التفاسير

< >
عرض

إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
١
قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
٢
أَنِ ٱعبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ
٣
يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
٤
-نوح

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قصة نوح - عليه السلام - مع قومه، قد وردت فى سور متعددة منها: سورة الأعراف، ويونس، وهود، والشعراء، والعنكبوت.
وينتهى نسب نوح - عليه السلام - إلى شيث بن آدم، وقد ذكر نوح فى القرآن فى ثلاثة وأربعين موضعا.
وكان قوم نوح يعبدون الأصنام، فأرسل الله - تعالى - إليهم نوحا ليدلهم على طريق الرشاد.
وقد افتتحت السورة هنا بالأسلوب المؤكد بإنَّ، للاهتمام بالخبر، وللاتعاظ بما اشتملت عليه القصة من هدايات وإرشادات.
وأن فى قوله { أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ } تفسيرية، لأنها وقعت بعد أرسلنا، والإِرسال فيه معنى القول دون حروفه، فالجملة لا محل لها من الإعراب.
ويصح أن تكون مصدرية، أى: بأن أنذر قومك.. والإِنذار، هو الإِخبار الذى معه تخويف.
وقوم الرجل: هم أهله وخاصته الذين يجتمعون معه فى جد واحد. وقد يقيم الرجل بين الأجانب. فيسميهم قومه على سبيل المجاز للمجاورة.
أى: إنا قد اقتضت حكمتنا أن نرسل نوحا - عليه السلام - إلى قومه، وقلنا له: يا نوح عليك أن تنذرهم وتخوفهم من عذابنا، وأن تدعوهم إلى إخلاص العبادة لنا، من قبل أن ينزل بهم عذاب مؤلم، لا طاقة لهم بدفعه، لأن هذا العذاب من الله - تعالى - الذى لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه.
وقال - سبحانه - { أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ } ولم يقل: أن أنذر الناس، لإِثارة حماسته فى دعوته، لأن قوم الرجل يحرص الإِنسان على منفعتهم.. أكثر من حرصه على منفعة غيرهم.
والآية الكريمة صريحة فى أن ما أصاب قوم نوح من عذاب أليم، كان بسبب إصرارهم على كفرهم، وعدم استماعهم إلى إنذاره لهم.
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما قاله نوح لقومه فقال: { قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ. أَنِ ٱعبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ }.
أى: قال نوح لقومه -على سبيل التلطف فى النصح، والتقرب إلى قلوبهم - يا قوم ويا أهلى وعشيرتى: إنى لكم منذر واضح الإِنذار، ولا أسألكم على هذا الإِنذار الخالص أجرا، وإنما ألتمس أجرى من الله.
وإنى آمركم بثلاثة أشياء: أن تخلصوا لله - تعالى - العبادة، وأن تتقوه فى كل أقوالكم وأفعالكم، وأن تطيعونى فى كل ما آمركم به وأنهاكم عنه.
وافتتح كلامه معهم بالنداء { قَالَ يٰقَوْمِ }، أملا فى لفت أنظارهم إليه، واستجابتهم له، فإن النداء من شأنه التنبيه للمنادىَ.
ووصف إنذاره لهم بأنه { مُّبِينٌ }، ليشعرهم بأنه لا لبس فى دعوته لهم إلى الحق، ولا خفاء فى كونهم يعرفونه، ويعرفون حرصه على منفعتهم..
وقال: { إِنِّي لَكُمْ } للإِشارة إلى أن فائدة استجابتهم له، تعود عليهم لا عليه، فهو مرسل من أجل سعادتهم وخيرهم.
وأمرهم بطاعته، بعد أمرهم بعبادة الله وتقواه، لأن طاعتهم له هى طاعة لله - تعالى - كما قال - تعالى -:
{ مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } ثم بين لهم ما يترتب على إخلاص عبادتهم لله، وخشيتهم منه - سبحانه - وطاعتهم لنبيهم فقال: { يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى }.
وقوله: { يَغْفِرْ } مجزوم فى جواب الأوامر الثلاثة، و { من } للتبعيض أى: يغفر لكم بعض ذنوبكم، وهى تلك التى اقترفوها قبل إيمانهم وطاعتهم لنبيهم، أو الذنوب التى تتعلق بحقوق الله - تعالى - دون حقوق العباد.
ويرى بعضهم أن "من" هنا زائدة لتوكيد هذه المغفرة. أى: يغفر لكم جميع ذنوبكم التى فرطت منكم، متى آمنتم واتقيتم ربكم، وأطعتم نبيكم.
{ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } أى: ويؤخر آجالكم إلى وقت معين عنده - سبحانه - ويبارك لكم فيها، بأن يجعلها عامرة بالعمل الصالح، وبالحياة الآمنة الطيبة.
فأنت ترى أن نوحا - عليه السلام - قد وعدهم بالخير الأخروى وهو مغفرة الذنوب يوم القيامة، وبالخير الدنيوى وهو البركة فى أعمارهم، وطول البقاء فى هناء وسلام.
قال ابن كثير: { وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } أى: ويمد فى أعماركم، ويدرأ عنكم العذاب، الذى إذا لم تنزجروا عما أنهاكم عنه: أوقعه - سبحانه - بكم.
وقد يستدل بهذه الآية من يقول: إن الطاعة والبر وصلة الرحم. يزاد بها فى العمر حقيقة، كما ورد به الحديث: "صلة الرحم تزيد فى العمر".
وقوله: { إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } بمنزلة التعليل لما قبله. أى: يغفر لكم - سبحانه - من ذنوبكم، ويؤخركم إلى أجل معين عنده - تعالى - إن الوقت الذى حدده الله - عز وجل - لانتهاء أعماركم، متى حضر، لا يؤخر عن موعده، { لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أى: لو كنتم من أهل العلم لاستجبتم لنصائحى، وامتثلتم أمرى، وبذلك تنجون من العقاب الدنيوى والأخروى.
قال الآلوسى: قوله { لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }. أى: لو كنتم من أهل العلم لسارعتم لما آمركم به. لكنكم لستم من أهله فى شئ، لذا لم تسارعوا، فجواب لو مما يتعلق بأول الكلام.
ويجوز أن يكون مما يتعلق بآخره. أى: لو كنتم من أهل العلم لعلمتم ذلك، أى: عدم تأخير الأجل إذا جاء وقته المقدر له. والفعل فى الوجهين منزل منزلة اللازم.
ثم قصت علينا الآيات الكريمة بعد ذلك، ما قاله نوح لربه. على سبيل الشكوى والضراعة، وما وجهه إلى قومه من نصائح فيها ما فيها من الترغيب والترهيب، ومن الإِرشاد الحكيم، والتوجيه السديد.. قال - تعالى -:
{ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي... }.