التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ
١٠
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ ٱلسَّاجِدِينَ
١١
-الأعراف

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

مكناكم: من التمكين بمعنى التمليك، أو معناه: جعلنا لكم فيها مكانا وقراراً وأقدرناكم على التصرف فيها ومعايش: جمع معيشة وهى ما يعاش به من المطاعم والمشارب وما تكون به الحياة.
والمعنى: ولقد جعلنا لكم - يا بنى آدم - مكانا وقرارا فى الأرض، وأقدرناكم على التصرف فيها، وأنشأنا لكم أنواعا شتى من المطاعم والمشارب التى تتعيشون بها عيشة راضية، ولكن كثيراً منكم لم يقابلوا هذه النعم بالشكر، بل قابلوها بالجحود والكفران. وفضلا عن ذلك فنحن الذين خلقنا أباكم آدم من طين غير مصور، ثم صورناه بعد ذلك.
أو المعنى نحن الذين خلقناكم فى ظهر آدم. ثم صورناكم حين أخذنا عليكم الميثاق، ثم أمرنا بعد ذلك ملائكتنا بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس فإنه لم يكن من الساجدين.
والسجود: لغة، التذلل والخضوع مع انخفاض بانحناء وغيره، وخص فى الشرع بوضع الجبهة على الأرض بقصد العبادة.
وللعلماء أقوال فى كيفية السجود الذى أمر الله به الملائكة لآدم وأرجح هذه الأقوال. أن السجود المأمور به فى الآية يحمل على المعنى المعروف فى اللغة. أى: أن الله - تعالى - أمرهم بفعل تجاه آدم يكون مظهرا من مظاهر التواضع والخضوع له تحية وتعظيما، وإقراراً له بالفضل دون وضع الجبهة على الأرض الذى هو عبادة، إذ عبادة غير الله شرك يتنزه الملائكة عنه، وعلى هذا الرأى سار علماء أهل السنة.
وقيل إن السجود كان لله. وآدم إنما كان كالقبلة يتوجه إليه الساجدون تحية له. وإلى هذا الرأى اتجه علماء المعتزلة، وقد قالوا ذلك هربا من أن تكون الآية الكريمة حجة عليهم، إذ أن أهل السنة قالوا: إبليس من الملائكة والصالحون من البشر أفضل من الملائكة. واحتجوا بسجود الملائكة لآدم وخالفت المعتزلة فى ذلك، وقالت الملائكة أفضل من البشر، وسجود الملائكة لآدم كان كالقبلة.
والذى نراه أن ما سار عليه أهل السنة أرجح لأن ما ذهب إليه المعتزلة يبعده أن المقام مقام لإِظهار فضل آدم على الملائكة، وإظهار فضله عليهم لا يتحقق بمجرد كونه قبلة للسجود: وأمر الله الملائكة بالسجود لآدم، هو لون من الابتلاء والاختبار، ليميز الله الخبيث من الطيب، وينفذ ما سبق به العلم واقتضته المشيئة والحكم.
وإبليس: اسم مشتق من الإِبلاس، وهو الحزن الناشىء عن شدة اليأس وفعله بلس. والراجح أنه اسم أعجمى، ومنعه من الصرف للعلمية والعجمة وهو كائن حى، وقد أخطأ من حمله على معنى داعى الشر الذى يخطر فى النفوس، إذ ليس من المعقول أن يكون ذلك مع أن القرآن أخبرنا بأنه يرى الناس ولا يرونه. قال - تعالى -:
{ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } وللعلماء فى كون إبليس من الملائكة أولا قولان:
أحدهما: أنه كان منهم، لأنه - سبحانه - أمرهم بالسجود لأدم، ولولا أنه كان منهم لما توجه إليه الأمر بالسجود، ولو لم يتوجه إليه الأمر بالسجود لم يكن عاصياً ولما استحق الخزى والنكال، ولأن الأصل فى المستثنى أن يكون داخلا تحت اسم المستثنى منه حتى يقوم دليل على أنه خارج عنه.
والثانى: أنه ليس منهم لقوله - تعالى -:
{ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } فهو أصل الجن، كما أن آدم أصل الإِنس، ولأنه خلق من نار، والملائكة خلقوا من نور، ولأن له ذرية ولا ذرية للملائكة.
ففى هاتين الآيتين بيان لنعمتين عظيمتين من نعم الله على عباده:
أولاهما: نعمة التمكين فى الأرض واتخاذهم إياها وطنا مزوداً بضروب شتى مما يحتاجون إليه من معايشهم وما به قوام حياتهم وكمالها.
وثانيهما: نعمة خلقهم من أب واحد، تجمعهم به رحم واحدة، وبسببها كانوا خلفاء فى الأرض وفى عمارة الكون، وفضلوا على كثير من الخلق، فكان الواجب عليهم أن يقابلوهما بالشكر والإِيمان.
ثم حكى القرآن الكريم الأسباب التى حملت إبليس على عدم السجود لآدم فقال: { قَالَ مَا مَنَعَكَ.... }.