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ } الذى وسعت رحمته وقدرته كل شئ، والذى أحسن كل شئ خلقه..
{ إِنَّهُ } - سبحانه - { بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } أى: إنه - سبحانه - مطلع على أحوال كل شئ، ومدبر لأمره على أحسن الوجوه وأحكمها..
قال صاحب الكشاف: { صَافَّاتٍ } باسطات أجنحتهن فى الجو عند طيرانها، لأنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفا { وَيَقْبِضْنَ } أى: ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن.
فإن قلت: لم قيل { وَيَقْبِضْنَ } ولم يقل: وقابضات؟
قلت: لأن الأصل فى الطيران هو صف الأجنحة، لأن الطيران فى الهواء كالسباحة فى الماء، والأصل فى السباحة مد الأطراف وبسطها. وأما القبض فطارئ على البسط. للاستظهار به على التحرك، فجئ بما هو طارئ غير أصل بلفظ الفعل، على معنى أنهن صافات، ويكون منهن القبض تارة كما يكون من السابح..
والمراد بإمساكهن: عدم سقوطهن إلى الأرض بقدرته وحكمته - تعالى - حيث أودع فيها من الخصائص ما جعلها تطير فى الجو، كالسابح فى الماء.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ ٱلطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ ٱلسَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱللَّهُ... } ثم لفت أنظارهم للمرة الثانية إلى قوة بأسه، ونفاذ إرادته، وعدم وجود من يأخذ بيدهم إذا ما أنزل بهم عقابه فقال: { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ }.
والاستفهام للتحدى والتعجيز، و { أم } منقطعة بمعنى بل، فهى للإِِضراب الانتقالى من غرض إلى آخر، ومن حجة إلى أخرى.
و { من } اسم استفهام مبتدأ، وخبره اسم الإِشارة، وما بعده صفته.
والمراد بالجند: الجنود الذين يهرعون لنصرة من يحتاج إلى نصرتهم. ولفظ { دُونِ } أصله ظرف للمكان الأسفل.. ويطلق على الشئ المغاير، فيكون بمعنى غير كما هنا، والمقصود بالآية تحقير شأن هؤلاء الجند، والتهوين من شأنهم.
والمعنى: بل أخبرونى - أيها المشركون - بعد أن ثبتت غفلتكم وعدم تفكيركم تفكيرا ينفعكم، مَن هذا الحقير الذى تستعينون به فى نصركم ودفع الضر عنكم، متجاوزين فى ذلك إرادة الرحمن ومشيئته ونصره. أو من هذا الذى ينصركم نصرا كائنا غير نصر الرحمن، أو من ينصركم من عذاب كائن من عنده - تعالى - .
والجواب الذى لا تستطيعون جوابا سواه: هو أنه لا ناصر لكم يستطيع أن ينصركم من دون الله - تعالى -، كما قال - سبحانه -
{ وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ... } وكما قال - عز وجل -: { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } وقوله - سبحانه -: { إِنِ ٱلْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ } كلام معترض بين ما قبله وما بعده، لبيان حالهم القبيح وواقعهم المنكر.
والغرور: صفة فى النفس تجعلها تعرض عن الحق جحودا وعنادا وجهلا. أى ليس الكافرون إلا فى غرور عظيم، وفى جهل تام، عن تدبر الحق، لأنهم زين لهم الشيطان سوء أعمالهم، فرأوها حسنة.
ثم انتقل - سبحانه - إلى إلزامهم بنوع آخر من الحجج فقال: { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ }..
أى: بل أخبرونى من هذا الذى يزعم أنه يستطيع أن يوصل إليكم الرزق والخير، إذا أمسك الله - تعالى - عنكم ذلك، أو منع عنكم الأسباب التى تؤدى إلى نفعكم وإلى قوام حياتكم، كمنع نزول المطر إليكم، وكإهلاك الزروع والثمار التى تنبتها الأرض..
إنه لا أحد يستطيع أن يرزقكم سوى الله - تعالى -.
وقوله: { بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ } جملة مستأنفة جواب لسؤال تقديره: فهل انتفع المشركون بتلك المواعظ فكان الجواب كلا إنهم لم ينتفعوا، بل { لجوا } أى تمادوا فى اللجاج والجدال بالباطل و { فِي عُتُوٍّ } أى: وفى استكبار وطغيان، وفى { وَنُفُورٍ } أى: شرود وتباعد عن الطريق المستقيم.
أى: أنهم ساروا فى طريق أهوائهم حتى النهاية، دون أن يستمعوا إلى صوت نذير أو واعظ أو مرشد.
ثم ضرب - سبحانه - مثلا لأهل الإِيمان وأهل الكفر، وأهل الحق وأهل الباطل، فقال - سبحانه -: { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }.
والمُكِب: هو الإِنسان الساقط على وجهه، يقال: كبَّ فلان فلانا وأكبه، إذا صرعه وقلبه بأن جعل وجهه على الأرض.. فهو اسم فاعل من أكب.
وقوله: { أَهْدَىٰ } مشتق من الهدى، وهو معرفة طريق الحق والسير فيها، والمفاضلة هنا ليست مقصودة، لأن الذى يمشى مكبا على وجهه، لا شئ عنده من الهداية أو الرشد إطلاقا حتى يفاضل مع غيره، وفيه لون من التهكم بهذا المكب على وجهه.
و "السوى" هو الإِنسان الشديد الاستواء والاستقامة، فهو فعيل بمعنى فاعل.
ومنه قوله - تعالى - حكاية عما قاله إبراهيم - عليه السلام - لأبيه -:
{ يٰأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَٱتَّبِعْنِيۤ أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً } أى: مستويا.
قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ... }: هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، فالكافر مثله فيما هو فيه، كمثل من يمشى مكبا على وجهه، أى: يمشى منحنيا لا مستويا على وجهه، أى: لا يدرى أين يسلك، ولا كيف يذهب، بل هو تائه حائر ضال، أهذا أهدى { أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً } أى: منتصب القامة { عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أى على طريق واضح بين، وهو فى نفسه وهو فى نفسه مستقيم وطريقه مستقيمة.
هذا مثلهم فى الدنيا، وكذلك يكونون فى الآخرة، فالمؤمن يحشر يمشى سويا على صراط مستقيم.. وأما الكافر فإنه يحشر يمشى على وجهه إلى النار..
وروى الإِمام أحمد عن أنس قال:
"قيل يا رسول الله، كيف يحشر الناس على وجوههم؟ فقال: أليس الذى أمشاهم على أرجلهم قادرا على أن يمشيهم على وجوههم"
؟. وقال الجمل: هذا مثل للمؤمن والكافر، حيث شبه - سبحانه - المؤمن فى تمسكه بالدين الحق، ومشيه على منهاجه، بمن يمشى فى الطريق المعتدل، الذى ليس فيه ما يتعثر به..
وشبه الكافر فى ركوبه ومشيه على الدين الباطل، بمن يمشى فى الطريق الذى فيه حفر وارتفاع وانخفاض، فيتعثر ويسقط على وجهه، وكلما تخلص من عثرة وقع فى أخرى.
فالمذكور فى الآية هو المشبه به، والمشبه محذوف، لدلالة السياق عليه..
وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة قد لفتت أنظار الناس إلى التفكر والاعتبار، ووبخت المشركين على جهالاتهم وطغيانهم، وساقت مثالا واضحا للمؤمن والكافر، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة.
ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم فى بضع آيات أن يذكر الكافرين بنعم الله - تعالى - عليهم، وأن يرد على شبهاتهم وأكاذيبهم بما يدحضها، وأن يكل أمره وأمرهم إليه وحده - تعالى - فقال:
{ قُلْ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُمْ... }.