التفاسير

< >
عرض

وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَٰبَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَٰبِيَهْ
٢٥
وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ
٢٦
يٰلَيْتَهَا كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ
٢٧
مَآ أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ
٢٨
هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ
٢٩
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ
٣٠
ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ
٣١
ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ
٣٢
إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ٱلْعَظِيمِ
٣٣
وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ
٣٤
فَلَيْسَ لَهُ ٱلْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ
٣٥
وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ
٣٦
لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ ٱلْخَاطِئُونَ
٣٧
-الحاقة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

أى: { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ } أى: من الجهة التى يعلم أن الإِتيان منها يؤدى إلى هلاكه وعذابه.
{ فَيَقُولُ } على سبيل التحسر والتفجع { يٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ } أى: فيقول يا ليتنى لم أعط هذا الكتاب، لأن إعطائى إياه بشمالى دليل على عذابى وعقابى.
{ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } أى: ويا ليتنى لم أعرف شيئا عن حسابى، فإن هذه المعرفة التى لم أحسن الاستعدا لها، أوصلتنى إلى العذاب المبين.
{ يٰلَيْتَهَا كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ } أى: ويا ليت الموتة التى متها فى الدنيا، كانت هى الموتة النهائية التى لا حياة لى بعدها.
فالضمير للموتة التى ماتها فى الدنيا، وإن كان لم يجر لها ذكر، إلا أنها عرفت من المقام.
والمراد بالقاضية: القاطعة لأمره، التى لا بعث بعدها ولا حساب.. لأن ما وجده بعدها أشد مما وجده بعد حلوله بها.
قال قتادة: تمنى الموت ولم يكن عنده فى الدنيا شئ أكره منه. وشر من الموت ما يطلب منه الموت.
ثم أخذ الذى أوتى كتابه بشماله يتحسر على تفريطه وغروره، ويحكى القرآن ذلك فيقول: { مَآ أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ } أى: هذه الأموال التى كنت أملكها فى الدنيا، وأتفاخر بها. لم تغن عنى شيئا من عذاب الله، ولم تنفعنى ولو منفعة قليلة.
فما نافية، والمفعول محذوف للتعميم، ويجوز أن تكون استفهامية والمقصود بها التوبيخ.
أى: أى شئ أغنى عنى مالى؟ إنه لم يغن عنى شيئاً.
{ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } أى: ذهب عنى، وغاب عنى فى هذا اليوم ما كنت أتمتع به فى الدنيا من جاه وسلطان، ولم يحضرنى شئ منه، كما أن حججى وأقوالى التى كنت أخاصم بها المؤمنين. قد ذهبت أدراج الرياح.
وعدى الفعل "هلك" بعن، لتضمنه معنى غاب وذهب.
وخلال هذا التفجع والتحسر الطويل... يأتى أمر الله - تعالى الذى لا يرد، فيقول - سبحانه - للزبانية المكلفين بإنزال العذاب بالكافرين: { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ } أى: خذوا هذا الكافر، فاجمعوا يديه إلى عنقه.
فقوله: { خُذُوهُ } معمول لقول محذوف. وهو جواب عن سؤال نشأ مما سبق من الكلام. فكأنه قيل: وماذا يفعل به بعد هذا التحسر والتفجيع. فكان الجواب: أمر الله - تعالى - ملائكته بقوله: { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ }..
وقوله: { فَغُلُّوهُ } من الغُل - بضم الغين - وهو ربط اليدين إلى العنق على سبيل الإِذلال.
{ ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ } أى: ثم بعد هذا التقييد والإِذلال.. اقذفوه به إلى الجحيم، وهى النار العظيمة، الشديدة التأجج والتوهج.
ومعنى { صَلُّوهُ } بالغوا فى تصليته النار، بغمسه فيها مرة بعد أخرى. يقال: صَلِى فلان النار، إذا ذاق حرها، وصَلّى فلان فلانا النار، إذا أدخله فيها. وقلبه على جمرها كما تقلب الشاة فى النار.
{ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ } والسلسلة: اسم لمجموعة من حَلَق الحديد، يربط بها الشخص لكى لا يهرب، أو لكى يزاد فى إذلاله وهو المراد هنا.
وقوله: { ذَرْعُهَا } أى: طولها. والمراد بالسبعين: حقيقة هذا المقدار فى الطول، أو يكون هذا العدد كناية عن عظيم طولها، كما فى قوله - تعالى -:
{ ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ... } وقوله: { فَاسْلُكُوهُ } من السَّلك بمعنى الإِدخال فى الشئ، كما فى قوله - تعالى - { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } أى: ما أدخلكم فيها.
أى: خذوا هذا الكافر، فقيدوه ثم أعدوه للنار المحرقة. ثم اجعلوه مغلولا فى سلسلة طولها سبعين ذرعا، بحيث تكون محيطة به إحاطة تامة. أى ألقوا به فى الجحيم وهو مكبل فى أغلاله.
و { ثم } فى كل آية جئ بها للتراخى الرتبى، لأن كل عقوبة أشد من سابقتها. إذ إدخاله فى السلسلة الطويلة. أعظم من مطلق إلقائه فى الجحيم كما أن إلقاءه فى الجحيم، أشد من مطلق أخذه وتقييده.
وفى هذه الآيات ما فيها من تصوير يبعث فى القلوب الخوف الشديد، ويحملها على حسن الاستعداد لهذا اليوم. الذى لا تغنى فيه نفس عن نفس شيئاً.
وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات بعض الأحاديث والآثار، منها: ما رواه ابن أبى حاتم، عن المنهال بن عمرو قال: إذا قال الله - عز وجل - { خُذُوهُ.. } ابتدره سبعون ألف ملك، وإن الملك منهم ليقول هكذا - أى: ليفعل هكذا - فيلقى سبعين ألفا فى النار.
ثم بين - سبحانه - الأسباب التى أدت بهذا الشقى إلى هذا المصير الأليم فقال: { إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ٱلْعَظِيمِ. وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ }.
أى: إن هذا الشقى إنما حل به ما حل من عذاب.. لأنه كان فى الدنيا، مصرا على الكفر، وعلى عدم الإِيمان بالله الواحد القهار..
وكان كذلك { وَلاَ يَحُضُّ } أى: لا يحث نفسه ولا غيره { عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } أى: على بذل طعامه أو طعام غيره للمسكين، الذى حلت به الفاقة والمسكنة.
ولعل وجه التخصيص لهذين الأمرين بالذكر، أن أقبح شئ يتعلق بالعقائد، وهو الكفر بالله - تعالى - وأن أقبح شئ فى الطباع، هو البخل وقسوة القلب.
ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات، بزيادة البيان للمصير الأليم لهذا الشقى فقال: { فَلَيْسَ لَهُ ٱلْيَوْمَ } أى: يوم القيامة { هَا هُنَا حَمِيمٌ } أى: ليس له فى هذا اليوم من صديق ينفعه، أو من قريب يشفق عليه، أو يحميه، أو يدفع عنه.
{ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } أى: وليس له فى جهنم من طعام سوى الغسلين وهو صديد أهل النار.. أو شجر يأكله أهل النار، فيغسل بطونهم، أى: يخرج أحشاءهم منها، أو ليس لهم إلا شر الطعام وأخبثه.
{ لاَّ يَأْكُلُهُ } أى: الغسلين { إِلاَّ ٱلْخَاطِئُونَ } أى: إلا الكافرون الذين تعمدوا ارتكاب الذنوب، وأصروا عليها، من خَطِئَ الرجل: إذا تعمد ارتكاب الذنب.
فالخاطئ هو من يرتكب الذنب عن تعمد وإصرار. والمخطئ: هو من يرتكب الذنب عن غير إصرار وتعمد.
وهكذا. نجد الآيات الكريمة قد ساقت أشد ألوان الوعيد والعذاب.. للكافرين، بعد أن ساقت قبل ذلك، أعظم أنواع النعيم المقيم للمؤمنين.
وبعد هذا العرض - الذى بلغ الذروة فى قوة التأثير - لأهوال يوم القيامة، ولبيان حسن عاقبة المتقين، وسوء عاقبة المكذبين.. بعد كل ذلك أخذت السورة فى أواخرها، فى تقرير حقيقة هذا الدين، وفى تأكيد صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه، وفى بيان أن هذا القرآن من عنده - تعالى - وحده.. فقال - سبحانه -:
{ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا... }.