التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلْنَٰهَا رُجُوماً لِّلشَّيَٰطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ
٥
وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
٦
إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ
٧
تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ
٨
قَالُواْ بَلَىٰ قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ
٩
وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِيۤ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ
١٠
فَٱعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ
١١
-الملك

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الإِمام الرازى: اعلم أن هذا هو الدليل الثانى على كونه - تعالى - قادرا عالما، وذلك لأن هذه الكواكب نظرا إلى أنها محدثة ومختصة بمقدار معين، وموضع خاص، وسير معين، تدل على أن صانعها قادر.
ونظرا إلى كونها محكمة متقنة موافقة لمصالح العباد، ومن كونها زينة لأهل الدنيا، وسببا لانتفاعهم بها، تدل على أن صانعها عالم.
ونظير هذه الآية قوله - تعالى - فى سورة الصافات:
{ إِنَّا زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِزِينَةٍ ٱلْكَوَاكِبِ. وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ } وقوله: { زَيَّنَّا } من التزيين بمعنى التحسين والتجميل. و { ٱلدُّنْيَا } صيغة تفضيل من الدنو بمعنى القرب.
والمصابيح: جمع مصباح وهو السراج المضئ. والمراد بها النجوم. وسميت بالمصابيح على التشبيه بها فى حسن المنظر، وفى الإضاءة ليلا..
والرجوم: جمع رَجْم، وهو فى الأصل مصدر رَجَمه رَجْماً - من باب نصر - إذا رماه بالرِّجام أى: بالحجارة، فهو اسم لما يُرْجَم به، أى: ما يَرْمِى به الرامى غيرَه من حجر ونحوه، تسمية للمفعول بالمصدر، مثل الخَلْق بمعنى المخلوق.
وصدرت الآية الكريمة بالقسم، لإِبراز كال العناية بمضمونها.
والمعنى: وبالله لقد زينا وجملنا السماء القريبة منكم بكواكب مضيئة كإضاءة السُّرُجِ، وجعلنا - بقدرتنا - من هذه الكواكب، ما يرجم الشياطين ويحرقها، إذا ما حاولوا أن يسترقوا السمع، كما قال - تعالى -
{ وَأَنَّا لَمَسْنَا ٱلسَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } قال الإِمام ابن كثير: قوله: { وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ } عاد الضمير فى قوله { وَجَعَلْنَاهَا } على جنس المصابيح لاعلى عينها، لأنه لا يرمى بالكواكب التى فى السماء، بل بشهب من دونها، وقد تكون مستمدة منها - والله أعلم -.
قال قتادة: إنما خلقت هذه النجوم لثلاث خصال: خلقها زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك فقد قال برأيه، وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به..
فالضمير فى قوله: { وَجَعَلْنَاهَا } يعود إلى المصابيح، ومنه من أعاده إلى السماء الدنيا، على تقدير: وجعلنا منها رجوما للشياطين الذين يسترقون السمع.
وقوله - تعالى -: { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ } بيان لسوء مصيرهم فى الآخرة، بعد بيان سوء مصيرهم فى الدنيا عن طريق إحراقهم بالشهب.
أى: وهيأنا لهؤلاء الشياطين فى الآخرة - بعد إحراقهم فى الدنيا بالشهب - عذاب النار المشتعلة المستعرة.
فالسعير - بزنة فعيل - اسم لأشد النار اشتعالا. يقال: سعر فلان النار - كمنع - إذا أوقدها بشدة.
وكان السعير عذابا للشياطين - مع أنهم مخلوقون من النار، لأن نار جهنم أشد من النار التى خلقوا منها، فإذا ألقوا فيها صارت عذابا لهم، إذ السعير أشد أنواع النار التهابا واشتعالا وإحراقا..
وقوله: { وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } معطوف على ما قبله.
أى: هيأنا للشياطين عذاب السعير، وهيأنا - أيضا - للذين كفروا بربهم من الإِنس عذاب جهنم، وبئس المصير عذاب جهنم.
ثم بين - سبحانه - أحوالهم الأليمة حينما يلقون جميعا فى النار فقال: { إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ.. }
والظرف "إذا" متعلق بقوله { سَمِعُواْ } والشهيق: تردد النفس فى الصدر بصعوبة وعناء..
أى: أن هؤلاء الكافرين بربهم، عندما يلقون فى النار، يسمعون لها صوتا فظيعا منكرا، { وَهِيَ تَفُورُ } أى: وحالها أنها تغلى بهم غليان المرجل بما فيه، إذا الفوز: شدة الغليان، ويقال ذلك فى النار إذا هاجت، وفى القدر إذا غلت..
{ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ } أى تكاد النار تتقطع وينفصل بعضها عن بعض، لشدة غضبها عليهم، والتهامها لهم، وتميز أصله تتميز فحذفت إحدى التاءين تخفيفا.
والغيظ أشد الغضب، والجملة فى محل نصب على الحال، أو فى محل رفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف. أى: هى تكاد تتقطع من شدة غضبها عليهم..
وقوله: { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ.. } كلام مستأنف لبيان حال أهلها.
والفوج: الجماعة من الناس ولفظ { كلما } مركب من كل الدال على الشمول، ومن ما المصدرية الظرفية.
أى: فى كل وقت وآن، يلقى بجامعة من الكافرين فى النار، يسألهم خزنتها من الملائكة، سؤال تبكيت وتقريع، بقولهم:
{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } أى: ألم يأتكم يا معشر الكافرين نذير فى الدنيا، ينذركم ويخوفكم من أهوال هذا اليوم، ويدعوكم إلى إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده.
ثم حكى - سبحانه - ما رد به الكافرون على خزنة جهنم فقال: { قَالُواْ بَلَىٰ قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ.. }.
أى: قال الكافرون - على سبيل التحسر والتفجع - فى ردهم على خزنة جهنم: بلى لقد جاءنا المنذر الذى أنذرنا وحذرنا من سوء عاقبة الكفر.. ولكننا كذبناه، وأعرضنا عن دعوته، بل وتجاوزنا ذلك بأن قلنا له على سبيل العناد والجحود والغرور: ما نزل الله على أحد من شئ من الأشياء التى تتلوها علينا، وتأمرنا بها، أو تنهانا عن مخالفتها.
وقوله: { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ } يحتمل أنه من كلام الكافرين لرسلهم الذين أنذروهم وحذروهم من الإِصرار على الكفر.
أى: جاءنا الرسل الذين أنذرونا.. فكذبناهم، وقلنا لهم: ما نزل الله من شئ من الأشياء على ألسنتكم.. وقلنا لهم - أيضا - ما أنتم إلا فى ضلال كبير، أى: فى ذهاب واضح عن الحق، وبعدٍ شديد عن الصواب.
ويحتمل أن يكون من كلام الملائكة، أى: قال لهم الملائكة على سبيل التجهيل والتوبيخ: ما أنتم - أيها الكافرون - إلا فى ضلال كبير، بسبب تكذيبكم لرسلكم، وإعراضكم عمن حذركم وأنذركم.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ } من المخاطبون به؟
قلت: هو من جملة قول الكفار وخطابهم للمنذرين، على أن النذير بمعنى الإِنذار. والمعنى: ألم يأتكم أهل نذير: أو وصف به منذروهم لغلوهم فى الإِنذار، كأنهم ليسوا إلا إنذارا..
ويجوز أن يكون من كلام الخزنة للكفار على إرادة القول: أرادوا حكاية ما كانوا عليه من ضلالهم فى الدنيا، أو أرادوا بالضلال: الهلاك...
وجمع - سبحانه - الضمير فى قوله { إِنْ أَنتُمْ... } مع أن الملائكة قد سألوهم { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } بالإِفراد، للإِشعار بأن هؤلاء الكافرين لم يكتفوا بتكذيب النذير الذى أنذرهم، بل كذبوه وأتباعه الذين آمنوا به.
فكأن كل فوج منهم كان يقول للرسول الذى جاء لهدايته: أنت وأتباعك فى ضلال كبير.
ثم بين - سبحانه - جانبا آخر من حسراتهم فى هذا اليوم فقال: { وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِيۤ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ.. }.
أى: وقال الكافرون بربهم - على سبيل الحسرة والندامة - لو كنا فى الدنيا نسمع ما يقال لنا على لسان رسولنا، سماع طاعة وتفكر واستجابة، أو نعقل ما يوجه إلينا من هدايات وإرشادات..
لو كنا كذلك، ما صرنا فى هذا اليوم من جملة أصحاب النار المسعرة، الذين هم خالدون فيها أبدا.
وقدم - سبحانه - السماع على التعقل، مراعاة للترتيب الطبيعى، لأن السماع يكون أولا، ثم يعقبه التعقل والتدبر لما يسمع.
والفاء الأولى فى قوله - تعالى - : { فَٱعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } للإِفصاح، والثانية للسببية، والسُّحقُ: البُعد، يقال: سَحُق - ككَرم وعَلِم - سُحقا، أى بَعُدَ بُعْداً، وفلان أسحقه الله، أى: أبعده عن رحمته، وهو مصدر ناب عن فعله فى الدعاء، ونصبه على أنه مفعول به لفعل مقدر، أى: ألزمهم الله سحقا، أو منصوب على المصدرية، أى: فسحقهم الله سحقا.
أى: إذا كان الأمر كما أخبروا عن أنفسهم، فقد أقروا واعترفوا بذنوبهم، وأن الله - تعالى - ما ظلمهم، وأن ندمهم لن ينفعهم فى هذا اليوم.. بل هم جديرون بالدعاء عليهم بالطرد من رحمة الله - تعالى - وبخلودهم فى نار السعير.
واللام فى قوله { لأَصْحَابِ } للتبيين، كما فى قولهم: سَقياً لك.
فالآية الكريمة توضح أن ما أصابهم من عذاب كان بسبب إقرارهم بكفرهم، وإصرارهم عليه حتى الممات، وفى الحديث الشريف:
"لن يدخل أحد النار، إلا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنة" وفى حديث آخر: "لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم" .
وكعادة القرآن الكريم فى قرنه الترغيب بالترهيب أو العكس، أخذت السورة فى بيان حسن عاقبة المؤمنين، بعد بيان سوء عاقبة الكافرين، وفى لفت أنظار الناس إلى نعم الله - تعالى - عليهم، لكى يشكروه ويخلصوا له العبادة.. قال - تعالى - :
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ... }.