التفاسير

< >
عرض

تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١
ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ
٢
ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ
٣
ثُمَّ ٱرجِعِ ٱلبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ ٱلبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ
٤
-الملك

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

لفظ { تَبَارَكَ } فعل ماض لا ينصرف. وهو مأخوذ من البَركة، بمعنى الكثرة من كل خير. وأصلها النماء والزيادة أى: كثر خيره وإحسانه، وتزايدت بركاته.
أو مأخوذ من البركة بمعنى الثبوت. يقال: برك البعير، إذا أناخ فى موضعه فلزمه وثبت فيه. وكل شئ ثبت ودام فقد برك. أى: ثبت ودام خيره على خلقه.
والملك - بضم الميم وسكون اللام -: السلطان والقدرة ونفاذ الأمر.
أى: جل شأن الله - تعالى - وكثر خيره وإحسانه، وثبت فضله على جميع خلقه، فهو - سبحانه - الذى بيده وقدرته التمكن والتصرف فى كل شئ على حسب ما يريد ويرضى، وهو - عز وجل - الذى لا يعجزه أمر فى الأرض أو فى السماء.
واختار - سبحانه - الفعل "تبارك" للدلالة على المبالغة فى وفرة العظمة والعطاء، فإن هذه الصيغة ترد للكناية عن قوة الفعل وشدته.. كما فى قولهم: تواصل الخير، إذا تتابع بكثرة مع دوامه..
والتعريف فى لفظ "الملك" للجنس. وتقديم المسند وهو "بيده" على المسند إليه، لإِفادة الاختصاص. أى: بيده وحده لا بيد أحد سواه جميع أنواع السلطان والقدرة، والأمر والنهى..
قال الإِمام الرازى: وهذه الكلمة تستعمل لتأكيد كونه - تعالى - ملكا ومالكا، تقول بيد فلان الأمر والنهى، والحل والعقد. وذكر اليد إنما هو تصوير للإِحاطة ولتمام قدرته، لأنها محلها مع التنزه عن الجارحة..
وجملة { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } معطوفة على قوله { بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ } الذى هو صلة الموصول، وذلك لإِفادة التعميم بعد التخصيص، لأن الجملة الأولى وهى { ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ } أفادت عموم تصرفه فى سائر الموجودات، وهذه أفادت عموم تصرفه - سبحانه - فى سائر الموجودات والمعدومات، إذ بيده - سبحانه - إعدام الموجود، وإيجاد المعدوم.
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك، ما يدل على شمول قدرته، وسمو حكمته، فقال { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً.. }.
والموت: صفة وجودية تضاد الحياة: والمراد بخلقه: إيجاده. أو هو عدم الحياة عما هى من شأنه. والمراد بخلقه على هذا المعنى: تقديره أزلا.
واللام فى قوله: { لِيَبْلُوَكُمْ... } متعلقة بقوله: { خَلَقَ } وقوله: { لِيَبْلُوَكُمْ } بمعنى يختبركم ويمتحنكم...
وقوله { أَيُّكُمْ } مبتدأ، و { أَحْسَنُ } خبره، و { عَمَلاً } تمييز، والجملة فى محل نصب مفعول ثان لقوله { لِيَبْلُوَكُمْ }.
والمعنى: ومن مظاهر قدرته - سبحانه - التى لا يعجزها شئ، أنه خلق الموت لمن يشاء إماتته، وخلق الحياة لمن يشاء إحياءه، ليعاملكم معاملة من يختبركم ويمتحنكم، أيكم أحسن عملا فى الحياة، لكى يجازيكم بما تستحقونه من ثواب..
أو المعنى: خلق الموت والحياة، ليختبركم أيكم أكثر استعدادا للموت، وأسرع إلى طاعة ربه - عز وجل -.
قال القرطبى ما ملخصه: قوله: { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ } .. قيل: الذى خلقكم للموت والحياة، يعنى: للموت فى الدنيا والحياة فى الآخرة.
وقدم الموت على الحياة، لأن الموت إلى القهر أقرب.. وقيل: لأنه أقدم، لأن الأشياء فى الابتداء كانت فى حكم الموت.. وقيل: لأن أقوى الناس داعيا إلى العمل، من نصب موته بين عينيه، فقدم لأنه فيما يرجع على الغرض الذى سيقت له الآية أهم.
قال قتادة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إن الله - تعالى - أذل ابن آدم بالموت، وجعل الدنيا دار حياة، ثم دار موت، وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء.." .
وعن أبى الدرداء أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "لولا ثلاث ما طأطأ ابن آدم رأسه: الفقر والمرض والموت، وإنه مع ذلك لوَثَّاب.." .
وقال العلماء: الموت ليس بعدم محض، ولا فناء صرف، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته، وحيلولة بينهما، وتبدل حال، وانتقال من دار إلى دار، والحياة عكس ذلك..
وأوثر بالذكر من المخلوقات الموت والحياة، لأنهما أعظم العوارض لجنس الحيوان، الذى هو أعجب موجود على ظهر الأرض، والذى الإِنسان نوع منه، وهو المقصود بالمخاطبة، إذ هو الذى رضى بحمل الأمانة التى عجزت عن حملها السموات والأرض..
والتعريف فى الموت والحياة للجنس. و "أحسن" أفعل تفضيل، لأن الأعمال التى يقوم بها الناس فى هذه الحياة متفاوته فى الحسن من الأدنى إلى الأعلى.
وجملة { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ } تذييل قصد به أن جميع الأعمال تحت قدرته وتصرفه.
أى: وهو - سبحانه - الغالب الذى لا يعجزه شئ الواسع المغفرة لمن شاء أن يغفر له ويرحمه من عباده، كما قال - تعالى -:
{ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ } ثم بين - سبحانه - مظهرا آخر من مظاهر قدرته التى لا يعجزها شئ فقال: { ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً... }.
والجملة الكريمة صفة للعزيز الغفور، أو عطف بيان أو بدل، أو خبر لمبتدأ محذوف.
وطباقا صفة لسبع سموات. وهى مصدر طابَق مطابقة وطباقا، من قولك: طابق فلان النعل، إذا جعله طبقة فوق أخرى، وهو جمع طبَق، كجبل وجبال، أو جمع طبقة كرَحبة ورحاب.. أى: هو - سبحانه - لا غيره الذى أوجد وخلق على غير مثال سابق سبع سموات متطابقة، أى: بعضها فوق بعض، بطريقة متقنة محكمة.. لا يقدر على خلقها بتلك الطريقة إلا هو، ولا يعلم كنه تكوينها وهيئاتها.. أحد سواه - عز وجل -.
وقوله - سبحانه - { مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ } مؤكد لما قبله، والتفاوت مأخوذ من الفوت، وأصله الفرجة بين الإِصبعين. تقول: تفاوت الشيئان تفاوتا، إذا حدث تباعد بينهما، والجملة صفة ثانية لسبع سماوات، أو مستأنفة لتقرير وتأكيد ما قبلها.. والخطاب لكل من يصلح له.
أى: هو - سبحانه - الذى خلق سبع سماوات بعضها فوق بعض، مع تناسقها، وإتقان تكوينها، وإحكام صنعها.. بحيث لا ترى - أيها العاقل - فى خلق السموات السبع شيئا من الاختلاف، أو الاضطراب، أو عدم التناسب.. بل كلها محكمة، جارية على مقتضى نهاية النظام والإِبداع.
وقال - سبحانه -: { مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ.. } ولم يقل: ما ترى فى السموات السبع من تفاوت، للإِشعار بأن هذا الخلق البديع، هو ما اقتضته رحمته - تعالى - بعباده، لكى تجرى أمورهم على حالة تلائم نظام معيشتهم.. وللتنبيه - أيضا - على أن جميع مخلوقاته تسير على هذا النمط البديع فى صنعها وإيجادها، كما قال - تعالى -:
{ صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } وكما قال - سبحانه -: { ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ... } قال صاحب الكشاف: قوله: { مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ } أى: من اختلاف واضطراب فى الخلقة ولا تناقض، إنما هى مستوية ومستقيمة، وحقيقة التفاوت: عدم التناسب، كأن بعض الشئ يفوت بعضا ولا يلائمه، ومنه قولهم: خلق متفاوت، وفى نقيضه متناصف.
فإن قلت: ما موقع هذه الجملة مما قبلها؟ قلت: هى صفة مشايعة لقوله { طِبَاقاً } وأصلها: ما ترى فيهن من تفاوت، فوضع مكان الضمير قوله: { خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ } تعظيما لخلقهن، وتنبيها على سبب سلامتهن من التفاوت، وهو أنه خلق الرحمن، وأنه يباهر قدرته هو الذى يخلق مثل ذلك الخلق المتناسب..
ثم ساق - سبحانه - بأسلوب فيه ما فيه من التحدى، ما يدل على أن خلقه خال من التفاوت والخلل فقال: { فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ. ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ }
و { الفطور } جمع فَطْر، وهو الشق والصدع، يقال: فطر فلان الشئ فانفطر، إذا شقه، وبابه نصر.
وقوله { كَرَّتَيْنِ } مثنى كرَّة، وهى المرة من الكَرّ، وهو الرجوع إلى الشئ مرة أخرى، يقال كر المقاتل على عدوه، إذا عاد إلى مهاجمته بعد أن تركه.
والمراد بالكرتين هنا: معاودة النظر وتكريره كثيرا، بدون الاقتصار على المرتين، فالتثنية هنا: كناية عن مطلق التكرير، كما فى قولهم: لبيك وسعديك.
وقوله: { خَاسِئاً } أى صاغراً خائبا لأنه لم يجد ما كان يطلبه ويتمناه.
وقوله: { حَسِيرٌ } بمعنى كليل ومتعب، من حسَر بصرُ فلان يَحسُر حسورا إذا كَلَّ وتعب من طول النظر والتأمل والفحص، وفعله من باب قعد.
والمعنى: ما ترى - أيها الناظر - فى خلق الرحمن من تفاوت أو خلل.. فإن كنت لا تصدق ما أخبرناك به، أو فى أدنى شك من ذلك، فكرر النظر فيما خلقنا حتى يتضح لك الأمر، ولا يبقى عندك أدنى شك أو شبهه.
والاستفهام فى قوله: { هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ } للتقرير: أى: إنك مهما نظرت فى خلق الرحمن. وشددت فى التفحص والتأمل.. فلن ترى فيه من شقوق أو خلل أو تفاوت..
وقوله: { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } تعجيز إثر تعجيز، وتحد فى أعقاب تحد.. أى: ثم لا تكتف بإعادة النظر مرة واحدة، فربما يكون قد فاتك شئ فى النظرة الأولى والثانية.. بل أعد النظر مرات ومرات.. فتكون النتيجة التى لا مفر لك منها، أن بصرك - بعد طول النظر والتأمل - ينقلب إليك خائبا وهو كليل متعب.. لأنه - بعد هذا النظر الكثير - لم يجد فى خلقنا شيئا من الخلل أو الوهن أو التفاوت.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: قوله { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ } أى: إن رجعت البصر، وكررت النظر، لم يرجع إليك بصرك بما التمسته من رؤية الخلل، وإدراك العيب، بل يرجع إليك بالخسوء والحسور.. أى: بالبعد عن إصابة الملتمس.
فإن قلت: كيف ينقلب البصر خاسئا حسيرا برجعه كرتين اثنتين؟
قلت: معنى التثنية هنا التكرير بكثرة كقولك لبيك وسعديك..
فإن قلت: فما معنى { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ }؟ قلت: أمره برجع البصر، ثم أمره بأن لا يقتنع بالرجعة الأولى، وبالنظرة الحمقاء وأن يتوقف بعدها، ويُجِم بصره ثم يعاود ويعاود، إلى أن يَحْسِر بصرُه من طول المعاودة، فإنه لا يعثر على شئ من فطور..
هذا، والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة، يراها قد ساقت ما يدل على وحدانية الله - تعالى - وقدرته بأبلغ أسلوب، ودعت الغافلين الذين فسقوا عن أمر ربهم، إلى التدبر فى هذا الكون الذى أوجده - سبحانه - فى أبدع صورة وأتقنها، فإن هذا التدبر من شأنه أن يهدى إلى الحق، ويرشد إلى الصواب..
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك أدلة أخرى على وحدانيته وقدرته، وبين ما أعده للكافرين من عذاب، بسبب إصرارهم على كفرهم.. فقال - تعالى - :
{ وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ... }