التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ
١٧٢
أَوْ تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ
١٧٣
وَكَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
١٧٤
-الأعراف

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال صاحب المنار، هذه الآيات بدء سياق جديد فى شئون البشر العامة المتعلقة بهداية الله لهم بما أودع فى فطرتهم وركب فى عقولهم من الاستعداد للايمان به وتمجيده وشكره، فى إثر بيان هدايته لهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب فى قصة بنى إسرائيل. فالمناسبة بين هذا وما قبله ظاهرة، ولذلك عطف عليه عطف جملة على جملة أو سياق على سياق.
قوله { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } الظهور: جمع ظهر وهو العمود الفقرى لهيكل الإِنسان الذى هو قوام بنيته.
والذرية: سلالة الإِنسان من الذكور والإِناث.
وقوله { مِن ظُهُورِهِمْ } بدل بعض من قوله { مِن بَنِيۤ ءَادَمَ } و { ذُرِّيَّتَهُمْ } مفعول أخذ.
والمعنى: واذكر أيها الرسول وذكر كل عاقل وقت أن استخرج الله - تعالى - من أصلاب بنى آدم ذريتهم، وذلك الإِخراج أنهم كانوا نطفة فأخرجها - سبحانه - فى أرحام الأمهات، وجعلها علقة ثم مضغة، ثم جعلها بشراً سويا، وخلقا كاملا مكلفاً.
قال الآلوسى: وإيثار الأخذ على الإِخراج للإِيذان بشأن المأخوذ إذ ذاك لما فيه من الإِنباء عن الإِجتباء والاصطفاء وهو السبب فى إسناده إلى اسم الرب بطريق الالتفات مع ما فيه من التمهيد للاستفهام الآتى. وقيل إن إيثار الأخذ على الإِخراج لمناسبة ما تضمنته الآية من الميثاق، فإن الذى يناسبه هو الأخذ دون الإِخراج.
والتعبير بالرب لما أن ذلك الأخذ باعتبار ما يتبعه من آثار الربوبية.
وقوله: { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } أى: أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته، وعجائب خلقه، وغرائب صنعته، وبما أودع فى قلوبهم من غريزة الإِيمان، وفى عقولهم من مدارك تهديهم إلى معرفة ربهم وخالقهم.
وقوله: { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } مقول لقول محذوف: أى: قائلا لهم - بعد أن أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل الوحدانية - ألست بربكم، ومالك أمركم، ومربيكم على الإِطلاق، من غير أن يكون لأحد مدخل فى شأن من شئونكم { قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ } أى: قالوا بلى شهدنا على أنفسنا عن عقيدة وإقناع بأنك أنت ربنا وخالقنا ولا رب لنا سواك، فإن آثار رحمتك وعجائب خلقك، ومظاهر قدرتك تجعلنا لا نتردد فى هذه الشهادة.
و{ بَلَىٰ } حرف جواب، وتختص بالنفى فلا تقع إلا جوابه فتفيد إبطاله سواء أكان مجردا أم مقرونا بالاستفهام ولذلك قال ابن عباس وغيره، لو قالوا نعم لكفروا. لأن نعم حرف تصديق للمخبر بنفى أو إيجاب.
قال صاحب الكشاف: وقوله: { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ } من باب التمثيل ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التى ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم وقال لهم: ألست بربكم؟ وكأنهم قالوا: بلى أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك، وباب التمثيل واسع فى كلام الله - تعالى - وفى كلام رسوله صلى الله عليه وسلم وفى كلام العرب. ونظيره قوله تعالى -
{ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وقوله { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } ومعلوم أنه لا قول ثم وإنما تمثيل وتصوير للمعنى".
والمقصود من الآية الكريمة الاحتجاج على المشركين بمعرفتهم ربوبيته - تعالى - معرفة فطرية لازمة لهم لزوم الاقرار منهم والشهادة. قال - تعالى -:
{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ } والفطرة هى معرفة ربوبيته - سبحانه -:
وقد وردت أحاديث كثيرة تشهد بأن الناس قد فطرهم الله - تعالى - على معرفته، ومن ذلك ما جاء فى الصحيحين عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة جمعاء - أى سالمة الأذن - هل تحسون فيها من جدعاء - أى مقطوعة الأذن" .
وفى صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله - تعالى - إنى خلقت عبادى حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم - أى صرفتهم عن دينهم - وحرمت عليهم ما أحللت لهم" .
وروى الطبرى عن الحسن الأسود بن سريع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها فأبواها يهودانها أو ينصرانها" ولذلك يتبين لنا أن المعنى الإِجمالى للآية الكريمة أن الله - تعالى - نصب للناس فى كل شىء من مخلوقاته - ومنها أنفسهم - دلائل توحيده وربوبيته، وركز فيهم عقولا وبصائر يتمكنون بها تمكنا تاما من معرفته والاستدلال بها على التوحيد والربوبية حتى صاروا بمنزلة من إذا دعى إلى الإِيمان بها سارع إليه بدون شك أو تردد.
فالكلام على سبيل المجاز التمثيلى لكون الناس قد فطرهم الله - تعالى - على معرفته والإِيمان به، وجعلهم مستعدين جميعا للنظر المؤدى إلى الاعتراف بوحدانيته، ولا إخراج للذرية ولا قول ولا إشهاد بالفعل.
وعلى هذا الرأى سار المحققون من مفسرى السلف والخلف:
ويرى بعض المفسرين أن معنى الآية الكريمة: أن الله - تعالى - مسح ظهر آدم فأخرج منه ذريته كالذر، وأحياهم وجعل لهم العقل والنطق، وألهمهم ذلك الاقرار، ثم أعادهم إلى ظهر أبيهم آدم، واستشهدوا لذلك بأحاديث وآثار ليست صحيحة الاسناد، وما حسن إسناده منها فقد أوله العلماء بما يتفق مع منطوق الآية الكريمة.
وقد رد أصحاب الرأى الأول على هذا البعض بردود منها: أن الله - تعالى - قال: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ } ولم يقل من آدم، وقال { مِن ظُهُورِهِمْ } ولم يقل من ظهره، وقال { ذُرِّيَّتَهُمْ } ولم ذريته. قال { إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا } ولم يكن لهم يومئذ أب مشرك، لأن آدم حاشاه من الشرك بالله - تعالى:
قال الإِمام ابن كثير بعد أن ساق عدداً كبيراً من الأحاديث فى هذا المعنى: "ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الاشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد كما تقدم فى حديث أبى هريرة وعياض والأسود بن سريع وقد فسر الحسن الآية بذلك".
ثم بين - سبحانه - سبب الاشهاد وعلله فقال: { أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ } أى: فعلنا ما فعلنا كراهة أن تقولوا، أو منعا من أن تقولوا يوم القيامة معتذرين عن شرككم: إنا كنا عن هذا الأمر وهو إفراد الله - تعالى - بالربوبية غافلين لم ننبه إليه، لأنهم ما داموا قد خلقوا على الفطرة، ونصب الله لهم فى كل شىء من مخلوقاته ما يدل على وحدانيته، وجاءتهم الرسل فبشرتهم وأنذرتهم، فقد بطل عذرهم، وسقطت حجتهم.
ثم بين - سبحانه - سببا أخر لهذا الاشهاد فقال: { أَوْ تَقُولُوۤاْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ }.
أى: وفعلنا ذلك - أيضا منعا لكم من أن تقولوا يوم الحساب: إن آباءنا هم الذين سنوا هذا الاشراك وساروا عليه فنحن قد اتبعناهم فى ذلك بمقتضى أننا أبناؤهم، وننهج نهجهم من بعدهم، فإن قولكم هذا غير مقبول بعد أن هيأ الله لكم من الأسباب ما يفتح قلوبكم لنور الحق لو كنتم مستعدين لقبوله.
والاستفهام فى قوله { أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ } للإِنكار. أى: أنت يا ربنا حكيم وعادل فهل تؤاخذنا بما فعل آباؤنا من الشرك وأسسوا من الباطل أو بفعل آبائنا الذين أبطلوا تأثير العقول وأقوال الرسل؟ إنك يا ربنا قد وعدت أنك لا تأخذ الأبناء بفعل الآباء ونحن قد سلكنا طريقهم والحجة عليهم بما شرعوا لنا من الباطل فكيف تؤاخذنا؟.
والجواب على ذلك أن الإِقرار بالربوبية والتوحيد هو فى أصل فطرتكم فلم لم ترجعوا إليه عندما دعاكم رسولنا الكريم إلى وحدانية الله ونبذ الشركاء إن انقيادكم للاباء بعد أن وهبكم الله العقول المفكرة، وأرسل إليكم الرسل مبشرين ومنذرين لن يعفيكم من المسئولية، ولن ينقذكم من العذاب.
ثم قال - تعالى - { وَكَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أى: ومثل هذا التفصيل البليغ نفصل لبنى آدم الآيات والدلائل ليستعملوا عقولهم، ولعلهم يرجعون إلى فطرتهم وما استكن فيها من ميثاق، وإلى خلقتهم وما كمن فيها من ناموس. فالرجوع إلى الفطرة القويمة كفيل بغرس عقيدة التوحيد فى القلوب، وردها إلى بارئها الواحد القهار الذى فطرها على الحق، وصرفها عن الجهل والتقليد.
هذا، وقد أخذ العلماء من هذه الآيات أمورا من أهمها:
1 - فساد التقليد فى الدين، وأنه - تعالى - قد أزاح العذر، وأزال العلل بحيث أصبح لا يعذر أحد بكفره أو شركه.
2 - أن معرفته - تعالى - فطرية ضرورية. قال - تعالى -
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } وروى الترمذى عن عمران بن الحصين قال: "قال النبى صلى الله عليه وسلم لأبى: يا حصين كم إلٰها تعبد اليوم. قال أبى: سبعة؛ ستة فى الأرض وواحدا فى السماء قال: فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك. قال: الذى فى السماء" .
فالله - تعالى - فطر الخلق كلهم على معرفة فطرة التوحيد، حتى من خلق مجنونا لا يفهم شيئا ما يحلف إلا به، ولا يلهج لسانه بأكثر من اسمه المقدس.
ثم ضرب - سبحانه - مثلا لمن لا يعمل بعلمه فقال - تعالى-:
{ وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ... }.