التفاسير

< >
عرض

فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ
٣٨
وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ
٣٩
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ
٤٠
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ
٤١
وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ
٤٢
تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٤٣
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ
٤٤
لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ
٤٥
ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ
٤٦
فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ
٤٧
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ
٤٨
وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ
٤٩
وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ
٥٠
وَإِنَّهُ لَحَقُّ ٱلْيَقِينِ
٥١
فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ
٥٢
-الحاقة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

الفاء فى قوله: { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ } للتفريع على ما فهم مما تقدم، من إنكار المشركين ليوم القيامة، ولكون القرآن من عند الله.
و { لا } فى مثل هذا التركيب يرى بعضهم أنها مزيدة، فيكون المعنى: أقسم بما تبصرون من مخلوقاتنا كالسماء والأرض والجبال والبحار.. وبما لا تبصرون منها، كالملائكة والجن.
وقوله: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } جواب القسم، وهو المحلوف عليه أى: أقسم إن هذا القرآن لقول رسول كريم، هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وأضاف - سبحانه - القرآن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم باعتبار أنه هو الذى تلقاه عن الله - تعالى - وهو الذى بلغه عنه بأمره وإذنه.
أى: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول هذا القرآن، وينطق به، على وجه التبليغ عن الله - تعالى -.
قال الإِمام ابن كثير: قوله: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم أضافه إليه على معنى التبليغ، لأن الرسول من شأنه أن يبلغ عن المُرسِل، ولهذا أضافه فى سورة التكوير إلى الرسول الملكى فقال:
{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ. مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } وهو جبريل - عليه السلام -.
وبعضهم يرى أن "لا" فى مثل هذا التركيب ليست مزيدة، وإنما هى أصلية، ويكون المقصود من الآية الكريمة، بيان أن الأمر فى الوضوح بحيث لا يحتاج إلى قسم، إذ كل عاقل عندما يقرأ القرآن، يعتقد أنه من عند الله.
ويكون المعنى: فلا أقسم بما تبصرونه من مخلوقات، وبما لا تبصرونه.. لظهور الأمر واستغنائه عن القسم..
قال الشوكانى: قوله: { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ. وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ } هذا رد لكلام المشركين، كأنه قال: ليس الأمر كما تقولون. و "لا" زائدة والتقدير: فأقسم بما تشاهدونه وبما لا تشاهدونه.
وقيل إن "لا" ليست زائدة، بل هى لنفى القسم، أى: لا أحتاج إلى قسم لوضوح الحق فى ذلك. والأول أولى.
وتأكيد قوله: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } بإنَّ وباللام، للرد على المشركين الذين قالوا عن القرآن الكريم: أساطير الأولين.
ثم أضاف - سبحانه - إلى هذا التأكيد تأكيدات أخرى فقال: { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ. وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ }
والشاعر: هو من يقول الشعر. والكاهن: هو من يتعاطى الكهانة عن طريق الزعم بأنه يعلم الغيب.
وانتصب "قليلا" فى الموضعين على أنه صفة لمصدر محذوف، و "ما" مزيدة لتأكيد القلة.
والمراد بالقلة فى الموضعين انتفاء الإِيمان منهم أصلا أو أن المراد بالقلة: إيمانهم اليسير، كإيمانهم بأن الله هو الذى خلقهم، مع إشراكهم معه آلهة أخرى فى العبادة.
أى: ليس القرآن الكريم بقول الشاعر، ولا بقول كاهن، وإنما هو تنزيل من رب العالمين، على قلب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لكى يبلغه إليكم، ولكى يخرجكم بواسطته من ظلمات الكفر، إلى نور الإِيمان.
ولكنكم - أيها الكافرون - لا إيمان عندكم أصلا، أو قليلا ما تؤمنون بالحق، وقليلا ما تتذكرونه وتتعظون به.
ففى الآيتين رد على الجاحدين الذين وصفوا الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر أو كاهن.
وخص هذين الوصفين بالذكر هنا لأن وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه { رَسُولٍ كَرِيمٍ } كاف لنفى الجنون أو الكذب عنه صلى الله عليه وسلم أما وصفه بالشعر والكهانة فلا ينافى عندهم وصفه بأنه كريم، لأن العشر والكهانة كان معدودين عندهم من صفات الشرف، لذا نفى - سبحانه - عنه صلى الله عليه وسلم أنه شاعر أو كاهن، وأثبت له أنه رسول كريم.
وقوله: { تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } تأكيد لكون القرآن من عند الله - تعالى - وأنه ليس بقول شاعر أو كاهن.
أى: هذا القرآن ليس كما زعمتم - أيها الكافرون - وإنما هو منزل من رب العالمين، لا من أحد سواه - عز وجل -.
ثم بين - سبحانه - ما يحدث للرسول صلى الله عليه وسلم لو أنه - على سبيل الفرض - غيرَّ أو بدل شيئا من القرآن فقال: { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ. لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ. فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ }
والتقول: افتراء القول، ونسبته إلى من لم يقله، فهو تفعل من القول يدل على التكلف والتصنع والاختلاق.
والأقاويل: جمع أقوال، الذى هو جمع قول، فهو جمع الجمع.
أى: ولو أن محمداً صلى الله عليه وسلم افترى علينا بعض الأقوال، أو نسب إلينا قولا لم نقله، أو لم نأذن له فى قوله.. لو أنه فعل شيئا من ذلك على سبيل الفرض.
{ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ } أى: لأخذنا منه باليد اليمنى من يديه، وهو كناية عن إذلاله وإهانته.
أو: لأخذناه بالقوة والقدر، وعبر عنهما باليمين، لأن قوة كل شئ فى ميامنه.
والمقصود بالجملة الكريمة: التهويل من شأن الأخذ، وأنه أخذ شديد سريع لا يملك معه تصرفا أو هربا.
ثم أضاف - سبحانه - إلى هذا التهويل ما هو أشد منه فى هذا المعنى فقال: { ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ }.
أى: ثم بعد هذا الأخذ بقوة وسرعة، لقطعنا وتينه. وهو عرق يتصل بالقلب. متى قطع مات صاحبه.
وهذا التعبير من مبتكرات القرآن الكريم، ومن أساليبه البديعة، إذ لم يسمع عن العرب أنهم عبروا عن الإِهلاك بقطع الوتين.
ثم بين - سبحانه - أن أحدا لن يستطيع منع عقابه فقال: { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ }.
أى: فما منكم من أحد - أيها المشركون - يستطيع أن يدفع عقابنا عنه، أو يحول بيننا وبين ما نريده، فالضمير فى "عنه" يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال صاحب الكشاف عند تفسيره لهذه الآيات: التقول: افتعال القول، كأن فيه تكلفا من المفتعل، وسمى الأقوال المتقولة "أقاويل" تصغيراً بها وتحقيرا، كقولك: الأعاجيب والأضاحيك، كأنها جمع أفعولة من القول.
والمعنى: ولو ادعى علينا شيئا لم نقله لقتلناه صبرا، كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم. معالجة بالسخط والانتقام، فصور قتل الصبر بصورته ليكون أهول، وهو أن يؤخذ بيده، وتضرب رقبته.
وخص اليمين عن اليسار، لأن القاتل إذا أراد أن يوقع الضرب فى قفا المقتول أخذ بيساره، وإذا أراد أن يوقعه فى جيده وأن يكفحه بالسيف - وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف - أخذ بيمينه.
ومعنى: { لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ }: لأخذنا بيمينه. كما أن قوله: { ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ }: لقطعنا وتينه، والوتين: نياط القلب، وهو حبل الوريد، إذا قطع مات صاحبه.
وفى هذه الآيات الكريمة أقوى الأدلة على أن هذا القرآن من عند الله - تعالى - لأنه لو كان - كما زعم الزاعمون أنه من تأليف الرسول صلى الله عليه وسلم لما نطق بهذه الألفاظ التى فيها ما فيها من تهديده ووعيده.
كما أنها كذلك فيها إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم لم يتقول شيئا.. وإنما بلّغ هذا القرآن عن ربه - عز وجل - دون أن يزيد حرفا أو ينقص حرفا.. لأن حكمة الله - تعالى - قد اقتضت أن يهلك كل من يفترى عليه الكذب، ومن يزعم أن الله - تعالى - أوحى إليه، مع أنه - سبحانه - لم يوح إليه.
وقوله - سبحانه - { وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } معطوف على قوله: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ }.
أى: إن هذا القرآن لقول رسول كريم بلغه عن الله - تعالى - وإنه لتذكير وإرشاد لأهل التقوى، لأنهم هم المنتفعون بهداياته.
وقوله - تعالى -: { وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ } تبكيت وتوبيخ لهؤلاء الكافرين، الذين جحدوا الحق بعد أن تبين لهم أنه حق.
أى: وإنا لا يخفى علينا أن منكم - أيها الكافرون - من هو مكذب للحق عن جحود وعناد، ولكن هذا لن يمنعنا من إرسال رسولنا بهذا الدين لكى يبلغه إليكم، ومن شاء بعد ذلك فليؤمن ومن شاء فليكفر، وسنجازى كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب.
وقوله - سبحانه -: { وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } بيان لما يكون عليه الكافرون من ندم شديد، عندما يرون حسن مصير المؤمنين، وسوء مصير المكذبين.
والحسرة: هى الندم الشديد المتكرر، على أمر نافع قد مضى ولا يمكن تداركه.
أى: وإن هذا القرآن الكريم، ليكون يوم القيامة، سبب حسرة شديدة وندامة عظيمة، على الكافرين، لأنهم يرون المؤمنين به فى هذا اليوم فى نعيم مقيم، أما هم فيجدون أنفسهم فى عذاب أليم.
وقوله: { وَإِنَّهُ لَحَقُّ ٱلْيَقِينِ } معطوف على ما قبله، أى: وإن هذا القرآن لهو الحق الثابت الذى لا شك فى كونه من عند الله - تعالى - وأن محمدا صلى الله عليه وسلم قد بلغه إلى الناس دون أن يزيد فيه حرفا، أو ينقص منه حرفا.
وإضافة الحق إلى اليقين، من إضافة الصفة إلى الموصوف. أى: لهو اليقين الحق، أو هو من إضافة الشئ إلى نفسه مع اختلاف اللفظين، كما فى قوله:
{ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } ، إذ الحبل هو الوريد.
والمقصود من مثل هذا التركيب: التأكيد.
وقد قالوا: إن مراتب العلم ثلاثة: أعلاها: حق اليقين، ويليها: عين اليقين، ويليها: علم اليقين.
فحق اليقين: كعلم الإِنسان بالموت عند نزوله به، وبلوغ الروح الحلقوم، وعين اليقين: كعلمه به عند حلول أماراته وعلاماته الدالة على قربه.. وعلم اليقين: كعلمه بأن الموت سينزل به لا محالة مهما طال الأجل.. والفاء فى قوله - تعالى - { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } للإِفصاح. أى: إذا كان الأمر كما ذكرنا لك من أن هذا الدين حق، وأن البعث حق، وأن القرآن حق، فنزه اسم ربك العظيم عما لا يليق به، من النقائص، فى الاعتقاد أو فى العبادة، أو فى القول، أو فى الفعل.
والباء فى قوله: { بِٱسْمِ رَبِّكَ } للمصاحبة. أى: نزه ربك تنزيها مصحوبا بكل ما يليق به من طاعة وإخلاص ومواظبة على مراقبته وتقواه.