التفاسير

< >
عرض

سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ
١
لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ
٢
مِّنَ ٱللَّهِ ذِي ٱلْمَعَارِجِ
٣
تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ
٤
فَٱصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً
٥
إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً
٦
وَنَرَاهُ قَرِيباً
٧
يَوْمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلْمُهْلِ
٨
وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ
٩
وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً
١٠
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ ٱلْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ
١١
وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ
١٢
وَفَصِيلَتِهِ ٱلَّتِي تُؤْوِيهِ
١٣
وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ
١٤
كَلاَّ إِنَّهَا لَظَىٰ
١٥
نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ
١٦
تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ
١٧
وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ
١٨
-المعارج

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله - تعالى - { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } قرأه الجمهور بإظهار الهمزة فى { سَأَلَ }.
وقرأه نافع وابن عامر "سال" بتخفيف الهمزة.
قال الجمل: قرأ نافع وابن عامر بألف محضة، والباقون، بهمزة محققة وهى الأصل.
فأما القراءة بالألف ففيها ثلاثة أوجه: أحدها: أنها بمعنى قراءة الهمزة، وإنما خففت بقلبها ألفا. والثانى: أنها من سَاَلَ يَسَالُ، مثل خاف يخاف، والألف منقلبة عن واو، والواو منقلبة عن الهمزة.
والثالث: من السيلان، والمعنى: سال واد فى جهنم بعذاب. فالألف منقلبة عن ياء.
وقد حكى القرآن الكريم عن كفار مكة، أنهم كانوا يسألون النبى صلى الله عليه وسلم على سبيل التهكم والاستهزاء عن موعد العذاب الذى يتوعدهم به إذا ما استمروا على كفرهم، ويستعجلون وقوعه.
قال - تعالى -:
{ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } وقال - سبحانه - { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ ٱللَّهُ وَعْدَهُ } وعلى هذا يكون السؤال على حقيقته، وأن المقصود به الاستهزاء بالنبى صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين.
ومنهم من يرى أن سأل هنا بمعنى دعا. أى: دعا داع على نفسه بعذاب واقع.
قال الآلوسى ما ملخصه: { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } أى: دعا داع به، فسؤال بمعنى الدعاء، ولذا عدى بالباء تعديته بها فى قوله
{ يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ } والمراد استدعاء العذاب وطلبه.. وقيل إنها بمعنى "عن" كما فى قوله: { فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } والسائل هو النضر بن الحارث - كما روى النسائى وجماعة وصححه الحاكم - حيث قال إنكارا واستهزاء { { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وقيل السائل: أو جهل، حيث قال: { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } وعلى أية حال فسؤالهم عن العذاب، يتضمن معنى الإِنكار والتهكم، كما يتضمن معنى الاستعجال، كما حكته بعض الآيات الكريمة..
ومن بلاغة القرآن، تعدية هذا الفعل هنا بالباء، ليصلح لمعنى الاستفهام الإِنكارى، ولمعنى الدعاء والاستعجال.
أى: سأل سائل النبى صلى الله عليه وسلم سؤال تهكم، عن العذاب الذى توعد به الكافرين إذا ما استمروا على كفرهم. وتعجَّلَه فى وقوعه بل أضاف إلى ذلك - لتجاوزه الحد فى عناده وطغيانه - أن قال:
{ { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } }. وقال - سبحانه - { بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } ولم يقل بعذاب سيقع، للإِشارة إلى تحقق وقوع هذا العذاب فى الدنيا والآخرة.
أما الدنيا فمن هؤلاء السائلين من قتل فى غزوة بدر وهو النضر بن الحارث، وأبو جهل وغيرهما، وأما فى الآخرة فالعذاب النازل بهم أشد وأبقى.
ثم وصف - سبحانه - العذاب بصفات أخرى، غير الوقوع فقال: { لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ. مِّنَ ٱللَّهِ ذِي ٱلْمَعَارِجِ }. واللام فى قوله { لِّلْكَافِرِينَ } بمعنى على. أو للتعليل.
أى: سأل سائل عن عذاب واقع على الكافرين، هذا العذاب ليس له دافع يدفعه عنهم، لأنه واقع من الله - تعالى - { ذِي ٱلْمَعَارِجِ }.
والمعارج جمع معرج، وهو المصعد، ومنه قوله - تعالى -
{ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } وقد ذكر المفسرون فى المراد بالمعارج وجوها منها: أن المراد بها السموات، فعن ابن عباس أنه قال أى: ذى السموات، وسماها معارج لأن الملائكة يعرجون فيها.
ومنها: أن المراد بها: النعم والمنن. فعن قتادة أنه قال: ذى المعارج، أى: ذى الفواضل والنعم. وذلك لأن لأياديه ووجوه إنعامه مراتب، وهى تصل إلى الناس على مراتب مختلفة.
ومنها: أن المراد بها الدرجات التى يعطيها لأوليائه فى الجنة.
وفى وصفه - سبحانه - ذاته بـ { ذِي ٱلْمَعَارِجِ }: استحضار لصورة عظمة جلاله، وإشعار بكثرة مراتب القرب من رضاه وثوابه، فإن المعارج من خصائص منازل العظماء.
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف هذا العذاب الواقع على الكافرين. بجملة من الصفات، لتكون رداً فيه ما فيه من التهديد والوعيد للجاحدين، الذى استهزأوا به وأنكروه.
والمراد بالروح فى قوله: { تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ }: جبريل - عليه السلام - وأفرد بالذكر لتمييزه وفضله، فهو من باب عطف الخاص على العام.
والضمير فى "إليه" يعود إلى الله - تعالى -.
أى: تصعد الملائكة وجبريل - عليه السلام - معهم، إليه - تعالى -.
والسلف على أن هذا التعبير وأمثاله، من المتشابه الذى استأثر - سبحانه - بعلمه. مع تنزيهه - عز وجل - عن المكان والجسمية. ولوازم الحدوث، التى لا تليق بجلاله.
وقيل: "إليه" أى: إلى عرشه - تعالى - أو إلى محل بره وكرامته.
قال القرطبى ما ملخصه: قوله: { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } أى: عروج الملائكة إلى المكان الذى هو محلهم فى وقت كان مقداره على غيرهم لو صعد، خمسين ألف سنة.
وعن مجاهد: هذا اليوم هو مدة عمر الدنيا، من أول ما خلقت إلى آخر ما بقى منها، خمسون ألف سنة.
وقال ابن عباس: هو يوم القيامة، جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة.
ثم قال القرطبى: "وهذا القول أحسن ما قيل فى الآية - إن شاء الله - بدليل ما رواه قاسم بن أصبغ من حديث
"أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فقلت: ما أطول هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم والذى نفسى بيده، إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها فى الدنيا" .
وفى رواية عن ابن عباس - أيضا - أنه سئل عن هذه الآية فقال: أيام سماها الله - عز وجل -، وهو أعلم بها كيف تكون وأكره أن أقول فيها مالا أعلم.
وقيل: ذكر خمسين ألف سنة تمثيل - لما يلقاه الناس فى موقف الحساب من شدائد، والعرب تصف أيام الشدة بالطول، وأيام الفرح بالقصر.
وقال بعض العلماء: وقد ذكر - سبحانه - فى سورة السجدة أنه
{ يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ إِلَى ٱلأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } وقال فى سورة الحج: { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } وذكر هنا { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ }.
والجمع بين هذه الآيات من وجهين: أولهما: ما جاء عن ابن عباس من أن يوم الألف فى سورة الحج، هو أحد الأيام الستة التى خلق الله - تعالى - فيها السموات والأرض.
ويوم الألف فى سورة السجدة، وهو مقدار سير الأمر وعروجه إليه - تعالى -.
ويوم الخمسين ألف هنا: هو يوم القيامة.
وثانيهما: أن المراد بجميعها يوم القيامة، وأن الاختلاف باعتبار حال المؤمن والكافر.
ويدل لهذا الوجه قوله - تعالى -:
{ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ. عَلَى ٱلْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } أى: أن يوم القيامة يتفاوت طوله بحسب اختلاف الشدة، فهو يعادل فى حالة ألف سنة من سنى الدنيا، ويعادل فى حالة أخرى خمسين ألف سنة.
وقوله - تعالى -: { فَٱصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً. إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً. وَنَرَاهُ قَرِيباً... } متفرع على قوله - سبحانه - { سَأَلَ سَآئِلٌ } لأن السؤال كان سؤال استهزاء، يضيق به الصدر، وتغتم له النفس.
والصبر الجميل: هو الصبر الذى لا شكوى معه لغير الله - عز وجل - ولا يخالطه شىء من الجزع، أو التبرم بقضاء الله وقدره.
أى: لقد سألوك - أيها الرسول الكريم - عن يوم القيامة، وعن العذاب الذى تهددهم به ... سؤال تهكم واستعجال... فاصبر صبرا جميلا على غرورهم وجحودهم وجهالاتهم.
إنهم يرون هذا اليوم وما يصحبه من عذاب... يرونه "بعيدا" من الإِمكان أن من الوقوع، ولذلك كذبوا بما جئتهم به من عندنا، واستهزؤا بك.. ونحن نراه قريبا من الإِمكان، بل هو كائن لا محالة فى الوقت الذى تقتضيه حكمتنا ومشيئتنا.
ثم بين - سبحانه - جانبا من أهوال هذا اليوم فقال: { يَوْمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلْمُهْلِ. وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ. وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً }.
ولفظ "يوم" متعلق بقوله: "قريبا" أو بمحذوف يدل عليه قوله: { وَاقِعٍ } أى: هو واقع هذا العذاب يوم تكون السماء فى هيئتها ومظهرها "كالمهل" أى: تكون واهية مسترخية.. كالزيت الذى يتبقى فى قعر الإِناء.
{ وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ } أى: كالصوف المصبوغ ألوانا، لاختلاف ألوان الجبال، فإن الجبال إذا فتتت وتمزقت فى الجو، أشبهت الصوف المنفوش إذا طيرته الرياح، قيل: أول ما تتغير الجبال تصير رملا مهيلا، ثم عهنا منفوشا، ثم هباء منبثا.
ووجه الشبه أن السماء فى هذا اليوم تكون فى انحلال أجزائها، كالشىء الباقى فى قعر الإِناء من الزيت، وتكون الجبال فى تفرق أجزائها كالصوف المصبوغ الذى تطاير فى الجو.
وفى هذا اليوم - أيضا - { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } أى: لا يسأل صديق صديقه النصرة أو المعونة، ولا يسأل قريب قريبه المساعدة والمؤازرة.. لأن كل واحد منهما مشغول بهموم نفسه من شدة هول الموقف، كما قال - تعالى -:
{ يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصَٰحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } والحميم: هو الصديق الوفى القريب من نفس صديقه.
وضمير الجمع فى قوله - سبحانه - { يُبَصَّرُونَهُمْ } يعود إلى الحميمين، نظرا لعمومهما، لأنه ليس المقصود صديقين مخصوصين، وإنما المقصود كل صديق مع صديقه.
والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا، إجابة عن سؤال تقديره: ولماذا لا يسأل الصديق صديقه فى هذا اليوم؟ ألأنه لا يراه؟ فكان الجواب: لا، إنه يراه ويشاهده، ويعرف كل قريب قريبه، وكل صديق صديقه فى هذا اليوم.. ولكن كل واحد منهم مشغول بهمومه.
قال صاحب الكشاف: { يُبَصَّرُونَهُمْ } أى: يبصر الأحماءُ الأحماءَ، فلا يخفون عليهم، فلا يمنعهم من المساءلة أن بعضهم لا يبصر بعضا، وإنما يمنعهم التشاغل.
فإن قلت: ما موقع يبصرونهم؟ قلت: هو كلام مستأنف، كأنه لمّا قال: { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } قيل: لعله لا يبصره، فقيل فى الجواب: يبصرونهم، ولكنهم لتشاغلهم لم يتمكنوا من تساؤلهم.
فإن قلت: لم جمع الضميرين فى { يُبَصَّرُونَهُمْ } وهى للحميمين؟ قلت: المعنى على العموم لكل حميمين، لا لحميمين اثنين.
ثم بين - سبحانه - حالة المجرمين فى هذا اليوم فقال: { يَوَدُّ ٱلْمُجْرِمُ } أى: يحب المجرم فى هذا اليوم ويتمنى.
{ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ } أى: يتمنى ويحب لو يفتدى نفسه من عذاب هذا اليوم بأقرب الناس إليه، وألصقهم بنفسه.. وهم بنوه وأولاده.
ويود - أيضا - لو يفتدى نفسه بـ { وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ } أى: بزوجته التى هى أحب الناس إليه، وبأخيه الذى يستعين به فى النوائب.
{ وَفَصِيلَتِهِ ٱلَّتِي تُؤْوِيهِ } أى: ويود كذلك أن ينقذ نفسه، من العذاب بأقرب الأقرباء إليه. وهم أهله وعشيرته التى ينتسب إليها، إذا الفصيلة هم الأقرباء الأدنون من القبيلة، والذين هو واحد منهم.
ومعنى { تُؤْوِيهِ } تضمه إليها، وتعتبره فردا منها، وتدافع عنه بكل وسيلة.
وقوله: { وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ } داخل فى إطار ما يتمناه ويوده.
أى: يود هذا المجرم أن يفتدى نفسه من عذاب هذا اليوم، بأولاده، ويصاحبته، وبأخيه، وبعشيرته التى هو فرد منها، وبأهل الأرض جميعا من الجن والإِنس.
ثم يتمنى - أيضا - أن يقبل منه هذا الافتداء، لكى ينجو بنفسه من هذا العذاب.
فقوله { ثُمَّ يُنجِيهِ } معطوف على قوله { يَفْتَدِي } أى: يود لو يفتدى ثم لو ينجيه الافتداء. وكان العطف بثم، للإِشعار باستبعاد هذا الافتداء، وأنه عسير المنال.
وقوله: { وَمَن فِي ٱلأَرْضِ } معطوف على { بنيه } أى: ويفتدى نفسه بجميع أهل الأرض.
وهكذا نرى الآيات الكريمة تحكى لنا بهذا الأسلوب المؤثر، حالة المجرم فى هذا اليوم، وأنه يتمنى أن يفتدى نفسه مما حل به من عذاب، بأقرب وأحب الناس إليه، بل بأهل الأرض جميعا.. ولكن هيهات أن يقبل منه شئ من ذلك.
ولذا جاء الرد الزاجر له عما تمناه فى قوله - تعالى - { كَلاَّ إِنَّهَا لَظَىٰ } وكلا حرف ردع وزجر، وإبطال لكلام سابق، وهو هنا ما كان يتمناه ويحبه.. من أن يفتدى نفسه ببنيه، وبصاحبته وأخيه.. الخ.
و "لظى" علم لجهنم، أو لطبقة من طبقاتها، واللظى: اللهب الخالص، والضمير للنار المدلول عنها بذكر العذاب.
أى: كلا - أيها المجرم - ليس الأمر كما وددت وتمنيت.. وإنما الذى فى انتظارك، هو النار التى هو أشد ما تكون اشتعالا.
والتى من صفاتها كونها { نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ } أى: قلاعة لجلدة الرأس وأطراف البدن، كاليد والرجل، ثم تعود هذه الجلدة والأطراف كما كانت.
فقوله: { نَزَّاعَةً } صيغة المبالغة من النزع بمعنى القلع والفصل. والشوى: جمع شواة - بفتح الشين -، وهى من جوارح الإِنسان ما لم يكن مقتلا، مثل اليد والرجل. والجمع باعتبار ما لكل أحد من جوارح وأطراف. يقال: فلان رمى فأشوى، إذا لم يصب مقتلا ممن رماه.
وقيل: الشواة: جلدة الرأس. والجمع باعتبار كثرة الناس.
وهذه النار الملتهبة من صفاتها - أيضا - أنها { تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ } أى: تدعو لدخولها والاصطلاء بحرها، من أدبر وأعرض وتولى عن الحق والرشد، ونآى بجانبه عن طريق الهدى والاستقامة.
قال ابن كثير: هذه النار تدعو إليها أبناءها الذين خلقهم الله - تعالى - لها وقدر لهم أهم فى الدار الدنيا يعملون عملها، فتدعوهم يوم القيامة بلسان طَلْقِ ذَلْقٍ - أى: فصيح بليغ - ثم تلتقطهم من بين أهل المحشر، كما يلتقط الطير الحب، وذلك أنهم كانوا كما قال - سبحانه - ممن أدبر وتولى. أى: ممن كذب بقلبه، وترك العمل بجوارحه.
{ وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ } أى جمع المال بعضه على بعض فأوعاه، أى: فأمسكه فى وعائه وكنزه ومنع حق الله - تعالى - فيه، وبخل به على مستحقيه. فقوله { فَأَوْعَىٰ } أى: فجعله فى وعاء. وفى الحديث الشريف، يقول صلى الله عليه وسلم:
"لا توعى - أى لا تجمع مالك فى الوعاء على سبيل الكنز - فيوعى الله عليك" - أى: فيمنع الله - تعالى - فضله عنك، كما منعت وقترت.
وفى قوله - سبحانه - { وَجَمَعَ } إشارة إلى الحرص والطمع، وفى قوله { فَأَوْعَىٰ } إشارة إلى بخله وطول أمله.
قال قتادة { وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ }: كان جموعا للخبيث من المال.
وبعد هذا البيان المؤثر الحكيم عن طبائع المجرمين، وعن أهوال يوم الدين، وعن سوء عاقبة المكذبين.. اتجهت السورة الكريمة إلى الحديث عن سجايا النفوس البشرية فى حالتى الخير والشر، والغنى والفقر، والشكر والجحود.. واستثنت من تلك السجايا نفوس المؤمنين الصادقين، فقال - تعالى -.
{ إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ... }.