التفاسير

< >
عرض

قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً
٥
فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً
٦
وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ ٱسْتِكْبَاراً
٧
ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً
٨
ثُمَّ إِنِّيۤ أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً
٩
فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً
١٠
يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً
١١
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً
١٢
مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً
١٣
وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً
١٤
أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً
١٥
وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ سِرَاجاً
١٦
وَٱللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً
١٧
ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً
١٨
وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ بِسَاطاً
١٩
لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً
٢٠
-نوح

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله - تعالى -: { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً. فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً } بيان للطرق والمسالك التى سلكها نوح مع قومه، وهو يدعوهم إلى إخلاص العبادة لله - تعالى - بحرص شديد ومواظبة تامة.. وموقف قومه من دعوته لهم.
والمقصود بهذا الخبر لازم معناه، وهو الشكاية إلى ربه، والتمهيد لطلب النصر منه - تعالى - عليهم، لأنه - سبحانه - لا يخفى عليه أن نوحا - عليه السلام - لم يقصر فى تبليغ رسالته.
أى: قال نوح متضرعا إلى ربه: يا رب إنك تعلم أننى لم أقصر فى دعوة قومى إلى عبادتك، تارة بالليل وتارة بالنهار، من غير فتور ولا توان.
{ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ } لهم إلى عبادتك وطاعتك { إِلاَّ فِرَاراً } أى: إلا تباعدا من الإِيمان وإعراضا عنه. والفرار: الزَّوَغَان والهرب. يقال: فر فلان يفر فرارا، فهو فرور، إذا هرب من طالبه، وزاغ عن عينه.
والتعبير بقوله: { دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً }، يشعر بحرص نوح التام على دعوتهم، فى كل وقت يظن فيه أن دعوته لهم قد تنفع.
كما أن التعبير بقوله: { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً } يدل دلالة واضحة على إعراضهم التام عن دعوته، أى: فلم يزدهم دعائى شيئا من الهدى، وإنما زادهم بُعْداً عنى، وفرارا منى.
وإسناد الزيادة إلى الدعاء، من باب الإِسناد إلى السبب، كما فى قولهم: سرتنى رؤيتك.
وقوله { فِرَاراً } مفعول ثان لقوله { فَلَمْ يَزِدْهُمْ } والاستثناء مفرغ من عموم الأحوال والمستثنى منه مقدر، أى: فلم يزدهم دعائى شيئا من أحوالهم التى كانوا عليها إلا الفرار.
ويصح أن يكون الاستثناء منقطعا. أى: فلم يزدهم دعائى قرباً من الحق، لكن زادهم فرارا منه.
ثم أضاف إلى فرارهم منه، حالة أخرى. تدل على إعراضهم عنه، وعلى كراهيتهم له، فقال: { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ ٱسْتِكْبَاراً }.
وقوله: { كُلَّمَا } معمول لجملة: { جَعَلُوۤاْ } التى هى خبر إن، واللام فى قوله { لِتَغْفِرَ لَهُمْ } للتعليل.
والمراد بأصابعهم: جزء منها. واستغشاء الثياب معناه: جعلها غشاء، أى: غطاء لرءوسهم ولأعينهم حتى لا ينظروا إليه، ومتعلق الفعل "دعوتهم" محذوف لدلالة ما تقدم عليه، وهو أمرهم بعبادة الله وتقواه.
والمعنى: وإنى - يا مولاى - كلما دعوتهم إلى عبادتك وتقواك وطاعتى فيما أمرتهم به، لكى تغفر لهم ذنوبهم.. ما كان منهم إلا أن جعلوا أصابعهم فى آذانهم حتى لا يسمعوا قولى، وإلا أن وضعوا ثيابهم على رءوسهم. وأبصارهم حتى لا يرونى، وإلا أن { وَأَصَرُّواْ } إصرارا تاما على كفرهم { وَٱسْتَكْبَرُواْ ٱسْتِكْبَاراً } عظيما عن قبول الحق.
فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة، قد صورت عناد قوم نوح، وجحودهم للحق، تصويرا بلغ الغاية فى استحبابهم العمى على الهدى.
فهى - أولا - جاءت بصيغة "كلما" الدالة على شمول كل دعوة وجهها إليهم نبيهم نوح - عليه السلام - أى: فى كل وقت أدعوهم إلى الهدى يكون منهم الإعراض.
وهى - ثانيا - عبرت عن عدم استماعهم إليه بقوله - تعالى -:{ جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ }. وعبر عن الأنامل بالأصابع على سبيل المبالغة فى إرادة سد المسامع، فكأنهم لو أمكنهم إدخال أصابعهم جميعها فى آذانهم لفعلوا. حتى لا يسمعوا شيئا مما يقوله نبيهم لهم.
فإطلاق اسم الأصابع على الأنامل من باب المجاز المرسل، لعلاقة البعضية، حيث أطلق - سبحانه - الكل وأراد البعض، مبالغة فى كراهيتهم لسماع كلمة الحق.
وهى - ثالثا - عبرت عن كراهيتهم لنبيهم ومرشدهم بقوله - تعالى -: { وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ } أى: بالغوا فى التَّغطِّى بها، حتى لكأنهم قد طلبوا منها أن تلفهم بداخلها حتى لا يتسنى لهم رؤيته إطلاقا.
وهذا كناية عن العداوة الشديدة، ومنه قول القائل: لبس لى فلان ثياب العداوة.
وهى - رابعا - قد بينت بأنهم لم يكتفوا بكل ذلك، بل أضافوا إليه الإِصرار على الكفر - وهو التشدد فيه، والامتناع من الإِقلاع عنه مأخوذ من الصَّرة بمعنى الشدة - والاستكبار العظيم عن الاستجابة للحق.
فقد أفادت هذه الآية، أنهم عصوا نوحا وخالفوه مخالفة ليس هناك ما هو أقبح منها ظاهرا، حيث عطلوا أسماعهم وأبصارهم، وليس هناك ما هو أقبح منها باطنا، حيث أصروا على كفرهم، واستكبروا على اتباع الحق.
ومع كل هذا الإِعراض والعناد.. فقد حكت لنا الآيات بعد ذلك، أن نوحا - عليه السلام - قد واصل دعوته لهم بشتى الأساليب. فقال - كما حكى القرآن عنه -: { ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً }.
وقوله: { جِهَاراً } صفة لمصدر محذوف. أى: دعوتهم دعاء جهارا. أى: مجاهرا لهم بدعوتى، بحيث صارت دعوتى لهم أمامهم جميعا.
{ ثُمَّ إِنِّيۤ أَعْلَنْتُ لَهُمْ } تارة { وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً } تارة أخرى.
أى: أنه - عليه السلام - توخى ما يظنه يؤدى إلى نجاح دعوته، وراعى أحوالهم فى ذلك، فهو تارة يدعوهم جهرا، وتارة يدعوهم سرا، وتارة يجمع بين الأمرين.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ذكر أنه دعاهم ليلا ونهارا، ثم دعاهم جهارا، ثم دعاهم فى السر والعلن، فيجب أن تكون ثلاث دعوات مختلفات حتى يصح العطف؟
قلت: قد فعل - عليه السلام - كما يفعل الذى يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فى الابتداء بالأهوان والترقى فى الأشد فالأشد، فافتتح بالمناصحة فى السر، فلما لم يقبلوا ثنى بالمجاهرة، فلما لم تؤثر ثلث بالجمع بين الإِسرار والإِعلان.
ومعنى "ثم" الدلالة على تباعد الأحوال، لأن الجهار أغلظ من الإِسرار، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما..
ثم حكى - سبحانه - جانبا من إرشادات نوح لقومه فقال: { فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ }
أى: فقلت لهم - على سبيل النصح والإِرشاد إلى ما ينفعهم ويغريهم بالطاعة - { ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ } بأن تتوبوا إليه، وتقلعوا عن كفركم وفسوقكم { إِنَّهُ } - سبحانه - { كَانَ غَفَّاراً }.
أى: كثير الغفران لمن تاب إليه وأناب.
{ يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } والمراد بالسماء هنا: المطر لأنه ينزل منها، وقد جاء فى الحديث الشريف أن من أسماء المطر السماء. فقد روى الشيخان عن زيد بن خالد الجهنى أنه قال
"صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية، على إثر سماء كانت من الليل..." أى: على إثر إمطار نازلة بالليل.
ومنه قول بعض الشعرا:

إذا نزل السماء بأرض قومرعيناه وإن كانوا غضابا

والمدرار: المطر الغزير المتتابع، يقال: درت السماء بالمطر، إذا نزل منها بكثرة وتتابع، والدر، والدرور معناه: السيلان.. فقوله { مِّدْرَاراً } صيغة مبالغة منهما.
أى: استغفروا ربكم وتوبوا إليه، فإنكم إذا فعلتم ذلك أرسل الله - تعالى - عليكم بفضله ورحمته، أمطارا غزيرة متتابعة، لتنتفعوا بها فى مختلف شئون حياتكم.
وفضلا عن ذلك: { وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ } أى: بساتين عظيمة، { وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } جارية تحت أشجار هذه الجنات، لتزداد جمالا ونفعا.
قال الإِمام الرازى ما ملخصه: "إن قوم نوح لما كذبوه زمانا طويلا، حبس الله عنهم المطر، وأعقم أرحام نسائهم.. فرجعوا إلى نوح، فقال لهم: استغفروا ربكم من الشرك، حتى يفتح عليكم أبواب نعمه.
واعلم أن الاشتغال بالطاعة، سبب لانفتاح أبواب الخيرات، ويدل عليه وجوه: أحدها: أن الكفر سبب لخراب العالم. والإِيمان سبب لعمارة العالم. وثانيها: الآيات الكثيرة التى وردت فى هذا المعنى، ومنها قوله - تعالى -
{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ آمَنُواْ وَٱتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ... } وثالثها: أن عمر خرج يستسقى فما زاد على الاستغفار. فقيل له: ما رأيتك استسقيت؟ فقال: لقد استسقيت لكم بمجاديح السماء، والمجاديح: جمع مِجْدَح - بكسر فسكون وهو نجم من النجوم المعروفة عند العرب.
وشكا رجل إلى الحسن البصرى الفاقة، وشكا إليه آخر الجدب، وشكا إليه ثالث قلة النسل.. فأمر الجميع بالاستغفار.. فقيل له: أتاك رجال يشكون إليك أنواعا من الحاجة، فأمرتهم جميعا بالاستغفار؟ فتلا الحسن هذه الآيات الكريمة.
وما قاله الإِمام الرازى -رحمه الله - يؤيده القرآن الكريم فى كثير من آياته، ويؤيده واقع الحياة التى نحياها ونشاهد أحداثها.
أما آيات القرآن الكريم فمنها قوله - تعالى -:
{ وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً } وقوله - سبحانه - على لسان هود - عليه السلام -: { وَيٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ.. } وقال - عز وجل -: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } وأما واقع الحياة. فإننا نشاهد بأعيننا الأمم التى تطبق شريعة الله - تعالى - وتعمل بما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم من آداب وأحكام وهدايات.
نرى هذه الأمم سعيدة فى حياتها، آمنة فى أوطانها، يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، وإذا أصابها شئ من النقص فى الأنفس أو الثمرات.. فذلك من باب الامتحان الذى يمتحن الله - تعالى - به عباده، والذى لا يتعارض مع كون العاقبة الطيبة إنما هى لهذه الأمم الصادقة فى إيمانها.
وما يجرى على الأمم والشعوب، يجرى أيضا على الأفراد والجماعات، فتلك سنة الله التى لا تتغير.
أما الأمم الفاسقة عن أمر ربها، فإنها مهما أوتيت من ثراء وبسطة فى الرزق.. فإن حياتها دائما تكون متلبسة بالقلق النفسى، والشقاء القلبى، والاكتئاب الذى يؤدى إلى فساد الحال واضطراب البال.
وقوله - سبحانه - بعد ذلك حكاية عن نوح - عليه السلام - : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً. وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً }: بيان لما سلكه نوح فى دعوته لقومه، من جمعه بين الترغيب والترهيب.
فهو بعد أن أرشدهم إلى أن استغفارهم وطاعتهم لربهم، تؤدى بهم إلى البسطة فى الرزق.. أتبع ذلك بزجرهم لسوء أدبهم مع الله - تعالى - منكرا عليهم استهتارهم واستخفافهم بما يدعوهم إليه.
وقوله: { مَّا لَكُمْ } مبتدأ وخبر، وهو استفهام قصد به توبيخهم والتعجيب من حالهم.
ولفظ "ترجون" يرى بعضهم أنه بمعنى تعتقدون. والوقار معناه: التعظيم والإِجلال.
والأطوار: جمع طور، وهو المرة والتارة من الأفعال والأزمان.
أى: ما الذى حدث لكم - أيها القوم - حتى صرتم لا تعتقدون لله - تعالى - عظمة أو إجلالا، والحال أنه - سبحانه - هو الذى خلقكم وأوجدكم فى أطوار متعددة، نطفة، فعلقة، فمضغة.
كما قال - سبحانه -
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } وكما قال - تعالى - { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْقَدِيرُ } قال القرطبى ما ملخصه: قوله - تعالى -: { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } قيل: الرجاء هنا بمعنى الخوف.
أى: مالكم لا تخافون لله عظمة وقدرة على أخذكم بالعقوبة.
وقيل: المعنى: ما لكم لا تعلمون لله عظمة.. أولا ترون لله عظمة.. أو لا تبالون أن لله عظمة.. والوقار: العظمة، والتوقير: التعظيم..
وبعد هذا الترغيب والترهيب والتوبيخ.. أخذ فى لفت أنظارهم إلى عجائب صنع الله فى خلقه، فقال: { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً. وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ سِرَاجاً }.
والاستفهام فى قوله: { أَلَمْ تَرَوْاْ.. } للتقرير، والرؤية: بصرية وعلمية، لأنهم يشاهدون مخلوقات الله - تعالى - ويعلمون أنه - سبحانه - هو الخالق. و { طِبَاقاً } أى: متطابقة كل طبقة أعلى من التى تحتها.
أى: لقد علمتم ورأيتم أن الله - تعالى - هو الذى خلق { سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } متطابقة، بعضها فوق بعض { وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً } أى: وجعل - سبحانه - بقدرته القمر فى السماء الدنيا نورا للأرض ومن فيها.
وإنما قال { فِيهِنَّ } مع أنه فى السماء الدنيا، لأنها محاطة بسائر السموات فما فيها يكون كأنه فى الكل. أو لأن كل واحدة منها شفافة، فيرى الكل كأنه سماء واحدة. فساغ أن يقال فيهن.
وقوله: { وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ سِرَاجاً } أى: كالسراج فى إضاءتها وتوهجها وإزالة ظلمة الليل، إذ السراج هو المصباح الزاهر نوره، الذى يضئ ما حوله.
قال الآلوسى: قوله { وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً } أى: منوراً لوجه الأرض فى ظلمة الليل، وجعله فيهن مع أنه فى إحداهن - وهى السماء الدنيا -، كما يقال: زيد فى بغداد وهو فى بقعة منها. والمرجح له الإِيجاز والملابسة بالكلية والجزئية، وكونا طباقا شفافة.
{ وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ سِرَاجاً } يزيل الظلمة.. وتنوينه للتعظيم، وفى الكلام تشبيه بليغ ولكون السراج أعرف وأقرب، جعل مشبها به، ولاعتبار التعدى إلى الغير فى مفهومه بخلاف النور، كان أبلغ منه.
وقال بعض العلماء: وفى جعل القمر نورا، إيماء إلى أن ضوء القمر ليس من ذاته. فإن القمر مظلم. وإنما يستضئ بانعكاس أشعة الشمس على ما يستقبلها من وجهه، بحسب اختلاف ذلك الاستقبال من تبعض وتمام، هو أثر ظهوره هلالا.. ثم بدرا.
وبعكس ذلك جعلت الشمس سراجا، لأنها ملتهبة، وأنوارها ذاتية فيها، صادرة عنها إلى الأرض وإلى القمر، مثل أنوار السراج تملأ البيت.
ثم انتقل نوح - عليه السلام - من تنبيههم إلى ما فى خلق السموات والشمس والقمر من دلالة على وحدانية الله وقدرته.. إلى لفت أنظارهم إلى التأمل فى خلق أنفسهم، وفى مبدئهم وإعادتهم إلى الحياة مرة أخرى بعد موتهم، فقال - كما حكى القرآن عنه -: { وَٱللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً. ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً }
والمراد بأنبتكم: أنشأكم وأوجدكم، فاستعير الإِنبات للإِنشاء للمشابهة بين إنبات النبات، وإنشاء الإِنسان، من حيث إن كليهما تكوين وإيجاد للشئ بقدرته - تعالى -.
والمراد بأنبتكم: أنبت أصلكم وهو أبوكم آدم، فأنتم فروع عنه. و { نَبَاتاً } مصدر لأنبت على حذف الزوائد، فهو مفعول مطلق لأنبتكم، جئ به للتوكيد، ومصدره القياسى "إنباتا" واختير "نباتا" لأنه أخف.
قال الجمل: قوله: نباتا، يجوز أن يكون مصدرا لأنبت على حذف الزوائد. ويسمى اسم مصدر، ويجوز أن يكون مصدرا لنبتم مقدرا. أى: فنبتّم نباتا - فيكون منصوبا بالمطاوع المقدر.
أى: والله - تعالى - هو الذى أوجد وأنشأ أباكم آدم من الأرض إنشاء وجعلكم فروعا عنه، ثم يعيدكم إلى هذه الأرض بعد موتكم لتكون قبورا لكم، ثم يخرجكم منها يوم البعث للحساب والجزاء.
وعبر - سبحانه - عن الإِنشاء بالإِنبات، لأن هذا التعبير يشعر بأن الإِنسان مخلوق محدث، وأنه مثل النبات يحصد مثل يعود إلى الحياة مرة أخرى.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: "استعير الإِنبات للإِنشاء كما يقال: زرعك الله للخير. وكانت هذه الاستعارة أدل دليل على الحدوث لأنهم إذا كانوا نباتا كانوا محدثين لا محالة حدوث النبات".
ثم ختم نوح - عليه السلام - إرشاداته لقومه، بلفت أنظارهم إلى نعمة الأرض التى يعيشون عليها، فقال: { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ بِسَاطاً. لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً }
أى: والله - تعالى - وحده هو الذى جعل لكم - بفضله ومنته - الأرض مبسوطة، حيث تتقلبون عليها كما يتقلب النائم على البساط.
وجعلها لكم كذلك { لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً } أى: لكى تتخذوا منها لأنفسكم طرقا { فِجَاجاً } أى: متسعة جمع فج وهو الطريق الواسع.
وقوله: { بِسَاطاً } تشبيه بليغ. أى: جعلها لكم كالبساط، وهذا لا يتنافى مع كون الأرض كروية، لأن الكرة إذا عظمت جدا، كانت القطعة منها كالسطح والبساط فى إمكان الانتفاع بها، والتقلب على أرجائها.
وهكذا نرى أن نوحا - عليه السلام - قد سلك مع قومه مسالك متعددة لإِقناعهم بصحة ما يدعوهم إليه، ولحملهم على طاعته، والإِيمان بصدق رسالته.
لقد دعاهم بالليل والنهار، وفى السر وفى العلانية، وبين لهم أن طاعتهم لله - تعالى - تؤدى إلى إمدادهم بالأموال والأولاد، والجنات والأنهار ووبخهم على عدم خشيتهم من الله - تعالى - وذكرهم بأطوار خلقهم، ولفت أنظارهم إلى بديع صنعه - سبحانه - فى خلق السموات والشمس والقمر، ونبههم إلى نشأتهم من الأرض، وعودتهم إليها، وإخراجهم منها للحساب والجزاء، وأرشدهم إلى نعم الله - تعالى - فى جعل الأرض مبسوطة لهم.
وهكذا حاول نوح - عليه السلام - أن يصل إلى آذان قومه وإلى عقولهم وقلوبهم، بشتى الأساليب الحكيمة، والتوجيهات القويمة، فى صبر طويل وإرشاد دائم.
ولكن قومه كانوا قد بلغوا الغاية فى الغباء والجهالة والعناد والطغيان، لذى نرى السورة الكريمة تحكى عن نوح - عليه السلام - ضراعته إلى ربه، والتماسه منه - تعالى استئصال شأفتهم، وقطع دابرهم، لنستمع فى تدبر إلى قوله - تعالى -.
{ قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَٱتَّبَعُواْ... }.