التفاسير

< >
عرض

فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ
٣٦
عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ عِزِينَ
٣٧
أَيَطْمَعُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ
٣٨
كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ
٣٩
فَلآ أُقْسِمُ بِرَبِّ ٱلْمَشَٰرِقِ وَٱلْمَغَٰرِبِ إِنَّا لَقَٰدِرُونَ
٤٠
عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ
٤١
فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّىٰ يُلَٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ
٤٢
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ
٤٣
خَٰشِعَةً أَبْصَٰرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ
٤٤
-المعارج

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

الاستفهام فى قوله - تعالى -: { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ. عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ عِزِينَ } للتعجيب من حال هؤلاء الذين كفروا، ومن تصرفاتهم التى تدل على منتهى الغفلة والجهل. و "ما" مبتدأ، و { الَّذِينَ كَفَرُواْ } خبره.
وقوله { مُهْطِعِينَ } من الإِهطاع، وهو السير بسرعة، مع مد العنق، واتجاه البصر نحو شئ معين.
و { عِزِينَ } جمع عزة - كفئة - وهى الجماعة. وأصلها عِزْوَة - بكسر العين - من العزو، لأن كل فرقة تعتزى إلى غير من تعتزى إليه الأخرى، فلامها واو، وقيل: لامها هاء، والأصل عزهة.
قال القرطبى: والعزين: جماعات متفرقة. ومنه الحديث الذى خرجه مسلم وغيره،
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه يوما فرآهم حِلَقا فقال: مالى أراكم عزين: ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأول، ويتراصون فى الصف" .
وقد ذكروا فى سبب نزول هذه الآيات، أن المشركين كانوا يجتمعون حول النبى صلى الله عليه وسلم ويستمعون إليه، ثم يكذبونه ويستهزئون به وبالمؤمنين، ويقولون: لئن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم فلندخلنها قبلهم، وليكونن لنا فيها أكثر مما لهم.
والمعنى: ما بال هؤلاء الكافرين مسرعين نحوك - أيها الرسول الكريم - وناظرين إليك بعيون لا تكاد تفارقك، وملتفين من حولك عن يمينك وعن شمالك، جماعات متعددة، ومظهرين التهكم والاستهزاء بك وبأصحابك؟
ما بالهم يفعلون ذلك مع علمهم فى قراءة أنفسهم بأنك أنت الصادق الأمين".
وقدم - سبحانه - الظرف { قِبَلَكَ } الذى بمعنى جهتك، على قوله { مُهْطِعِينَ } للاهتمام، حيث إن مقصدهم الأساسى من الإِسراع هو الاتجاه نحو النبى صلى الله عليه وسلم للاستهزاء به وبأصحابه.
والمراد بقوله: { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ }: جميع الجهات، إلا أنه عبر بهاتين الجهتين، لأنهما الجهتان اللتان يغلب الجلوس فيهما حول الشخص.
وقوله: { عِزِينَ } تصوير بديع لالتفافهم من حوله متفرقة فى مشاربها، وفى مآربها، وفى طباعها.
والاستفهام فى قوله - تعالى - { أَيَطْمَعُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ } للنفى والإِنكار.
أى: أيطمع كل واحد من هؤلاء الكافرين أن يدخل الجنة التى هى محل نعيمنا وكرامتنا بدون إيمان صادق، وبدون عمل نافع..؟
وقوله - سبحانه - { كَلاَّ } ردع لهم وزجر عن هذا الطمع، أى: كلا ليس الأمر كما يزعمون من أنهم سيدخلون الجنة قبل المؤمنين أو معهم بعدهم.. وإنما هم سيكون مأواهم جهنم وبئس المصير.
وقال - سبحانه - { أَيَطْمَعُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ } ولم يقل: أيطمعون أن يدخلوا الجنة، للإِشعار بأن كل واحد من هؤلاء الكافرين كان طامعا فى دخولها، لاستيلاء الغرور والجهالة على قلبه.
وجملة { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ } تأكيد لهذا الردع والزجر، وتهوين من شأنهم، وإبطال لغرورهم، وتنكيس لخيلائهم بأسلوب بديع مهذب.. لأنه مما لا شك فيه أنهم يعلمون أنهم قد خلقوا من ماء مهين، ومن كان كذلك فلا يليق به - متى كان عاقلا - أن يغتر أو يتطاول.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: ويجوز أن يراد بقوله: { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ } أى: من النطفة المذرة، وهى منصبهم الذى لا منصب أوضع منه. ولذلك أبهم وأخفى: إشعارا بأنه منصب يستحيا من ذكره، فمن أين يتشرفون ويدعون التقدم، ويقولون: لندخلن الجنة قبلهم.
وقيل: معناه إنا خلقناهم من نطفة كما خلقنا بنى آدم كلهم، ومن حكمنا أن لا يدخل أحد الجنة، إلا بالإِيمان والعمل الصالح، فكيف يطمع فى دخولها من ليس له إيمان وعمل.
ثم ساق - سبحانه - ما يدل على كمال قدرته، وعلى زيادة التهوين من شأن هؤلاء الكافرين، والتحقير من أمرهم فقال: { فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ ٱلْمَشَارِقِ وَٱلْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ. عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ }.
وجمع - سبحانه - هنا المشارق والمغارب، باعتبار أن لها فى كل يوم من أيام السنة مشرقا معينا تشرق منه، ومغربا معينا تغرب فيه.
وقال فى سورة الرحمن
{ رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ } أى: مشرق ومغرب الشتاء. والصيف.
وقال فى سورة المزمل:
{ رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ } والمراد بهما هنا: جنسهما، فهما صادقان على كل مشرق من مشارق الشمس، وعلى كل مغرب من مغاربها.
وبذلك يتبين أنه لا تعارض بين مجئ هذه الألفاظ تارة مفردة، وتارة بصيغة المثنى، وتارة بصيغة الجمع.
وجملة { إِنَّا لَقَادِرُونَ }: جواب القسم. أى: أقسم بالله - تعالى - الذى هو رب مشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها.. إنا لقادرون قدرة تامة { عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ } أى: على أن نخلق خلقا آخر خيرا منهم ونهلك هؤلاء المجرمين إهلاكا تاما.. أو على أن نبدل ذواتهم، فنخلقهم خلقا جديدا يكون خيرا من خلقهم الذى هو عليه.. فإن قدرتنا لا يعجزها شئ.
وقوله { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } معطوف على جواب القسم ومؤكد له. أى: إنا لقادرون على ذلك، وما نحن بمغلوبين أو عاجزين عن أن نأتى بقوم آخرين خير منهم.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ. إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُـمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ. وَمَا ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ } وقوله - سبحانه - { ... وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم }، والمقصود بهذه الآيات الكريمة تهديد المشركين وبيان أن قدرته - تعالى - لا يعجزها شئ.
والفاء فى قوله: { فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ... } للتفريع على ما تقدم. والخوض يطلق على السير فى الماء، والمراد به هنا: الكلام الكثير الذى لا نفع فيه.
واللعب: اشتغال الإِنسان بشئ لا فائدة من ورائه. والمراد به هنا: استهزاؤهم بالحق الذى جاء به النبى صلى الله عليه وسلم.
أى: ما دام الأمر كما ذكرنا لك - أيها الرسول الكريم - فاترك هؤلاء الكافرين، ليخوضوا فى باطلهم، ويلعبوا فى دنياهم، ولا تلتفت إليهم.
ودعهم فى هزلهم ولهوهم { حَتَّىٰ يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ } وهو يوم القيامة الذى لا شك فى إتيانه ووقوعه.
وقوله { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ سِرَاعاً } بدل من { يَوْمَهُمُ }. والأجداث جمع جدث - بفتح الجيم الدال - وهو القبر. أى: اتركهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم المحتوم. وهو اليوم الذى يخرجون فيه من قبورهم مسرعين إلى الداعى.
{ كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ } والنصب - بضمتين - حجارة كانوا يعظمونها. وقيل: هى الأصنام، وسميت بذلك لأنهم كانوا ينصبونها ويقيمونها للعبادة.
{ يُوفِضُونَ } أى: يسرعون. يقال: وفَض فلان يفِض وفْضاً - كوعد - إذا أسرع فى سيره. أى: يخرجون من قبورهم مسرعين إلى الداعى، مستبقين إليه، كما كانوا فى الدنيا يسرعون نحو أصنامهم وآلهتهم لكى يستلموها، ويلتمسوا منها الشفاعة.
{ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ } أى: يخرجون من قبورهم، حالة كونهم ذليلة خاضعة أبصارهم، لا يرفعونها لما هم فيه من الخزى والهوان.
{ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } أى: تغشاهم ذلة شديدة، وهوان عظيم. يقال: رَهِقهَ الأمر يرهَقهُ رَهَقاً، إذا غشيه بقهر وغلبة لا يمكن له دفعها.
{ ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ } أى: ذلك الذى ذكرناه من الأهوال، هو اليوم الذى كانوا يوعدونه فى الدنيا على ألسنة الرسل، والذى كانوا ينكرون وقوعه، وها هو ذا فى حكم الواقع، لأن كل ما أخبر الله - تعالى - عنه، فهو متحقق الوقوع. كما قال - سبحانه - فى أول السورة
{ سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ. لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } وهكذا افتتحت السورة بإثبات أن يوم القيامة حق، واختتمت كذلك بإثبات أن يوم القيامة حق. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.