التفاسير

< >
عرض

نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ
١
مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ
٢
وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ
٣
وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ
٤
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ
٥
بِأَييِّكُمُ ٱلْمَفْتُونُ
٦
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ
٧
فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذِّبِينَ
٨
وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ
٩
وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ
١٠
هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ
١١
مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ
١٢
عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ
١٣
أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ
١٤
إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ
١٥
سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ
١٦
-القلم

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

افتتحت سورة "القلم" بأحد الحروف المقطعة، وهى آخر سورة فى ترتيب المصحف، افتتحت بواحد من هذه الحروف. أما بالنسبة لترتيب النزول، فقد تكون أول سورة نزلت على النبى صلى الله عليه وسلم فى السور المفتتحة بالحروف المقطعة.
وقد قلنا عند تفسيرنا لسورة البقرة: وردت هذه الحروف المقطعة تارة مفردة بحرف واحد، وتارة مركبة من حرفين أو ثلاثة، أو أربعة، أو خمسة.
فالسور التى بدئت بحرف واحد ثلاث سور وهى: ص، ق، ن.
والسور التى بدئت بحرفين تسع سور وهى: طه، يس، طس، وحم، فى ست سور، وهى: غافر، فصلت، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف.
والسور التى بدئت بثلاثة أحرف، ثلاث عشرة سورة وهى: "ألم" فى ست سور، وهى: البقرة، آل عمران، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة.
و { الر } فى خمس سور: وهى: يونس، هود، يوسف، إبراهيم، الحجر.
و { طسم } فى سورتين وهما: الشعراء، والقصص.
وهناك سورتان بدئتا بأربعة أحرف وهما: الرعد، "المر"، والأعراف "المص".
وهناك سورتان - أيضا - بدئتا بخمسة أحرف، وهما: "مريم"كهيعص" والشورى: "حم عسق" فيكون مجموع السور التى افتتحت بالحروف المقطعة: تسعا وعشرين سورة.
هذا، وقد وقع خلاف بين العلماء فى المعنى المقصود بتلك الحروف المقطعة التى افتتحت بها بعض السور القرآنية، ويمكن إجمال خلافهم فى رأيين رئيسيين:
الرأى الأول يرى أصحابه: أن المعنى المقصود منها غير معروف، فهى من المتشابه الذى استأثر الله - تعالى - بعلمه.
وإلى هذا الرأى ذهب ابن عباس - فى بعض الروايات عنه - كما ذهب إليه الشعبى، وسفيان الثورى وغيرهم من العلماء.
فقد أخرج ابن المنذر عن الشعبى أنه سئل عن فواتح السور فقال: إن لكل كتاب سرا، وإن سر هذا القرآن فى فواتح السور.
ويروى عن ابن عباس أنه قال: عجزت العلماء عن إدراكها.
وعن على بن أبى طالب أنه قال: "إن لكل كتاب صفوة، وصفوة الكتاب حروف التهجى".
وفى رواية أخرى عن الشعبى أنه قال: "سر الله فلا تطلبوه"
ومن الاعتراضات التى وجهت إلى هذا الرأى، أنه إذا كان الخطاب بهذه الفواتح غير مفهوم للناس لأنه من المتشابه، فإنه يترتب على ذلك أنه كالخطاب بالمهمل، أو مثل ذلك كمثل المتكلم بلغة أعجمية مع أناس عرب لا يفهمونها.
وقد أجيب عن ذلك بأن هذه الألفاظ، لم ينتف الإِفهام عنها عند كل أحد، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يفهم المراد منها، وكذلك بعض أصحابه المقربين، ولكن الذى ننفيه أن يكون الناس جميعا فاهمين لمعنى هذه الحروف المقطعة فى أوائل بعض السور.
وهناك مناقشات أخرى للعلماء حول هذا الرأى، يضيق المجال عن ذكرها.
أما الرأى الثانى فيرى أصحابه أن المعنى المقصود منها معلوم، وأنها ليست من المتشابه الذى استأثر الله - تعالى - بعلمه.
وأصحاب هذا الرأى قد اختلفوا فيما بينهم فى تعيين هذا المعنى المقصود على أقوال كثيرة من أهمها ما يأتى:
أ - أن هذه الحروف أسماء للسور، بدليل قول النبى صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حم السجدة حفظ إلى أن يصبح"، وبدليل اشتهار بعض السور بالتسمية بها كسورة "ص" وسورة "يس".
ولايخلو هذا القول من الضعف، لأن كثيرا من السور قد افتتحت بلفظ واحد من هذه الفواتح، والغرض من التسمية رفع الاشتباه.
ب - وقيل: إن هذه الحروف قد جاءت هكذا فاصلة، للدلالة على انقضاء سورة وابتداء أخرى.
جـ - وقيل: إنها حروف مقطعة، بعضها من أسماء الله - تعالى -، وبعضها من صفاته، فمثلا: { ألم } أصلها: أنا الله أعلم.
د - وقيل: إنها اسم الله الأعظم. إلى غير ذلك من الأقوال التى لا تخلوا من مقال، والتى أوصلها الإِمام السيوطى فى كتابه "الإِتقان" إلى أكثر من عشرين قولا.
هـ - ولعل أقرب الآراء إلى الصواب أن يقال: إن هذه الحروف المقطعة، قد وردت فى افتتاح بعض السور، للإِشعار بأن هذا القرآن الذى تحدى الله به المشركين، هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التى يعرفونها، ويقدرون على تأليف الكلام منها، فإذا عجزوا عن الإِتيان بسورة من مثله، فذلك لبلوغه فى الفصاحة والبلاغة، مرتبة يقف فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل شاسعة.
وفضلا عن ذلك، فإن تصدير هذه السور بمثل هذه الحروف المقطعة، يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم، إلى الإِنصات والتدبر، لأنه يطرق أسماعهم فى أول التلاوة ألفاظ غير مألوفة فى مجارى كلامهم. وذلك مما يلفت أنظارهم ليتبينوا ما يراد منها، فيسمعوا حكما وحججا قد تكون سببا فى هدايتهم واستجابتهم للحق.
هذه خلاصة لآراء العلماء فى الحروف المقطعة، التى افتتحت بها بعض السور القرآنية، ومن أراد مزيدا لذلك فليرجع - مثلا - إلى كتاب "البرهان" للزركشى. وكتاب "الإِتقان" للسيوطى، وتفسير "الآلوسى".
ولفظ "ن" على الرأى الذى رجحناه، يكون إشارة إلى إعجاز القرآن...
وقيل: هو من المتشابه الذى استأثر الله بعلمه..
وقد ذكر بعض المفسرين أقوالا أخرى، لا يعتمد عليها لضعفها، ومن ذلك قولهم: إن "نون" اسم لحوت عظيم.. أو اسم للدواة... وقيل: "نون" لوح من نور..
والواو فى قوله: { وَٱلْقَلَمِ } للقسم، والمراد بالقلم: جنسه، فهو يشمل كل قلم يكتب به و "ما" فى قوله { وَمَا يَسْطُرُونَ } موصولة أو مصدرية. و { يَسْطُرُونَ } مضارع سطر - من باب نصر -، يقال: سطر الكتاب سطرا، إذا كتبه، والسطر: الصف من الشجر وغيره، وأصله من السطر بمعنى القطع، لأن صفوف الكتابة تبدو وكأنها قطع متراصة.
وجواب القسم قوله: { مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ }.
أى: وحق القلم الذى يكتب به الكاتبون من مخلوقاتنا المتعددة، إنك - أيها الرسول الكريم - لمبرأ مما اتهمك به أعداؤك من الجنون، وكيف تكون مجنونا وقد أنعم الله - تعالى - عليك بالنبوة والحكمة.
فالمقصود بالآيات الكريمة تسلية النبى صلى الله عليه وسلم عما أصابه من المشركين، ودفع تهمهم الباطلة دفعا يأتى عليها من القواعد فيهدمها، وإثبات أنه رسول من عنده - تعالى -.
وأقسم - سبحانه - بالقلم، لعظيم شرفه، وكثرة منافعه، فبه كتبت الكتب السماوية، وبه تكتب العلوم المفيدة.. وبه يحصل التعارف بين الناس..
وصدق الله إذ يقول:
{ ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ. ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ. عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } قال القرطبى: أقسم - سبحانه - بالقلم. لما فيه من البيان كاللسان. وهو واقع على كل قلم مما يَكتب به من السماء مَن فى الأرض، ومنه قول أبى الفتح البستى:

إذا أقسم الأبطال يوما بسيفهموعدُّوه مما يُكْسِبُ المجد والكرَمْ
كفى قلم الكتاب عزا ورفعةمدى الدهر أن الله أقسم بالقلَمْ

والضمير فى قوله: { يَسْطُرُونَ } راجع إلى غير مذكور فى الكلام، إلا أنه معلوم للسامعين، لأن ذكر القلم يدل على أن هناك من يكتب به.
ونفى - سبحانه - عنه صلى الله عليه وسلم الجنون بأبلغ أسلوب، لأن المشركين كانوا يصفونه بذلك، قال - تعالى -.
{ وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } قال الآلوسى: قوله: { مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ }. جواب القسم، والباء الثانية مزيدة لتأكيد النفى. ومجنون خبر ما، والباء الأولى للملابسة، والجار والمجرور فى موضع الحال من الضمير فى الخبر، والعامل فيها معنى النفى.
والمعنى: انتفى عنك الجنون فى حال كونك ملتبسا بنعمة ربك أى: منعما عليك بما أنعم من حصافة الرأى، والنبوة..
وفى إضافته صلى الله عليه وسلم إلى الرب - عز وجل - مزيد إشعار بالتسلية والقرب والمحبة. ومزيد إشعار - أيضا - بنفى ما افتراه الجاهلون من كونه صلى الله عليه وسلم مجنونا، لأن هذه الصفة لا تجتمع فى عبد أنعم الله - تعالى - عليه، وقربه، واصطفاه لحمل رسالته وتبليغ دعوته.
ثم بشره - سبحانه - ببشارة ثانية فقال: { وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ }.
وقوله: { مَمْنُونٍ } مأخوذ من المن بمعنى القطع، تقول: مننت الحبل، إذا قطعته، ويصح أن يكون من المن، بمعنى أن يعطى الإِنسان غيره عطية ثم يفتخر بها عليه، ومنه قوله - تعالى -:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ... } أى: وإن لك - أيها الرسول الكريم - عندنا، لأجرا عظيما لا يعلم مقداره إلا نحن، وهذا الأجر غير مقطوع بل هو متصل ودائم وغير ممنون.
وهذه الجملة الكريمة وما بعدها، معطوفة على جملة جواب القسم، لأنهما من جملة المقسم عليه..
ثم أثنى - سبحانه - عليه بأجمل ثناء وأطيبه فقال: { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ }.
والخلق - كما يقول الإِمام الرازى - ملكه نفسانية، يسهل على المتصف بها الإِتيان بالأفعال الجميلة... و ...
والعظيم: الرفيع القدر، الجليل الشأن، السامى المنزلة.
أى: وإنك - أيها الرسول الكريم - لعل دين عظيم، وعلى خلق كريم، وعلى سلوك قويم، فى كل ما تأتيه وما تتركه من أقوال وأفعال..
والتعبير بلفظ "على" يشعر بتمكنه صلى الله عليه وسلم ورسوخه فى كل خلق كريم. وهذا أبلغ رد على أولئك الجاهلين الذين وصفوه بالجنون، لأن الجنون سفه لا يحسن معه التصرف. أما الخلق العظيم، فهو أرقى منازل الكمال، فى عظماء الرجال.
وإن القلم ليعجز عن بيان ما اشتملت عليه هذه الآية الكريمة، من ثناء من الله - تعالى - على نبيه صلى الله عليه وسلم.
قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: قال قتادة: ذكر لنا أن سعد بن هشام سأل السيدة عائشة عن معنى هذه الآية فقالت: ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى. قالت: فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن..
ومعنى هذا، أنه صلى الله عليه وسلم صار امتثال القرآن أمرا ونهيا، سجية له وخلقا وطبعا، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق الكريم، كالحكمة، والعفة، والشجاعة، والعدالة..
وكيف لا يكون صلى الله عليه وسلم جماع كل خلق عظيم وهو القائل:
"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" .
ثم بشره - سبحانه - ببشارات أخرى فقال: { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ. بِأَيِّكُمُ ٱلْمَفْتُونُ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ }.
والفاء فى قوله: { فَسَتُبْصِرُ... } للتفريع على ما تقدم من قوله: { مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ }
والفعل "تبصر ويبصرون" من الإِبصار الذى هو الرؤية بالعينين، وقيل: بمعنى العلم.. والسين فى { فَسَتُبْصِرُ... } للتأكيد.
والباء فى قوله { بِأَيِّكُمُ.. } يرى بعضهم أنها بمعنى فى. والمفتون: اسم مفعول، وهو الذى أصابته فتنة. أدت إلى جنونه، والعرب كانوا يقولون للمجنون: فتنته الجن. أو هو الذى اضطرب أمره واختل تكوينه وضعف تفكيره.. كأولئك المشركين الذين قالوا فى النبى صلى الله عليه وسلم أقوالا لا يقولها عاقل..
أى: لقد ذكرنا لك - أيها الرسول الكريم - أنك بعيد عما اتهمك به الكافرون، وأن لك عندنا المنزلة التى ليس بعدها منزلة.. وما دام الأمر كذلك فسترى وسنعلم، وسيرى وسيعلم هؤلاء المشركون، فى أى قريق منكم الإِصابة بالجنون؟ أفى فريق المؤمنين أم بفريق الكافرين..
قال الجمل فى حاشيته ما ملخصه: قوله: { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ } قال ابن عباس: فستعلم ويعلمون يوم القيامة حين يتميز الحق من الباطل، وقيل فى الدنيا بظهور عاقبة أمرك..
{ بِأَيِّكُمُ ٱلْمَفْتُونُ } الباء مزيدة فى المبتدأ، والتقدير: أيكم المفتون، فزيدت الباء كزيادتها فى نحو: بحسبك درهم..
وقيل: الباء بمعنى "فى" الظرفية، كقولك: زيد بالبصرة. أى: فيها. والمعنى: فى أى فرقة منكم المفتون.
وقيل: المفتون مصدر جاء على مفعول كالمعقول والميسور. أى، بأيكم الفتون..
وجملة: { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ... } تعليل لما ينبئ عنه ما قبله من ظهور جنونهم بحيث لا يخفى على أحد، وتأكيد لوعده صلى الله عليه وسلم بالنصر، ولوعيدهم بالخيبة والخسران.
أى: إن ربك - أيها الرسول الكريم - الذى خلقك فسواك فعدلك، هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وبمن أعرض عن طريق الحق والصواب.. وهو - سبحانه - أعلم بالمهتدين الذين اهتدوا إلى ما ينفعهم ويسعدهم فى دنياهم وآخرتهم..
وما دام الأمر كذلك: فذرهم فى طغيانهم يعمهون، وسر فى طريقك، فستكون العاقبة لك ولأتباعك.
ثم أرشده - سبحانه - إلى جانب من مسالكهم الخبيثة، وصفاتهم القبيحة، وحذره من الاستجابة إلى شئ من مقترحاتهم، فقال: { فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذِّبِينَ. وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ }
وقوله: { وَدُّواْ } من الود بمعنى المحبة. وقوله: { تُدْهِنُ } من الإِدهان وهى المسايرة والمصانعة والملاينة للغير. وأصله أن يجعل على الشئ دهنا لكى يلين أو لكى يحسن شكله، ثم استعير للملاينة والمساهلة مع الغير.
أى: إن ربك - أيها الرسول الكريم - لا يخفى عليه شئ من أحوالك وأحوالهم، وما دام الأمر كذلك، فاحذر أن تطيع هؤلاء المكذبين فى شئ مما يقترحونه عليك، فإنهم أحبوا وودوا أن تقبل بعض مقترحاتهم، وأن تلاينهم وتطاوعهم فيما يريدون منك.. وهم حينئذ يظهرون لك من جانبهم الملاينة والمصانعة.. حتى لكأنهم يميلون نحو الاستجابة لك، وترك إيذائك وإيذاء أصحابك.
فالآية الكريمة تشير إلى بعض المساومات التى عرضها المشركون على النبى صلى الله عليه وسلم وما أكثرها، ومنها: ما ذكره ابن إسحاق فى سيرته من أن بعض زعماء المشركين قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت فى الأمر، فإن كان الذى تعبد خيرا مما نعبد، كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد، كنت قد أخذت بحظك منه، فنزلت سورة "الكافرون".
ومنها ما دار بينه صلى الله عليه وسلم وبين الوليد بن المغيرة تارة، وبينه وبين عتبة بن ربيعة تارة أخرى.. مما هو معروف فى كتب السيرة.
ولقد
"قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعمه أبى طالب عندما نصحه بأن يترك المشركين وشأنهم، وقال له: يا ابن أخى أشفق على نفسك وعلى، ولا تحملنى من الأمر ما لا أطيق.
قال له صلى الله عليه وسلم: يا عماه، والله لو وضعوا الشمس فى يمينى، والقمر فى يسارى. على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك فيه.."
.
والتعبير بقوله: { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } يشير إلى أن الملاينة والمصانعة كانت منهم، لا منه صلى الله عليه وسلم، فهم الذين كانوا يحبون منه أن يستجيب لمقترحاتهم، لكى يقابلوا ذلك بالتظاهر بأنهم على صلة طيبة به وبأصحابه.
قال صاحب الكشاف: قوله: { فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذِّبِينَ } تهييج وإلهاب للتصميم على معاصاتهم، وكانوا قد أرادوا على أن يعبد الله مدة، وآلهتهم مدة، ويكفوا عن غوائلهم.
وقوله: { لَوْ تُدْهِنُ } لو تلين وتصانع { فَيُدْهِنُونَ }.
فإن: قلت: لماذا رفع "فيدهنون" ولم ينصب بإضمار "أن" وهو جواب التمنى؟ قلت: قد عدل إلى طريق آخر، وهو أنه جعل خبر مبتدأ محذوف. أى: فهم يدهنون، كقوله:
{ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } على معنى: ودوا لو تدهن فهم يدهنون..
ثم يكرر - سبحانه - النهى للنبى صلى الله عليه وسلم عن طاعة كل حلاف مهين. هماز مشاء بنميم..
فيقول: { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ. هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ. مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ }.
وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآيات الكريمة، نزلت فى الوليد بن المغيرة.. وقيل: إنها نزلت فى الأخنس بن شريق..
والآيات الكريمة يشمل النهى فيها كل من هذه صفاته، ويدخل فيها الوليد بن المغيرة، والأخنس بن شريف.. دخولا أوليا.
أى: ولا تطع - أيها الرسول الكريم - كل من كان كثير الحلف بالباطل، وكل من كان مهينا، أى: حقير ذليلا وضيعا. من المهانة، وهى القلة فى الرأى والتمييز.
{ هَمَّازٍ } أى: عياب للناس، أو كثير الاغتياب لهم، من الهمز، وأصله: الطعن فى الشئ بعود أو نحوه، ثم استعير للذى يؤذى الناس بلسانه وبعينه وبإشارته، ويقع فيهم بالسوء، ومنه قوله - تعالى -:
{ ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } { مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ } أى: نقال للحديث السَّيَّئ لكى يفسد بين الناس.. والنميم والنميمة مصدران بمعنى السعاية والإِفساد. يقال: نَمَّ فلان الحديث - من بابى قتل وضرب - إذا سار بين الناس بالفتنة. وأصل النم: الهمس والحركة الخفيفة ثم استعملت فى السعى بين الناس بالفساد على سبيل المجاز.
{ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ } أى: هو شديد المنع لكل ما فيه خير، ولكل من يستحقه، خصوصا إذا كان من يستحقه من المؤمنين.
ثم هو بعد ذلك { مُعْتَدٍ } أى: كثير العدوان على الناس { أَثِيمٍ } أى: مبالغ فى ارتكابه للآثام، لا يترك سيئة دون أن يرتكبها.
وقد جاءت صفات الذم السابقة بصيغة المبالغة، للإِشعار برسوخه فيها، وباقترافه لها بسرعة وشدة.
{ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } والعتل: هو الجاف الغليظ، القاسى القلب: الفظ الطبع، الأكول الشروب.. بدون تمييز بين حلال وحرام. مأخوذ من عتله يعتُلِه - بكسر التاء وضمها - إذا جره بعنف وغلظة..
{ والزنيم } هو اللصيق بالقوم دون أن يكون منهم، وإنما هو دعى فيهم، حتى لكأنه فيهم كالزنمة، وهى ما يتدلى من الجلد فى حلق المعز أو الشأة..
وقيل: الزنيم، هو الشخص الذى يعرف بالشر واللؤم بين الناس، كما تعرف الشاة بزنمتها. أى: بعلامتها.
ومعنى: "بعد ذلك": كمعنى "ثم" أى: ثم هو بعد كل تلك الصفات القبيحة السابقة: جاف غليظ، ملصق بالقوم، دعى فيهم...
فهذه تسع صفات، كل صفة منها قد بلغت النهاية فى القبح والسوء، ساقها - سبحانه - لذم الوليد بن المغيرة وأشباهه فى الكفر والفجور.
وقوله: { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ... } متعلق بقوله قبل ذلك { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ.. } أى: ولا تطع من كانت هذه صفاته لكونه ذا مال وبنين، فإن ماله وولده لن يغنى عنه من الله - تعالى - شيئا.
وقوله: { إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } كلام مستأنف جار مجرى التعليل للنهى عن طاعته، والأساطير جمع أسطورة بمعنى أكذوبة.
أى: لا تطعه - لأنه فضلا عما اتسم به من صفات قبيحة - تراه إذا تتلى عليه آياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا.. وعلى صدقك يا محمد فيما تبلغه عنا، قال هذا العتل الزنيم، هذه الآيات أكاذيب الأولين وترهاتهم.
ثم ختم هذه الآيات بأشد أنواع الوعيد لمن هذه صفاته فقال - تعالى - { سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ }.
أى: سنبين أمره ونوضحه توضيحا يجعل الناس يعرفونه معرفة تامة لاخفاء معها ولا لبس ولا غموض، كما لا تخفى العلامة الكائنة على الخرطوم، الذى يراد به هنا الأنف. والوسم عليه يكون بالنار.
أو سنلحق به عارا لا يفارقه، بل يلازمه مدى الحياة، وكان العرب إذا أرادوا أن يسبوا رجلا سبة قبيحة.. قالوا: قد وُسِمَ فلان مِيسَمَ سوء.. أى: التصق به عار لا يفارقه، كالسمة التى هى العلامة التى لا يمحى أثرها..
وذكر الوسم والخرطوم فيه ما فيه من الذم، لأن فيه جمعا بين التشويه الذى يترتب على الوسم السَّيِّئ، وبين الإِهانة، لأن كون الوسم فى الوجه بل فى أعلى جزء من الوجه وهو الأنف.. دليل على الإِذلال والتحقير.
ومما لا شك فيه أن وقع هذه الآيات على الوليد بن المغيرة وأمثاله، كان قاصما لظهورهم، ممزقا لكيانهم، هادما لما كانوا يتفاخرون به من أمجاد زائفة، لأنه ذم لهم من رب الأرض والسماء، الذى لا يقول إلا حقا وصدقا.
كذلك كانت هذه الآيات تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، عما أصابهم من أذى، من هؤلاء الحلافين بالباطل والزور، المشائين بين الناس بالنميمة، المناعين لكل خير وبر.
وبمناسبة الحديث السابق الذى فيه إشارة إلى المال والبنين، اللذين كانا من أسباب بطر هؤلاء الكافرين وطغيانهم.. ساق القرآن بعد ذلك قصة أصحاب الجنة، لتكون موعظة وعبرة كل عاقل، فقال - تعالى -:
{ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ... }.