التفاسير

< >
عرض

وَسْئَلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي ٱلسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ
١٦٣
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
١٦٤
فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُوۤءِ وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ
١٦٥
فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ
١٦٦
-الأعراف

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله - تعالى - { وَسْئَلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ }... الخ. معطوف على اذكر المقدر فى قوله - تعالى -: { وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ ٱسْكُنُواْ } والخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم وضمير الغيبة للمعاصرين له من اليهود.
أى: سل يا محمد هؤلاء اليهود المعاصرين لك كيف كان حال أسلافهم الذين تحايلوا على استحلال محارم الله فإنهم يجدون أخبارهم فى كتبهم ولا يستطيعون كتمانها.
والمقصود من سؤالهم تقريعهم على عصيانهم، لعلهم أن يتوبوا ويرجعوا إلى الحق، ولا يعرضوا أنفسهم لعقوبات كالتى نزلت بسابقيهم، وتعريفهم بأن هذه القصة من علومهم المعروفة لهم والتى لا يستطيعون إنكارها، والتى لا تعلم إلا بكتاب أو وحى، فإذا أخبرهم بها النبى الأمى الذى لم يقرأ كتابهم كان ذلك معجزة له. ودليلا على أنه نبى صادق موحى إليه بها.
قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره للآية الكريمة: (أى واسأل - يا محمد - هؤلاء اليهود الذين بحضرتكم عن قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر الله ففاجأتهم نقمته على اعتدائهم واحتيالهم فى المخالفة، وحذر هؤلاء من كتمان صفتك التى يجدونها فى كتبهم "لئلا يحل بهم ما حل بإخوانهم وسلفهم وهذه القرية هى "أيلة" وهى على شاطىء بحر القلزم، أى - البحر الأحمر -).
وقال الإِمام القرطبى: وهذا سؤال تقرير وتوبيخ، وكان ذلك علامة لصدق النبى صلى الله عليه وسلم إذ أطلعه الله على تلك الأمور من غير تعلم وكانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه، لأنا من سبط إسرائيل. ومن سبط موسى كليم الله، ومن سبط ولده عزير فنحن أولادهم، فقال الله - عزل وجل - لنبيه سلهم - يا محمد - عن القرية. أما عذبتهم بذنوبهم، وذلك بتغيير فرع من فروع الشريعة.
وجمهور المفسرين على أن المراد بهذه القرية. قرية (أيلة) التى تقع بين مدين والطور، وقيل هى قرية طبرية، وقيل هى مدين.
ومعنى كونها { حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ }: قريبة منه، مشرفة على شاطئه، تقول كنت بحضرة الدار أى قريبا منها.
وقوله { إِذْ يَعْدُونَ فِي ٱلسَّبْتِ }أى يظلمون ويتجاوزون حدود الله - تعالى - بالصيد فى يوم السبت ويعدون بمعنى يعتدون، يقال: عدا فلان الأمر واعتدى إذا تجاوز حده.
وقوله تعالى { إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ } بيان لموضع الاختبار والامتحان.
و { إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ } ظرف ليعدون. وحيتان جمع حوت وهو السمك الكبير. وشرعا: أى: شارعة ظاهرة على وجه الماء. جمع شارع، من شرع عليه إذا دنا وأشرف وكل شىء دنا من شىء فهو شارع، وقوله: شرعا حال من الحيتان.
والمعنى: إذ تأتيهم حيتانهم فى وقت تعظيمهم ليوم السبت ظاهرة على وجه الماء دانية من القرية بحيث يمكنهم صيدها بسهولة، فإذا مر يوم السبت وانتهى لا تأتيهم كما كانت تأتيهم فيه، ابتلاء من الله - تعالى - لهم.
قال ابن عباس: (اليهود أمروا باليوم الذى أمرتم به، وهو يوم الجمعة، فتركوه واختاروا السبت فابتلاهم الله - تعالى - به، وحرم عليهم الصيد فيه، وأمرهم بتعظيمه، فإذا كان يوم السبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها فى البحر، فإذا انقضى السبت ذهبت وما تعود إلا فى السبت المقبل، وذلك بلاء ابتلاهم الله به، فذلك معنى قوله تعالى { وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ }.
وقال الإِمام القرطبى: (وروى فى قصص هذه الآية أنها كانت فى زمن داود - عليه السلام - وأن إبليس أوحى إليهم فقال إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت، فاتخذوا الحياض، فكانوا يسوقون الحيتان إليها يوم السبت فتبقى فيها، فلا يمكنها الخروج منها لقلة الماء. فيأخذونها يوم الأحد).
وقوله تعالى { كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } معناه: بمثل هذا الابتلاء، وهو ظهور السمك لهم فى يوم السبت، واختفائه فى غيره نبتليهم ونعاملهم معاملة من يختبرهم، لينالوا ما يستحقونه من عقوبة بسبب فسقهم وتعديهم حدود ربهم، وتحايلهم القبيح على شريعتهم، فقد جرت سنة الله بأن من أطاعه سهل له أمور دنياه، وأجل له ثواب أخراه، ومن عصاه أخذه أخذ عزيز مقتدر.
ثم بين - سبحانه - طوائف هذه القرية وحال كل طائفة فقال تعالى { وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }.
والذى يفهم من هذه الآية الكريمة، - وعليه جمهور المفسرين - أن أهل القرية كانوا ثلاث فرق:
1- فرقة المعتدين فى السبت، المتجاوزين حدود الله عن تعمد وإصرار.
2 - فرقة الناصحين لهم بالانتهاء عن تعديهم وفسوقهم.
3 - فرقة اللائمين للناصحين ليأسهم من صلاح العادين فى السبت.
وهذه الفرقة الثالثة هى التى عبر القرآن الكريم عنها بقوله: { وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } أى: قالت فرقة من أهل القرية، لإِخوانهم الذين لم يألوا جهدا فى نصيحة العادين فى السبت، لم تعظون قوما لا فائدة من وعظهم ولا جدوى من تحذيرهم، لأن الله تعالى قد قضى باستئصالهم وتطهير الأرض منهم، أو بتعذيبهم عذاباً شديداً، جزاء تماديهم فى الشر، وصممهم عن سماع الموعظة فكان رد الناصحين عليهم { مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }.
فهم قد عللوا نصيحتهم للعادين بعلتين:
الأولى: الاعتذار إلى الله - تعالى - من مغبة التقصير فى واجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
والثانية: الأمل فى صلاحهم وانتفاعهم بالموعظة حتى ينجو من العقوبة، ويسيروا فى طريق المهتدين.
وقيل: إن أهل القرية كانوا فرقتين، فرقة أقدمت على الذنب فاعتدت فى السبت، وفرقة أحجمت عن الاقدام، ونصحت المعتدين بعدم التجاوز لحدود الله - تعالى - فلما داومت الفرقة الواعظة على نصيحتها للفرقة العادية، قالت لها الفرقة العادية على سبيل التهكم والاستهزاء: لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديدا فى زعمكم؟ فاجابتهم الناصحة بقولها. معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون.
والذى نرجحه أن أهل القرية كانوا ثلاث فرق كما قال جمهور المفسرين - لأن هذا هو الظاهر من الضمائر فى الآية الكريمة، إذ لو كانوا فرقتين لقالت الناهية للعاصية (ولعلكم تتقون) بكاف الخطاب، بدل قولهم (ولعلهم يتقون) الذى يدل على أن المحاورة قد دارت بين الفرقة اللائمة، والفرقة الناصحة.
قال الإِمام القرطبى عند تفسيره الآية الكريمة: إن بنى إسرائيل افترقت ثلاث فرق "فرقة عصت وصدت، وكانوا، نحوا من سبعين ألفاً، فرقة نهت واعتزلت، وكانوا نحوا من اثنى عشر ألفاً، وفرقة اعتزلت ولم تنه ولم تعص، وأن هذه الطائفة هى التى قالت للناهية، لم تعظون قوما - عصاة - الله مهلكهم، أو معذبهم على غلبة الظن. وما عهد حينئذ من فعل الله تعالى بالأمم العاصية؟.
وقوله { مَعْذِرَةً } بالنصب على أنها مفعول لأجله أى: وعظناهم لأجل المعذرة، أو منصوبة على أنها مصدر لفعل مقدر من لفظها أى: نعتذر معذرة وقرئت "معذرة" بالرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف أى: موعظتنا معذرة وقد اختار سيبويه هذا الوجه وقال فى تعليله: لأنهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذاراً مستأنفاً ولكنهم قيل لهم لم تعظون؟ فقالوا موعظتنا معذرة.
ثم بين - سبحانه - عاقبة كل من الفرقة الناهية والعاصية فقال تعالى { فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُوۤءِ وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } أى: فلما لج الظالمون فى طغيانهم، وعموا وصموا عن النصيحة أنجينا الناصحين، وأخذنا العادين بعذاب شديد لا رحمة فيه بسبب خروجهم على أوامر الله.
والآية الكريمة صريحة فى بيان أن الذين أخذوا بالعذاب البئيس هم الظالمون المعتدون وأن الذين نجوا هم الناهون عن السوء، أما الفرقة الثالثة التى لامت الناهين عن السوء على وعظهم للمعتدين، فقد سكتت عنها.
ويرى بعض المفسرين: أنها لم تنج، لأنها لم تنه عن المنكر. فضلا عن أنها لامت الناصحين لغيرهم.
ويرى جمهور المفسرين: أنها نجت، لأنها كانت كارهة لما فعله العادون فى السبت ولم ترتكب شيئاً مما ارتكبوه، وإذا كانت قد سكتت عن النصيحة، فلأنها كانت يائسة من صلاح المعتدين، ومقتنعة بأن القوم قد أصبحوا محل سخط الله وعذابه، فلا جدوى وراء وعظهم، وإلى هذا الرأى ذهب صاحب الكشاف وغيره.
قال صاحب الكشاف: (فإن قلت: الأمة الذين قالوا لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً - من أى الفريقين هم؟ أمن فريق الناجين أم من فريق المعذبين. قلت من فريق الناجين، لأنهم من فريق الناهين، غرضاً صحيحاً لعلمهم بحال القوم. وإذا علم الناهى حال المنهى، وأن النهى لا يؤثر فيه، سقط عنه النهى، وربما وجب الترك لدخوله فى باب العبث، ألا ترى أنك لو ذهبت إلى المكاسين القاعدين على المآصر والجلادين المرتبين للتعذيب، لتعظهم وتكفهم عما هم فيه، كان ذلك عبثاً منك، ولم يكن إلا سبباً للتلهى بك، أما الآخرون فإنهم لم يعرضوا عنهم، إما لأن يأسهم لم يستحكم كما استحكم يأس الأولين، ولم يخبروهم كما خبروهم. أو لفرط حرصهم وجدهم فى أمرهم، كما وصف الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام فى قوله
{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً } وقال الإِمام ابن كثير: (ويروى عن ابن عباس - رضى الله عنهما - أنه قال عندما سئل عن مصير الفرقة اللائمة، ما أدرى ما فعل بهم، ثم صار إلى نجاتهم لما قال له غلامه عكرمة: ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم فقال { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } قال عكرمة: فلم أزل به حتى عرفته أنهم نجوا فكسانى حلة).
والذى نرجحه أن مصير هذه الفرقة مفوض إلى الله، لأنه لم يرد نص صحيح فى شأنها، فإن الآية الكريمة قد ذكرت صراحة عاقبة كل من الناصحين والعادين ولم تذكر مصير الفرقة اللائمة للناصحين ولعل ذلك مرجعه إلى أنها وقفت من العادين ولم تذكر فى السبت موقفاً سلبياً استحقت معه الإِهمال، إن لم تكن بسببه أهلا للمؤاخذة.
ثم فصل - سبحانه - ما عوقبوا به من العذاب البئيس الذى أصابهم فقال تعالى: { فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } أى فلما تكبروا عن ترك ما نهاهم عنه الواعظون، قلنا لهم كونوا قردة صاغرين فكانوا كذلك.
قال الآلوسى: (والأمر فى قوله تعالى { قُلْنَا } تكوينى لا تكليفى، لأنه ليس فى وسعهم حتى يكلفوا به، وهذا كقوله تعالى
{ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } فى أنه يحتمل أن يكون هناك قول وأن يكون الغرض مجرد التمثيل).
وقيل فى تفسير الآية: إن الله تعالى - عاقب القوم أو لا بالعذاب البئيس الذى يتناول البؤس والشقاء والفقر فى المعيشة، فلما لم يرتدعوا ويثوبوا إلى رشدهم، مسخهم مسخا خِلقيا وجسميا، فكانوا قردة على الحقيقة، وهو الظاهر من الآية، وعليه الجمهور:
وقيل: مسخهم مسخاً خُلقياً ونفسياً، فصاروا كالقردة فى شرورها وإفسادها لما تصل إليه أيديها، وهذا مروى عن مجاهد.
وتلك العقوبة كانت جزاء إمعانهم فى المعاصى، وتأبيهم عن قبول النصحية، وضعف إرادتهم أمام مقاومة أطماعهم، وانتكاسهم إلى عالم الحيوان لتخليهم عن خصائص الإِنسان، فكانوا حيث أرادوا لأنفسهم من الصغار والهوان.
هذا وقد استدل العلماء بهذه الآيات الكريمة على تحريم الحيل القبيحة التى يتخذها بعض الناس ذريعة للتوصل إلى مقاصدهم الذميمة. وغاياتهم الدنيئة ومطامعهم الخسيسة.
وقد أفاض الإِمام ابن القيم فى كتابه (إغاثة اللهفان) فى إيراد الأدلة الدالة على هذا التحريم، فقال ما ملخصه: (ومن مكايد الشيطان التى كاد بها الإِسلام وأهله، الحيل والمكر والخداع الذى يتضمن تحليل ما حرم الله وإسقاط ما فرضه، ومضادته فى أمره ونهيه، وهى من الباطل الذى اتفق السلف على ذمه، فإن الرأى رأيان: رأى يوافق النصوص وتشهد له بالصحة والاعتبار، وهو الذى اعتبره السلف وعملوا به. ورأى يخالف النصوص وتشهد له بالإِبطال والإِهدار، وهو الذى ذموه وأهدروه.
وكذلك الحيل نوعان: نوع يتوصل به إلى فعل ما أمر الله - تعالى - به وترك ما نهى عنه، والتخلص من الحرام وتخليص المحق من الظالم المانع له، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغى، فهذا النوع محمود يثاب فاعله ومعلمه. ونوع يتضمن إسقاط الواجبات، وتحليل المحرمات، وقلب المظلوم ظالما، والظالم مظلوما، والحق باطلا، والباطل حقا. فهذا الذى اتفق السلف على ذمه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض.. ثم قال:
إن الله تعالى أخبر عن أهل السبت من اليهود بمسخهم قردة، لما تحايلوا على إباحة ما حرمه الله - تعالى - عليهم من الصيد، بأن نصبوا الشباك يوم الجمعة، فلما وقع فيها الصيد، أخذوه يوم الأحد.
قال بعض الأئمة: ففى هذا زجر عظيم لمن يتعاطى الحيل على المناهى الشرعية، ممن يتلبس بعلم الفقه وهو غير فقيه، إذ الفقيه من يخشى الله - تعالى - بحفظ حدوده، وتعظيم حرماته، والوقوف عندها، وليس المتحيل على إباحة محارمه، وإسقاط فرائضه، ومعلوم أنهم لم يستحلوا ذلك تكذيباً لموسى - عليه السلام - وكفراً بالتوراة، وإنما هو استحلال تأويل واحتيال، ظاهرة ظاهر الإِيفاء، وباطنه باطن الاعتداء، ولهذا مسخوا قردة، لأن صورة القردة فيها شبه من صورة الإِنسان، فلما مسخ أولئك المعتدون دين الله تعالى بحيث لم يتمسكوا إلا بما يشبه الدين فى بعض مظاهره دون حقيقته، مسخهم سبحانه قردة يشبهونهم فى بعض ظواهرهم دون الحقيقة جزاء وفاقا، وفى الحديث الشريف
"لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، وتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل"
). وفى الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها"
). وعن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال: "بلغ عمر - رضى الله عنه - أن سمرة باع خمراً فقال: قاتل الله سمره. ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها - أى أذبواها - فباعوها).
وبهذا تكون الآيات الكريمة قد دمغت العادين فى السبت من اليهود، برذيلة الجهالة وضعف الإِرادة، وتحايلهم القبيح على استحلال محارم الله، مما جعلهم أهلا للعذاب الشديد والمسخ الشنيع، جزاء إمعانهم فى المعصية وصممهم عن سماع الموعظة، وما ربك بظلام للعبيد.
ثم بين - سبحانه - ما توعد به أولئك اليهود من عقوبات بسبب كفرهم وفسوقهم وإفسادهم فى الأرض فقال - تعالى -:
{ وَإِذْ تَأَذَّنَ... }.