التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ دَّعَوَا ٱللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ
١٨٩
فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا فَتَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
١٩٠
-الأعراف

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله - تعالى - { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } استئناف مسوق لبيان ما يقتضى التوحيد الذى هو المقصد الأعظم.
أى: إن الذى يستحق العبادة والخضوع، والذى عنده مفاتح الغيب هو الله الذى خلقكم من نفس واحدة هى نفس أبيكم آدم، وجعل من نوع هذه النفس وجنسها زوجها حواء، ثم انتشر الناس منهما بعد ذلك كما قال - تعالى -
{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } وقوله { لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } أى: ليطمئن إليها ويميل ولا ينفر، لأن الجنس إلى الجنس أميل وبه آنس. وإذا كانت بعضا منه كان السكون والمحبة أبلغ، كما يسكن الإِنسان إلى ولده ويحبه محبة نفسه لكونه بضعة منه.
فالأصل فى الحياة الزوجية هو السكن والاطمئنان والأنس والاستقرار وهذه نظرة الاسلام إلى تلك الحياة قال - تعالى -
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } والضمير المستكن فى (يسكن) يعود إلى النفس، وكان الظاهر تأنيثه لأن النفس من المؤنثات السماعية ولذا أنثت صفتها وهى قوله { وَاحِدَةٍ } إلا أنه جاء مذكرا هنا باعتبار أن المراد من النفس هنا - آدم عليه السلام - "ولو أنث على حسب الظاهر لتوهم نسبة السكون إلى الأنثى، فكان التذكير كما يقول الزمخشرى - أحسن طباقا للمعنى.
وقوله { فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ }.
الغشاء: غطاء الشىء الذى يستره من فوقه، والغاشية؛ الظلة التى تظل الإِنسان من سحابة أو غيرها. والتغشى كناية عن الجماع. أى فلما تغشى الزوج الذى هو الذكر الزوجة التى هى الأنثى وتدثرها لقضاء شهوتهما { حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً }. أى: حملت منه محمولا خفيفا وهو الجنين فى أول حملة لا تجد المرأة له ثقلا لأنه يكون نطفة ثم مضغة، ولا ثقل له يذكر فى تلك الأحوال { فَمَرَّتْ بِهِ } أى: فمضت به إلى وقت ميلاده من غير نقصان ولا إسقاط. أو المعنى: فاستمرت به كما كانت من قبل حيث قامت وقعدت وأخذت وتركت من غير مشقة وتلك هى المرحلة الأولى من مراحل الحمل.
وتأمل معى - أيها القارىء الكريم - مرة أخرى قوله - تعالى -: { فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً } لترى سمو القرآن فى تعبيره، وأدبه فى عرض الحقائق. إن أسلوبه يلطف ويدق عند تصوير العلاقة بين الزوجين، فهو يسوقها عن طريق كناية بديعة تتناسب مع جو السكن والمودة بين الزوجين وتتسق مع جو الستر الذى تدعو إليه الشريعة الإِسلامية عند المباشرة بين الرجل والمرأة، ولا نجد كلمة تؤدى هذه المعانى أفضل من كلمة { تَغَشَّاهَا }.
ثم تأتى المرحلة الثانية من مراحل الحمل فيعبر عنها القرآن بقوله: { فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ دَّعَوَا ٱللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ }.
أى: فحين صارت ذات ثقل يسبب نمو الحمل فى بطنها، فالهمزة للصيرورة كقولهم: أتمر فلان وألبن أى: صار ذا تمر ولبن.
أى: وحين صارت الأم كذلك وتبين الحمل، وتعلق به قلب الزوجين، توجها إلى ربهما يدعوانه بضراعة وطمع بقولهما: { لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً } أى لئن أعطيتنا نسلا سويا تام الخلقة، يصلح للأعمال الإِنسانية النافعة { لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ } لك على نعمائك التى من أجلها هذه النعمة واستجاب الله للزوجين دعاءهما، فرزقهما الولد الصالح فماذا كانت النتيجة؟.
لقد كانت النتيجة عدم الوفاء لله فيما عاهداه عليه، ويحكى القرآن ذلك فيقول: { فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا } أى: فحين أعطاهما - سبحانه - الولد الصالح الذى كانا يتمنيانه، جعلا لله - تعالى - شركاء فى هذا العطاء، وأخلا بالشكر فى مقابلة هذه النعمة أسوأ إخلال، حيث نسبوا هذا العطاء إلى الأصنام والأوثان، أو إلى الطبيعة كما يزعم الطبعيون أو إلى غير ذلك مما يتنافى مع إفراد الله - تعالى - بالعبادة والشكر.
وقوله { فَتَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } تنزيه فيه معنى التعجب من أحوالهم. أى: تنزه - سبحانه - وتقدس عن شرك هؤلاء الأغبياء الجاحدين الذين يقابلون نعم الله بالإِشراك والكفران.
والضمير فى { يُشْرِكُونَ } يعود على أولئك الآباء الذين جعلوا لله شركاء: هذا والمحققون من العلماء يرون أن هاتين الآيتين قد سيقتا توبيخا للمشركين حيث إن الله - تعالى - أنعم عليهم بخلقهم من نفس واحدة، وجعل أزواجهم من أنفسهم ليأنسوا بهن، وأعطاهم الذرية، وأخذ عليهم العهود بشكره على هذه النعم، ولكنهم جحدوا نعمه وأشركوا معه فى العبادة والشكر آلهة أخرى { فَتَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }.
ويرى بعض المفسرين أن المراد بهذا السياق آدم وحواء، واستدلوا على ذلك بما رواه الإِمام أحمد - بسنده - عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "لما طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال لها سميه عبد الحارث فإنه يعيش فسمته عبد الحارث فعاش، وكان ذلك من وحى الشيطان وأمره.
وقد أثبت ابن كثير فى تفسيره ضعف هذا الحديث من عدة وجوه، ثم قال: قال الحسن: عنى الله - تعالى - بهذه الآية ذرية آدم ومن أشرك منهم بعده، وقال قتادة: كان الحسن يقول: هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولاداً فهودوا ونصروا. قال ابن كثير: وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت عليه الآية، ونحن على مذهب الحسن البصرى فى هذا، وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته، ولهذا قال: { فَتَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }.
وقال صاحب الانتصاف: والأسلم والأقرب أن يكون المراد - والله أعلم - جنسى الذكر والأنثى لا يقصد فيه إلى معين. وكأن المعنى خلقكم جنسا واحداً، وجعل أزواجكم منكم أيضاً لتسكنوا إليهن، فلما تغشى الجنس الذى هو الذكر، الجنس الآخر الذى هو الأنثى جرى من هذين الجنسين كيت وكيت. وإنما نسب هذه المقالة إلى الجنس وإن كان فيهم الموحدون على حد قولهم: "بنو فلان قتلوا قتيلا" يعنى من نسبة البعض إلى الكل.
والذى نراه أن الآيتين ورادتان فى توبيخ المشركين على شركهم ونقضهم لعهودهم مع الله - تعالى - لأن الأحاديث والأثار التى وردت فى أنهما وردتا فى شأن آدم وحواء لتسميتهما ابنهما بعبد الحارث اتباعاً لوسوسة الشيطان لهما - ليست صحيحة، كما أثبت ذلك علماء الحديث.
ثم أخذت السورة بعد ذلك فى توبيخ المشركين، وفى إبطال شركهم بأسلوب منطقى حكيم فقالت:
{ أَيُشْرِكُونَ... }.