التفاسير

< >
عرض

قُلْ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ
٢٣
قُلْ هُوَ ٱلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
٢٤
وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٢٥
قُلْ إِنَّمَا ٱلْعِلْمُ عِنْدَ ٱللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
٢٦
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقِيلَ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ
٢٧
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ ٱللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ ٱلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
٢٨
قُلْ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٢٩
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ
٣٠
-الملك

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

أى: قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المشركين - على سبيل تبصيرهم بالحجج والدلائل الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا، وعلى سبيل التنويع فى الإِرشاد والتوجيه.. قل لهم: الرحمن - عز وجل - هو الذى أنشأكم وأوجدكم فى كل طور من أطوار حياتكم، وهو سبحانه - الذى أوجد لكم السمع الذى تسمعون به، والأبصار التى تبصرون بها الكائنات، والأفئدة أى والقلوب التى يدركونها بها..
ولكنكم - مع كل هذه النعم - { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } خالقكم - عز وجل -.
وجمع - سبحانه - الأفئدة والأبصار، وأفرد السمع، لأن القلوب تختلف باختلاف مقدار ما تفهمه مما يلقى إليها من إنذار أو تبشير، ومن حجة أو دليل، فكان من ذلك تعدد القلوب بتعدد الناس على حسب استعدادهم.
وكذلك شأن الناس فيما تنتظمه أبصارهم من آيات الله فى كونه، فإن أنظارهم تختلف فى عمق تدبرها وضحولته، فكان من ذلك تعدد المبصرين، بتعدد مقادير ما يستنبطون من آيات الله فى الآفاق.
وأما المسموع فهو بالنسبة للناس جميعا شئ واحد، هو الحجة يناديهم بها المرسلون، والدليل يوضحه لهم النبيون.
لذلك كان الناس جميعا كأنهم سمع واحد، فكان إفراد السمع إيذانا من الله بأن حجته واحدة، ودليله واحد لا يتعدد.
وقوله: { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } صفة لمصدر محذوف، أى: شكرا قليلا، و { ما } مزيدة لتأكيد التقليل.
وعبر - سبحانه - بقوله { قَلِيلاً } لحضهم على الإِكثار من شكره - تعالى -، وذلك عن طريق إخلاص العبادة له - عز وجل - : ونبذ عبادة غيره.
ثم أمره - سبحانه - للمرة الثانية أن يذكرهم بنعمة أخرى فقال { قُلْ هُوَ ٱلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }. أى: وقل لهم - أيها الرسول الكريم - الرحمن - تعالى - وحده { هُوَ ٱلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ }.
أى: هو الذى خلقكم وبثكم وكثركم فى الأرض، إذ الذرء معناه: الإِكثار من الموجود..
وقوله: { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } بيان لمصيرهم بعد انتهاء آجالهم فى هذه الدنيا.
أى: وإليه وحده - لا إلى غيره - يكون مرجعكم للحساب والجزاء يوم القيامة.
ثم حكى - سبحانه - أقوالهم التى تدل على طغيانهم وجهالاتهم فقال: { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }.
والوعد: مصدر بمعنى الموعود، والمقصود به ما أخبرهم به صلى الله عليه وسلم من أن هناك بعثا وحسابا وجزاء.. ومن أن العاقبة والنصر للمؤمنين.
أى: ويقول هؤلاء الجاحدون للرسول صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، على سبيل التهكم والاستهزاء: متى يقع هذا الذى تخبروننا عنه من البعث والحساب والجزاء، ومن النصر لكم لا لنا..؟.
وجواب الشرط محذوف والتقدير: إن كنتم صادقين فيما تقولونه لنا، فأين هو؟ إننا لا نراه ولا نحسه.
وهنا يأمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم للمرة الثالثة، أن يرد عليهم الرد الذى يكبتهم فيقول: { قُلْ إِنَّمَا ٱلْعِلْمُ عِنْدَ ٱللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ }.
أى: قل لهم يا محمد علم قيام الساعة، وعلم اليوم الذى سننتصر فيه عليكم.. عند الله - تعالى - وحده، لأن هذا العلم ليس من وظيفتى.
وإنما وظيفتى أنى نذير لكم، أحذركم من سوء عاقبة كفركم، فإذا استجبتم لى نجوتم، وإن بقيتم على كفركم هلكتم.
واللام فى قوله: { ٱلْعِلْمُ } للعهد: أى: العلم بوقت هذا الوعد، عند الله - تعالى - وحده.
والمبين: اسم فاعل من أبان المتعدى، أى: مبين لما أمرت بتبليغه لكم بيانا واضحا لا لبس فيه ولا غموض.
ثم حكى - سبحانه - حالهم عندما يرون العذاب الذى استعجلوه فقال: { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقِيلَ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ }.
والفاء فى قوله: { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً... } هى الفصيحة. و { لما } ظرف بمعنى حين. و { رأوه } مستعمل فى المستقبل وجئ به بصيغة الماضى لتحقق الوقوع، كما فى قوله - تعالى -:
{ أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ... } و { زُلْفَةً } اسم مصدر لأزلف إزلافا، بمعنى القرب. ومنه قوله - تعالى -: { وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ... } أى: قربت للمتقين، وهو حال من مفعول { رَأَوْهُ }.
والمعنى: لقد حل بالكافرين العذاب الذى كانوا يستعجلونه ويقولون: متى هذا الوعد. فحين رأوه نازلا بهم، وقريبا منهم { سِيئَتْ وُجُوهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أى: ساءت رؤيته وجوههم، وحلت عليها غبرة ترهقها قترة.
{ وَقِيلَ } لهم على سبيل التوبيخ والتأنيب { هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ } أى: هذا هو العذاب الذى كنتم تتعجلون وقوعه فى الدنيا، وتستهزئون بمن يحذركم منه.
فقوله { تَدَّعُونَ } من الدعاء بمعنى الطلب، أو من الدعوى.
و{ سِيئَتْ } فعل مبنى للمجهول. وأسند - سبحانه - حصول السوء إلى الوجوه، لتضمينه معنى كلحت وقبحت واسودت، لأن الخوف من العذاب قد ظهرت آثاره على وجوههم.
وقال - سبحانه - { سِيئَتْ وُجُوهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } بالإِظهار، ولم يقل وجوههم، لذمهم بصفة الكفر، التى كانت السبب فى هلاكهم.
ومفعول { تَدَّعُونَ } محذوف. والتقدير: وقيل لهم هذا الذى كنتم تدعون عدم وقوعه. قد وقع، وها أنتم تشاهدونه أمام أعينكم.
والجار والمجرور فى قوله { بِهِ } متعلق بتدعون لأنه مضمن معنى تكذبون.
والقائل لهم هذا القول: هم خزنة النار، على سبيل التبكيت لهم.
ثم أمر - سبحانه - رسوله صلى الله عليه وسلم للمرة الرابعة، أن يرد على ما كانوا يتمنونه بالنسبة له ولأصحابه فقال: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ ٱللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ ٱلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }.
ولقد كان المشركون يتمنون هلاك النبى صلى الله عليه وسلم وكانوا يرددون ذلك فى مجالسهم، وقد حكى القرآن عنهم ذلك فى آيات منها قوله - تعالى -:
{ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ } أى: قل لهم - أيها الرسول الكريم - { أَرَأَيْتُمْ } أى: أخبرونى { إِنْ أَهْلَكَنِيَ ٱللَّهُ }. - تعالى - وأهلك - { وَمَن مَّعِيَ } من أصحابى وأتباعى { أَوْ رَحِمَنَا } بفضله وإحسانه بأن رزقنا الحياة الطويلة، ورزقنا النصر عليكم.
فأخبرونى فى تلك الحالة { فَمَن يُجِيرُ ٱلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } أى: من يستطيع أن يمنع عنكم عذاب الله الأليم، إذا أراد أن ينزله بكم؟ مما لا شك فيه أنه لن يستطيع أحد أن يمنع ذلك عنكم.
قال صاحب الكشاف: كان كفار مكة يدعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك، فأمر بأن يقول لهم: نحن مؤمنون متربصون لإِحدى الحسنيين: إما أن نهلك كما تتمنون، فننقلب إلى الجنة، أو نرحم بالنصرة عليكم، أما أنتم فماذا تصنعون؟ من يجيركم - وأنتم كافرون - من عذاب أليم لا مفر لكم منه.
يعنى: إنكم تطلبون لنا الهلاك الذى هو استعجال للفوز والسعادة، وأنتم فى أمر هو الهلاك الذى لا هلاك بعده..
والمراد بالهلاك: الموت، وبالرحمة: الحياة والنصر بدليل المقابلة، وقد منح الله - تعالى - نبيه العمر المبارك النافع، فلم يفارق صلى الله عليه وسلم الدنيا إلا بعد أن بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ودخل الناس فى دين الله أفواجا، وكانت كلمته هى العليا.
والاستفهام فى قوله { أَرَأَيْتُمْ } للإِنكار والتعجيب من سوء تفكيرهم.
والرؤية علمية، والجملة الشرطية بعدها سدت مسد المفعولين.
وقال - سبحانه - { فَمَن يُجِيرُ ٱلْكَافِرِينَ } للإِشارة إلى أن كفرهم هو السبب فى بوارهم وفى نزول العذاب الأليم بهم.
ثم أمره - سبحانه - للمرة الخامسة، أن يبين لهم أنه هو وأصحابه معتمدون على الله - تعالى - وحده، ومخلصون له العبادة والطاعة، فقال: { قُلْ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا.. }
أى: وقل يا محمد لهؤلاء الجاحدين: إذا كنتم قد أشركتم مع الله - تعالى - آلهة أخرى فى العبادة، فنحن على النقيض منكم، لأننا أخلصنا عبادتنا للرحمن الذى أوجدنا برحمته، وآمنا به إيمانا حقا، وعليه وحده توكلنا وفوضنا أمورنا.
وأخر - سبحانه - مفعول { آمَنَّا } وقدم مفعول { تَوَكَّلْنَا }، للتعريض بالكافرين، الذين أصروا على ضلالهم، فكأنه يقول: نحن آمنا ولم نكفر كما كفرتم، وتوكلنا عليه وحده، ولم نتوكل على ما أنتم متوكلون عليه من أصنامكم وأموالكم وأولادكم..
وقوله { فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } مسوق مساق التهديد والوعيد أى: فستعلمون فى عاجل أمرنا وآجله، أنحن الذين على الحق أم أنتم؟ ونحن الذين على الباطل أم أنتم؟..
فالمقصود بالآية الكريمة التهديد والإِنذار، مع إخراج الكلام مخرج الإِنصاف، الذى يحملهم على التدبر والتفكر لو كانوا يعقلون.
ثم أمر - سبحانه - صلى الله عليه وسلم للمرة السادسة، أن يذكرهم بنعمة الماء الذى يشربونه فقال: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ }.
وقوله { غَوْراً } مصدر غارَت البئر، إذا نضب ماؤها وجف. يقال: غار الماء يغورُ غورا، إذا ذهب وزال..
والمعين: هو الماء الظاهر الذى تراه العيون، ويسهل الحصول عليه، وهو فعيل من معن إذا قرب وظهر.
أى: وقل لهم - أيها الرسول الكريم - على سبيل التوبيخ وإلزام الحجة: أخبرونى إن أصبح ماؤكم غائرا فى الأرض، بحيث لا يبقى له وجود أصلا.
فمن يستطيع أن يأتيكم بماء ظاهر على وجه الأرض، تراه عيونكم، وتستعملونه فى شئونكم ومنافعكم.
إنه لا أحد يستطيع ذلك إلا الله - تعالى - وحده، فعليكم أن تشكروه على نعمه، لكى يزيدكم منها.