التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
٥٢
هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
٥٣
-الأعراف

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله: { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ }...إلخ.
التفصيل: عبارة عن جعل الحقائق والمسائل بيانها مفصولا بعضها عن بعض بحيث لا يبقى فيها اشتباه أو لبس.
والمعنى: "ولقد جئنا لهؤلاء الناس على لسانك يا محمد بكتاب عظيم الشأن، كامل التبيان، فصلنا آياته تفصيلا حكيما، وبينا فيه ما هم فى حاجة إليه من أمور الدنيا والآخرة بيانا شافيا يؤدى إلى سعادتهم متى اتبعوه واهتدوا بهديه".
والضمير لأولئك الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا، وقيل هو لهم وللمؤمنين، والمراد بالكتاب: القرآن الكريم.
وقوله: { عَلَىٰ عِلْمٍ } حال من فاعل "فصلناه"، أى: فصلناه على أكمل وجه وأحسنه حالة كوننا عالمين بذلك أتم العلم.
فالمراد بهذه الجملة الكريمة بيان أن ما فى هذا القرآن من أحكام وتفصيل وهداية، لم يحصل عبثا، وإنما حصل مع العلم التام بكل ما اشتمل عليه من فوائد متكاثرة، ومنافع متزايدة.
وقرأ ابن محيص "فضلناه" بالضاد المعجمة. أى: فضلناه على سائر الكتب عالمين بأنه حقيق بذلك.
وقوله: { هُدًى وَرَحْمَةً } حال من مفعول "فصلناه" وقرىء بالجر على البديلة من "علم" وبالرفع على إضمار المبتدأ، أى: هو هدى عظيم ورحمة واسعة.
وقال: { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } لأنهم هم المنتفعون بهديه، والمستجيبون لتوجيهاته ثم بين - سبحانه - عاقبة هؤلاء الذين كذبوا بالقرآن الذى أنزله الله هداية ورحمة فقال: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ }.
النظر هنا بمعنى الانتظار والتوقع لا بمعنى الرؤية. فالمراد بينظرون: ينتظرون ويتوقعون، وتأويل الشىء: مرجعه ومصيره الذى يئول إليه ذلك الشىء والاستفهام بمعنى النفى.
والمعنى: إن هؤلاء المشركين ليس أمامهم شىء ينتظرونه بعد أن أصروا على شركهم إلا ما يئول إليه أمر هذا الكتاب وما تتجلى عنه عاقبته، من تبين صدقه، وظهور صحة ما أخبر به من الوعد والوعيد والبعث والحساب، وانتصار المؤمنين به واندحار المعرضين عنه.
فإن قيل: كيف ينتظرون ذلك مع كفرهم به؟
فالجواب: أنهم قبل وقوع ما هو محقق الوقوع، صاروا كالمنتظرين له، لأن كل آت قريب، فهم على شرف ملاقاة ما وعدوا به، وسينزل بهم لا محالة.
ثم بين - سبحانه - حالهم يوم الحساب فقال: { يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ }.
أى: يوم يأتى يوم القيامة الذى أخبر عنه القرآن، والذى يقف الناس فيه أمام خالقهم للحساب، يقول هؤلاء الكافرون الذين جحدوا هذا اليوم عندما تكشف لهم الحقائق، { قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ } وتبين صدقهم ولكننا نحن الذين كذبناهم وسرنا فى طريق الضلال، { فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ } فى هذه الساعة العصيبة ويدفعوا عنا ما نحن فيه من كرب وبلاء، أو نرد إلى الدنيا فنعمل عملا صالحا غير الذى كنا نعمله من الجحود واللهو واللعب.
أى: أنه لا طريق لنا إلى الخلاص مما نحن فيه من العذاب الشديد إلا أحد هذين الأمرين، وهو أن يشفع لنا شفيع فلأجل تلك الشفاعة يزول هذا العذاب، أو يردنا الله إلى الدنيا حتى نعمل غير ما كنا نعمل.
فالجملة الكريمة تصور حسرتهم يوم القيامة تصويرا يهز المشاعر، ويحمل العقلاء على الإِيمان والعمل الصالح.
والاستفهام فى قوله: { فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ } للتمنى والتحسر، ومن مزيدة للاستغراق والتأكيد وشفعاء مبتدأ مؤخر ولنا خبر مقدم.
ثم بين - سبحانه - نهايتهم فقال: { قَدْ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }.
أى: قد خسر هؤلاء الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا أنفسهم، بسبب إشراكهم بالله، وذهب عنهم ما كانوا يفترونه فى الدنيا من أن أصنامهم ستشفع لهم يوم الجزاء، وأيقنوا أنهم كانوا كاذبين فى دعواهم.
ثم ذكر - سبحانه - جانبا من بديع صنعه، وجليل قدرته، لكى يدل على أنه هو المعبود الحق فقال - تعالى -: { إِنَّ رَبَّكُمُ... }.