التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ
١
قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً
٢
نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً
٣
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً
٤
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً
٥
إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً
٦
إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً
٧
وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً
٨
رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً
٩
وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً
١٠
وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي ٱلنَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً
١١
إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً
١٢
وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً
١٣
يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً
١٤
إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً
١٥
فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً
١٦
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَانَ شِيباً
١٧
ٱلسَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً
١٨
إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً
١٩
-المزمل

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقد ذكرالمفسرون عند تفسيرهم لهذه السورة الكريمة روايات منها ما رواه البزار والطبرانى فى الأوسط، وأبو نعيم فى الدلائل عن جابر - رضى الله عنه - قال: اجتمعت قريش فى دار الندوة فقالوا: سموا هذا الرجل اسما تصدوا الناس عنه فقالوا: كاهن. قالوا: ليس بكاهن. قالوا: مجنون. قالوا: ليس بمجنون. قالوا: ساحر. قالوا: ليس بساحر.. فتفرق المشركون على ذلك. فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فتزمل فى ثيابه وتدثر فيها، فأتاه جبريل فقرأ عليه: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ... } وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم كان نائما بالليل متزملا فى قطيفة.. فجاءه جبريل بقوله - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ. قُمِ ٱلْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً.. }.
وقيل: إن سبب نزول هذه الآيات ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"جاورت بحراء، فلما قضيت جوارى، هبطت، فنوديت فنظرت عن يمينى فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالى فلم أر شيئا.. فرفعت رأسى فإذا الذى جاءنى بحراء، جالس على كرسى بين السماء والأرض.. فرجعت فقلت: دثرونى دثرونى" ، وفى رواية: "فجئت أهلى فقلت: زملونى زملونى، فأنزل الله - تعالى -: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ... }" .
وجمهور العلماء يقولون: وعلى أثرها نزلت: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ... }.
و { ٱلْمُزَّمِّلُ }: اسم فاعل من تزمل فلان بثيابه، إذا تلفف فيها، وأصله المتزمل، فأدغمت التاء فى الزاى والميم.
وافتتح الكلام بالنداء للتنبيه على أهمية ما يلقى على المخاطب من أوامر أو نواه.
وفى ندائه صلى الله عليه وسلم بلفظ "المزمل" تلطف معه، وإيناس لنفسه، وتحبب إليه، حتى يزداد نشاطا، وهو يبلغ رسالة ربه.
والمعنى: يأيها المزمل بثيابه، المتلفف فيه، رهبة مما رآه من عبدنا جبريل. او هما وغما مما سمعه من المشركين، من وصفهم له بصفات هو برئ منها.
{ قُمِ ٱلْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً } أى: قم الليل متعبدا لربك، { إِلاَّ قَلِيلاً } منه، على قدر ما تأخذ من راحة لبدنك، فقوله: { إِلاَّ قَلِيلاً } استثناء من الليل..
وقوله { نِّصْفَهُ } بدل من { قَلِيلاً } بدل كل من كل، على سبيل التفصيل بعد الإِجمال..
أى: قم نصف الليل للعبادة لربك، واجعل النصف الثانى من الليل لراحتك ونومك..
ووصف - سبحانه - هذا النصف الكائن للراحة بالقلة فقال { إِلاَّ قَلِيلاً } للإِشعار بأن النصف الآخر، العامر بالعبادة والصلاة.. هو النصف الأكثر ثوابا وقربا من الله - تعالى - بالنسبة للنصف الثانى المتخذ للراحة والنوم.
وقوله - سبحانه -: { أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ.. } تخيير له صلى الله عليه وسلم فيما يفعله، وإظهار لما اشتملت عليه شريعة الإِسلام من يسر وسماحة..
فكأنه - تعالى - يقول له على سبيل التلطف والإِرشاد إلى ما يشرح صدره - يأيها المتلفف بثيابه، قم الليل للعبادة والصلاة، إلا وقتا قليلا منه يكون لراحتك ونومك، وهذا الوقت القليل المتخذ للنوم والراحة قد يكون نصف الليل، أو قد يكون أقل من النصف بأن يكون فى حدود ثلث الليل، ولك - أيها الرسول الكريم - أن تزيد على ذلك، بأن تجعل ثلثى الليل للعبادة، وثلثه للنوم والراحة..
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد رخص لنبيه صلى الله عليه وسلم فى أن يجعل نصف الليل أو ثلثه، أو ثلثيه للعبادة والطاعة، وأن يجعل المقدار الباقى من الليل للنوم والراحة..
وخص - سبحانه - الليل بالقيام، لأنه وقت سكون الأصوات.. فتكون العبادة فيه أكثر خشوعا، وأدعى لصفاء النفس، وطهارة القلب، وحسن الصلة بالله - عز وجل -.
هذا، وقد استمر وجوب الليل على الرسول صلى الله عليه وسلم حتى بعد فرض الصلوات الخمس عليه وعلى أمته. تعظيما لشأنه، ومداومة له على مناجاة ربه، خصوصا فى الثلث الأخير من الليل، يدل على ذلك قوله - تعالى -:
{ وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } وقد كان المسلمون يقتدون بالرسول صلى الله عليه وسلم فى قيام الليل وقد أثنى - سبحانه - عليهم بسبب ذلك فى آيات كثيرة منها قوله - تعالى -: { تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ. فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وقد ذكر الإِمام أحمد حديثا طويلا عن سعيد بن هشام، وفيه أنه سأل السيدة عائشة عن قيامه صلى الله عليه وسلم بالليل، فقالت له: ألست تقرأ هذه السورة، يأيها المزمل..؟.
إن الله افترض قيام الليل فى أول هذه السورة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم. وأمسك الله ختامها فى السماء اثنى عشر شهرا، ثم أنزل التخفيف فى آخر هذه السورة، فصار قيام الليل تطوعا من بعد فريضة..
قال القرطبى ما ملخصه: واختلف: هل كان قيام الليل فرضا وحتما، أو كان ندبا وحضا؟ والدلائل تقوى أن قيامه كان حتما وفرضا، وذلك أن الندب والحض، لا يقع على بعض الليل دون بعض، لأن قيامه ليس مخصوصا به وقت دون وقت.
واختلف - أيضا - هل كان فرضا على النبى صلى الله عليه وسلم وحده؟ أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء؟ أو عليه وعلى أمته؟ ثلاثة أقوال.. أصحها ثالثها للحديث المتقدم الذى رواه سعيد بن هشام عن عائشة - رضى الله عنها -.
وقال بعض العلماء بعد أن ساق أقوال العلماء فى هذه المسألة بشئ من التفصيل: والذى يستخلص من ذلك أن أرجح الأقوال، هو القول القائل بأن التهجد كان فريضة على النبى صلى الله عليه وسلم وعلى أمته، إذ هو الذى يمكن أن تأتلف عليه النصوص القرآنية، ويشهد له ما تقدم من الآثار عن ابن عباس وعائشة وغيرهما.
ويرى بعض العلماء أن وجوب التهجد باق على الناس جميعا، وأنه لم ينسخ، وإنما الذى نسخ هو وجوب قيام جزء مقدر من الليل، لا ينقص كثيرا عن النصف.
ويرد على هذا القول بما ثبت فى الصحيحين، من
"أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذى سأله عما يجب عليه من صلاة؟ قال: خمس صلوات فى اليوم والليلة. قال: هل على غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع" .
ويرى فريق آخر: أن قيام الليل نسخ عن الرسول وعن أمته بآخر سورة المزمل. واستبدل به قراءة القرآن، على ما يعطيه قوله - تعالى - { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } ويدل عليه - أيضا - ظاهر ما روى عن عائشة، من قولها: فصار قيام الليل تطوعا من بعد الفريضة، دون أن تقيد ذلك بقيد.
ويرى فريق ثالث: أن وجوب التهجد استمر على النبى وعلى الأمة، حتى نسخ بالصلوات الخمس ليلة المعراج.
ويرى فريق رابع: أن قيام الليل نسخ عن الأمة وحدها، وبقى وجوبه على النبى صلى الله عليه وسلم على ما يعطيه ظاهر آية الإِسراء.
ولعل أرجح هذه الأقوال هو القول الرابع.. فإن آية سورة الإِسراء وهى قوله - تعالى -:
{ وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ... } تدل على أن وجوب التهجد قد بقى عليه صلى الله عليه وسلم.
وقوله - تعالى -: { وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } إرشاد له صلى الله عليه وسلم ولأمته إلى أفضل طريقة لقراءة القرآن الكريم، حتى يستمروا عليها، وهم فى أول عهدهم بنزول القرآن الكريم.
والترتيل: جعل الشئ مرتلا، أى: منسقا منظما، ومنه قولهم: ثغر مرتل، أى: منظم الأسنان، لم يشذ بعضها عن بعض.
أى: قم - أيها الرسول الكريم - الليل إلا قليلا منه.. متعبدا لربك مرتلا للقرآن ترتيلا جميلا حسنا، تستبين معه الكلمات والحروف، حتى يفهمها السامع، وحتى يكون ذلك أعون على حسن تدبره، وأثبت لمعانيه فى القلب..
قال الإِمام ابن كثير: وكذلك كان يقرأ صلى الله عليه وسلم فقد قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ السورة فيرتلها.. وسئل أنس عن قراءته صلى الله عليه وسلم فقال: كانت مدا.. وقال صلى الله عليه وسلم:
"زينوا القرآن بأصواتكم" .
وقال عبد الله بن مسعود: لا تنثروه نثر الرمَل، ولا تهذوه هذَّ الشِّعر وقفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب - أى لا تسرعوا فى قراءته كما تسرعوا فى قراءة الشعر. والهذ: سرعة القطع - هذا، وليس معنى قوله - سبحانه -: { وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً }، أن يقرأ بطريقة فيها تلحين أو تطريب يغير من ألفاظ القرآن، ويخل بالقراءة الصحيحة من حيث الأداء، ومخارج الحروف، والغن والمد، والإِدغام والإِظهار.. وغير ذلك مما تقتضيه القراءة السليمة للقرآن الكريم.
وإنما معنى قوله - تعالى -: { وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } أن يقرأه بصوت جميل وبخشوع وتدبر، وبالتزام تام للقراءة الصحيحة، من حيث مخارج الحروف ومن حيث الوقف والمد والإِظهار والإِخفاء، وغير ذلك..
وقد بسط القول فى هذه المسألة بعض العلماء فارجع إليه إن شئت.
وقوله - تعالى - { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } تعليل للأمر بقيام الليل، وهو كلام معترض بين قوله - سبحانه - { قُمِ ٱلْلَّيْلَ.. } وبين قوله - تعالى - بعد ذلك: { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ... }.
والمراد بالقول الثقيل: القرآن الكريم الذى أنزله - سبحانه - على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم.
ويشهد لثقل القرآن على النبى صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة، منها: ما رواه الإِمام البخارى من أن السيدة عائشة قالت: ولقد رأيته صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحى، فى اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم
"ما من مرة يوحَى إلى، إلا ظننت أن نفسى تفيض" - أى: تخرج..
ومنها قول زيد بن ثابت: أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم شئ من القرآن - وفخذه على فخذى فكادت تُرَض فخذى - أى: تتكسر..
ومنها ما رواه هشام بن عروة عن أبيه، أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحى عليه وهو على ناقته، وضعت جرانها - أى باطن عنقها - فما تستطيع أن تتحرك، حتى يُسَرَّى عنه.
أى: قم - أيها الرسول الكريم - الليل إلا قليلا منه متعبدا لربك، متقربا إليه بألوان الطاعات، فإنا سنلقى عليك قولا ثقيلا، وهذا القول هو القرآن الكريم، الثقيل فى وزنه وفى ميزان الحق، وفى أثره فى القلوب، وفيما اشتمل عليه من تكاليف، وصدق الله إذا يقول:
{ لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ... } قال الجمل: قوله: { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } أى: كلاما عظيما جليلا ذا خطر وعظمة، لأنه كلام رب العالمين، وكل شئ له خطر ومقدار فهو ثقيل.
أو هو ثقيل لما فيه من التكاليف، والوعد والوعيد، والحلال والحرام، والحدود والأحكام.
قال قتادة: ثقيل والله فى فرائضه وحدوده.. وقال محمد بن كعب: ثقيل على المنافقين، لأنه يهتك اسرارهم.. وقال السدى: ثقيلا بمعنى كريم، مأخوذ من قولهم: فلان ثقل علىَّ، أى كرم على.. وقال ابن المبارك: هو والله ثقيل مبارك، كما ثقل فى الدنيا، ثقل فى الميزان يوم القيامة.
وقيل: ثقيلا بمعنى أن العقل الواحد لا يفى بإدراك فوائده ومعانيه، فالمتكلمون غاصوا فى بحار معقولاته. والفقهاء بحثوا فى أحكامه.. والأولى أن جميع هذه المعانى فيه.
وقيل: المراد بالقول الوحى، كما فى الخبر، أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحى إليه، وهو على ناقته وضعت جرانها - أى: وضعت صدرها على الأرض - فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرى عنه..
ويبدو لنا أن وصف القرآن بالثقل وصف حقيقى، لما ثبت من ثقله على النبى صلى الله عليه وسلم وقت نزوله عليه.. وهذا لا يمنع أن ثقله يشمل ما اندرج فيه من علوم نافعة، ومن هدايات سامية، ومن أحكام حكيمة، ومن آداب قويمة، ومن تكاليف جليلة الشأن.
وعبر - سبحانه - عن إيحائه بالقرآن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالإِلقاء للإِشعار بأنه يلقى إليه على غير ترقب منه صلى الله عليه وسلم، بل ينزل إليه فى الوقت الذى يريده سبحانه - وللإِشارة من أول الأمر إلى ما يوحى إليه شئ عظيم وشديد الوقع على النفس.
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك الحكمة من أمره له صلى الله عليه وسلم بقيام الليل إلا قليلا منه للعبادة والطاعة فقال: { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً }.
وقوله: { نَاشِئَةَ }: وصف من النشء وهو الحدوث، وهو صفة لموصوف محذوف. وقوله: { وَطْأً } بمعنى مواطأة وموافقة، وأصل الوطء: وضع الرجل على الأرض بنظام وترتيب، ثم استعير للموافقة، ومنه قوله - تعالى -
{ لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ } ومنه قولهم: وطأت فلانا على كذا، إذا وافقته عليه. وهو منصوب على التمييز. وقوله: { قِيلاً } بمعنى قولا.
وقوله: { وَأَقْوَمُ } بمعنى أفضل وأنفع.
والمعنى: يأيها المزمل قم الليل إلا قليلا منه للعبادة والطاعة. فإن العبادة الناشئة بالليل. هى أشد مواطأة وموافقة لإِصلاح القلب، وتهذيب النفس، وأقوم قولا، وأنفع وقعا، وأفضل قراءة من عبادة النهار، لأن العبادة الناشئة بالليل يصحبها ما يصحبها من الخشوع والإِخلاص، لهدوء الأصوات بالليل، وتفرغ العابد تفرغا تاما لعبادة ربه.
قال الشوكانى ما ملخصه: قوله: { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ... } أى: ساعاته وأوقاته، لأنها تنشأ أولا فأولا، ويقال: نشأ الشئ ينشأ، إذا ابتدأ وأقبل شيئا بعد شئ، فهو ناشئ.. قال الزجاج: ناشئة الليل، كل ما نشأ منه، أى: حدث منه.. والمراد ساعات الليل الناشئة، فاكتفى بالوصف عن الاسم الموصوف.
وقيل: إن ناشئة الليل، هى النفس التى تنشأ من مضجعها للعبادة، أى: تنهض، من نشأ من مكانه، إذا نهض منه.
{ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً } قرأ الجمهور { وَطْأً } بفتح الواو وسكون الطاء مقصورة، وقرأ بعضهم { وَطْأً } بكسر الواو وفتح الطاء ممدودة.
والمعنى على القراءة الأولى: أن الصلاة الناشئة فى الليل، أثقل على المصلى من صلاة النهار، لأن الليل للنوم.. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم
"اللهم اشدد وطأتك على مضر" .
والمعنى على القراءة الثانية: أنها أشد مواطأة وموافقة بين السمع والبصر والقلب واللسان، لانقطاع الأصوات والحركات، ومنه قوله - تعالى -: { لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ } أى: ليوافقوا.
{ وَأَقْوَمُ قِيلاً } أى: وأشد مقالا. وأثبت قراءة، لحضور القلب فيها، وهدوء الأصوات، وأشد استقامة واستمرارا على الصواب..
وقوله - سبحانه - { إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً } تقرير للأمر بقيام الليل إلا قليلا منه للعبادة والطاعة والتقرب إليه - سبحانه -.
والسبح: مصدر سبح، وأصله الذهاب فى الماء والتقلب فيه ثم استعير للتقلب والتصرف المتسع، الذى يشبه حركة السابح فى الماء.
أى: إنا أمرناك بقيام الليل للعبادة والطاعة، لأن لك فى النهار - أيها الرسول الكريم - تقلبا وتصرفا فى مهماتك، واشتغالا بأعباء الرسالة يجعلك لا تستطيع التفرغ لعبادتنا، أما فى الليل فتستطيع ذلك لأنه وقت السكون والراحة والنوم.
فالمقصود من الآية الكريمة التخفيف والتيسير عليه صلى الله عليه وسلم وبيان الحكمة من أمره بقيام الليل - إلا قليلا منه - للعبادة، حيث لم يجمع - سبحانه - عليه الأمر بالتهجد فى الليل والنهار، وإنما يسر عليه الأمر، فجعله بالليل فحسب، أما النهار فهو لمطالب الحياة: ولتبليغ رسالته - سبحانه - إلى الناس.
ثم أمره - سبحانه - بعد ذلك بالمداومة على ذكره ليلا ونهارا فقال: { وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً. رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً }.
وقوله - سبحانه - { وَتَبَتَّلْ } من التبتل، وهو الاشتغال الدائم بعبادة الله - تعالى -، والانقطاع لطاعته. ومنه قولهم بتَل فلان الحبل، إذا قطعه، وامرأة بتول. أى: منقطعة عن الزواج، ومتفرغة لعبادة الله - تعالى -والمراد به هنا: التفرغ لما يرضى الله - تعالى -، والاشتغال بذلك عن كل شئ سواه.
أى: وداوم - أيها الرسول الكريم - على ذكر الله - تعالى - عن طريق تسبيحه، وتحميده وتكبيره، وتفرغ لعبادته وطاعته تفرغا تاما، دون أن يشغلك عن ذلك شاغل.
فربك - عز وجل - هو { رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ }. أى: هو - سبحانه - رب جهتى الشروق والغروب للشمس.
{ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } مستحق للعبادة والطاعة، وما دام الأمر كذلك { فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً }.
أى: فاتخذه وكيلك الذى تفوض إليه أمرك، وتلجأ إليه فى كل أحوالك.. إذ الوكيل هو الذى توكل إليه الأمور، ويترك له التصرف فيها.
وليس المراد بقوله - تعالى -: { وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } الانقطاع التام عن الأعمال، لأن هذا يتنافى مع قوله - تعالى - قبل ذلك: { إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً } وإنما المراد التنبيه إلى أنه صلى الله عليه وسلم ينبغى له أن لا يشغله السبح الطويل بالنهار، عن طاعته - عز وجل - وعن المداومة على مراقبته وذكره.
ومما لا شك فيه أن ما كان يقوم به النبى صلى الله عليه وسلم من الاشتغال بأمر الدعوة إلى وحدانية الله - تعالى -، ومن تعليم الناس العلم النافع، والعمل الصالح.. كل ذلك يندرج تحت المواظبة على ذكر الله - تعالى -، وعلى التفرغ لعبادته.
وقال - سبحانه - { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } ولم يقل تبتلا حتى يكون الفعل موافقا لمصدره، للإِشارة إلى أن التبتل والانقطاع إلى الله يحتاجان إلى عمل اختيارى منه صلى الله عليه وسلم، بأن يجرد نفسه عن كل ما سوى الله - تعالى -، وبذلك يحصل التبتل الذى هو أثر للتبتيل، بمعنى ترويض النفس وتعويدها على العبادة والطاعة.
ووصف - سبحانه - ذاته بأنه { رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ }، لمناسبة الأمر بذكره فى الليل والنهار، وهما وقت ابتداء طلوع الشمس وغروبها، فكأنه - سبحانه - يقول: داوم على طاعتى لأنى أنا رب جميع جهات الأرض، التى فيها تشرق الشمس وتغرب.
والمراد بالمشرق والمغرب هنا جنسهما، فهما صادقان على كل مشرق من مشارق الشمس، التى هى ثلاثمائة وستون مشرقا - كما يقول العلماء - وعلى كل مغرب من مغاربها التى هى كذلك.
والمراد بالمشرقين والمغربين كما جاء فى سورة الرحمن: مشرق ومغرب الشتاء والصيف.
والمراد بالمشارق والمغارب كما جاء فى سورة المعارج: مشرق ومغرب كل يوم للشمس والكواكب.
ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بالصبر الجميل، على أذى قومه فقال: { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً... }.
أى: اجعل يا محمد اعتمادك وتوكلك على وحدى، واصبر على ما يقوله أعداؤك فى حقك من أكاذيب وخرافات.. واهجرهم هجرا جميلا، أى: واعتزلهم وابتعد عنهم، وقاطعهم مقاطعة حسنة، بحيث لا تقابل السيئة يمثلها، ولا تزد على هجرهم: بأن تسبهم، أو ترميهم بالقبيح من القول..
قال الإِمام الرازى ما ملخصه: والمعنى أنك لما اتخذتنى وكيلا فاصبر على ما يقولون، وفوض أمرهم إلى، فإنى لما كنت وكيلا لك أقوم بإصلاح أمرك، أحسن من قيامك بإصلاح نفسك.
واعلم أن مهمات العباد محصورة فى أمرين: فى كيفية معاملتهم مع الله، وقد ذكر - سبحانه - ذلك فى الآيات السابقة، وفى كيفية معاملتهم مع الخلق، وقد جمع - سبحانه - كل ما يحتاج إليه فى هذا الباب فى هاتين الكلمتين، وذلك لأن الإِنسان إما أن يكون مخالطا للناس، أو مجانبا لهم.
فإن كان مخالطا لهم فعليه أن يصبر على إيذائهم.. وإما أن يكون مجانبا لهم، فعليه أن يهجرهم هجرا جميلا.. بأن يجانبهم بقلبه وهواه، ويخالفهم فى أفعالهم، مع المداراة والإِغضاء..
وقوله - سبحانه -: { وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي ٱلنَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً } أى: ودعنى وشأنى مع هؤلاء المكذبين بالحق، ولا تهتم أنت بأمرهم، فأنا خالقهم، وأنا القادر على كل شئ يتعلق بهم.
وقوله: { أُوْلِي ٱلنَّعْمَةِ } وصف لهم جئ به على سبيل التوبيخ لهم، والتهكم بهم، حيث جحدوا نعم الله، وتوهموا أن هذه النعم من مال أو ولد ستنفعهم يوم القيامة.
والنَّعمة - بفتح النون مع التشديد - : تطلق على التنعم والترفه وغضارة العيش فى الدنيا.
وأما النِّعمة - بكسر النون - فاسم للحالات الملائمة لرغبة الإِنسان من غنى أو عافية أو نحوهما.
وأما النُّعمة - بالضم - فهى اسم المسرة. يقال: فلان فى نُعْمة - بضم النون - أى: فى فرح وسرور.
وقوله: { وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً } أى: واتركهم ودعهم فى باطلهم وقتا قليلا، فسترى بعد ذلك سوء عاقبة تكذيبهم للحق.
وقوله - سبحانه -: { إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً.. } تعليل لما قبله. والأنكال: جمع نكل - بكسر النون وسكون الكاف - وهو القيد الثقيل، يوضع فى الرجل لمنع الحركة. وسميت القيود بذلك لأنها تجعل صاحبها موضع عبرة وعظة، أو لأنها تجعل صاحبها ممنوعا من الحركة، والتقلب فى مناكب الأرض.
أى: إن لدنيا ما هو أشد من ردك عليهم.. وهو تلك القيود التى نقيد حركتهم بها، وإن لدينا "جحيما" أى: نارا شديدة الاشتعال نلقى بهم فيها، وإن لدينا كذلك "طعاما ذا غصة" أى: طعاما يلتصق فى الحلوق، فلا هو خارج منها، ولا هو نازل عنها، بل هو ناشب فيها لبشاعته ومرارته.
وهذا الطعام ذو الغُصَّة، يشمل ما يتناولونه من الزقوم ومن الغسلين ومن الضريع، كما جاء فى آيات أخرى. والغصة: ما يَنْشَب فى الحلق من عَظْم أو غيره، وجمعه غُصَص.
وإن لدينا فوق كل ذلك { وَعَذَاباً أَلِيماً } أى: عذابا شديد الإِيلام لمن ينزل به.
فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد توعدت هؤلاء المكذبين بألوان من العقوبات الشديدة، توعدتهم بالقيود التى تشل حركتهم، وبالنار المشتعلة التى تحرق أجسادهم، وبالطعام البشع الذى ينشب فى حلوقهم، وبالعذاب الأليم الذى يشقيهم ويذلهم.
والظرف فى قوله - تعالى -: { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ... } منصوب بالاستقرار العامل فى "الدنيا"، الذى هو الخبر فى الحقيقة.
أى: استقر لهم ذلك العذاب الأليم الدنيا، يوم القيامة، يوم تضطرب وتتزلزل الأرض والجبال.
{ وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ } فى هذا اليوم { كَثِيباً مَّهِيلاً } أو: رملا مجتمعا، بعد أن كانت قبل ذلك الوقت أحجارا صلبة كبيرة.
فقوله: { كَثِيباً } من كثَب الشئَ يَكِْثبه، إذا جمعه من قرب ثم صبه، وجمعه كُثُب وكُثبْان، وهى تلال الرمال المجتمعة كالربوة.
وقوله { مَّهِيلاً } اسم مفعول من هال الشئ هيلا، إذا نثره، وفرقه بعد اجتماعه.
والشئ المهيل: هو الذى يحرَّك أسفله فينهار أعلاه ويتساقط بسرعة.
ثم يذكر - سبحانه - بعد ذلك هؤلاء المكذبين بما حل بالمكذبين من قبلهم، فيقول: { إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً. فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً }.
أى: إنا أرسلنا إليكم - أيها المكذبون - رسولا عظيم الشأن، رفيع القدر، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، { شَاهِداً عَلَيْكُمْ } أى: سيكون يوم القيامة شاهدا عليكم، بأنه قد بلغكم رسالة الله - تعالى - دون أن يقصر فى ذلك أدنى تقصير.
والكاف فى قوله - تعالى -: { كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً } للتشبيه، أى: أرسلنا إليكم - يا أهل مكة - رسولا شاهدا عليكم هو محمد صلى الله عليه وسلم كما أرسلنا من قبلكم إلى فرعون رسولا شاهدا عليه، هو موسى - عليه السلام -.
وأكد الخبر فى قوله - تعالى - : { إِنَّآ أَرْسَلْنَآ... } لأن المشركين كانوا ينكرون نبوة النبى صلى الله عليه وسلم.
ونكر رسولا، لأنهم كانوا يعرفونه حق المعرفة، وللتعظيم من شأنه صلى الله عليه وسلم أى: أرسلنا إليكم رسولا عظيم الشأن، سامى المنزلة جامعا لكل الصفات الكريمة.
والفاء فى قوله: { فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ } للتفريع. أى: أرسلنا إليكم رسولا كما أرسلنا إلى فرعون رسولا قبل ذلك، فكانت النتيجة أن عصى فرعون أمر الرسول الذى أرسلناه إليه، واستهزأ به، وتطاول عليه فكانت عاقبة هذا التطاول، أن أخذناه { أَخْذاً وَبِيلاً }.
أى أهلكنا فرعون إهلاكا شديدا، وعاقبناه عقابا ثقيلا، فوبيل بزنة فعيل - صفة مشبهة، مأخوذة من وَبُل المكان، إذا وَخُم هواؤه وكان ثقيلا رديئا. ويقال: مرعى وبيل، إذا كان وخما رديئا.
وخص - سبحانه - موسى وفرعون بالذكر، لأن أخبارهما كانت مشهورة عند أهل مكة.
و { أل } فى قوله { فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ } للعهد. أى: فعصى فرعون الرسول المعهود عندكم، وهو موسى - عليه السلام -.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم نكر الرسول ثم عرف؟ قلت: لأنه أراد: أرسلنا إلى فرعون بعض الرسل، فلما أعاده وهو معهود بالذكر أدخل لام التعريف. إشارة إلى المذكور بعينه..
وأظهر - سبحانه - اسم فرعون مع تقدم ذكره فقال: { فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ }، دون أن يؤتى بضميره، للإِشعار بفظاعة هذا العصيان، وبلوغه النهاية فى الطغيان.
والمقصود من هاتين الآيتين، تهديد المشركين، بأنهم إذا ما استمروا فى تكذيبهم لرسولهم، محمد صلى الله عليه وسلم فقد يصيبهم من العذاب ما أصاب فرعون عندما عصى موسى - عليه السلام -.
ثم ذكرهم - سبحانه - بأهوال يوم القيامة، لعلهم يتعظون أو يرتدعون فقال: { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَانَ شِيباً. السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً }.
والاستفهام فى قوله: { فَكَيْفَ } مستعمل فى التوبيخ والتعجيز، و { تَتَّقُونَ } بمعنى تصونون أنفسكم من العذاب، ومعنى { إِن كَفَرْتُمْ } إن بقيتم على كفركم وأصررتم عليه. وقوله { يَوْماً }: منصوب على أنه مفعول به لقوله: { تَتَّقُونَ }.
وقوله: { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } صفة ثانية لهذا اليوم.
والمراد بالولدان: الأطفال الصغار، وبه بمعنى فيه..
والمقصود بهاتين الآيتين - أيضا - تأكيد التهديد للمشركين، حتى يقلعوا عن شركهم وكفرهم.. أى: إذا كان الأمر كما ذكرنا لكم من سوء عاقبة المكذبين، فكيف تصونون أنفسكم - إذا ما بقيتم على كفركم - من عذاب يوم هائل شديد، هذا اليوم من صفاته أنه يحول الشعر الشديد السواد للولدان، إلى شعر شديد البياض..
وهذا اليوم من صفاته - أيضا - أنه لشدة هوله، أن السماء - مع عظمها وصلابتها - تصير شيئا منفطرا - أى: متشققا { به } أى: فيه، والضمير يعود إلى اليوم..
وصدر - سبحانه - الحديث عن يوم القيامة، بلفظ الاستفهام "كيف" للإِشعار بشدة هوله. وأنه يعجز الواصفون عن وصفه.
ووصف - سبحانه - هذا اليوم بأنه يشيب فيه الولدان، ثم وصفه بأن السماء مع عظمها تتشقق فيه، للارتقاء فى الوصف من العظيم إلى الأعظم، إذ أن تحول شعر الأطفال من السواد إلى البياض - مع شدته وعظمه - أشد منه وأعظم، انشقاق السماء فى هذا اليوم.
قال صاحب الكشاف: وقوله { يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَانَ شِيباً } مثل فى الشدة، يقال فى اليوم الشديد، يوم يشيب نواصى الأطفال والأصل فيه أن الهموم والأحزان، إذا تفاقمت على الإِنسان، أسرع فيه الشيب، كما قال أبو الطيب:

والهَمُّ يَخْتَرِم الجسيمَ نحافةًويُشِيبُ ناصيةَ الصبى ويُهْرِم

ويجوز أن يوصف اليوم بالطول، وأن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب. وقوله: { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } وصف لليوم بالشدة - أيضا - وأن السماء على عظمها وإحكامها تنفطر فيه فما ظنك بغيرها من الخلائق..
ووصف - سبحانه - السماء بقوله: { مُنفَطِرٌ } بصيغة التذكير، حيث لم يقل منفطرة، لأن هذه الصيغة، صيغة نسب. أى: ذات انفطار، كما فى قولهم: امرأة مرضع وحائض، أى: ذات إرضاع وذات حيض. أو على تأويل أن السماء بمعنى السقف، كما فى قوله - تعالى -:
{ وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً } أو على أن السماء اسم جنس واحده سماوة، فيجوز وصفه بالتذكير والتأنيث.
وقوله: { كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً } الضمير فيه يعود إلى الخالق - عز وجل - والوعد مصدر مضاف لفاعله. أى: كان وعد ربك نافذا ومفعولا، لأنه - سبحانه - لا يخلف موعوده.
ويجوز أن تكون هذه الجملة صفة ثالثة لليوم، والضمير فى وعده يعود إليه، ويكون من إضافة المصدر لمفعوله. أى: كان الوعد بوقوع يوم القيامة نافذا ومفعولا.
ثم ختم - سبحانه - هذه التهديدات بقوله: { إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً }.
واسم الإِشارة "هذه" يعود إلى الآيات المتقدمة، المشتملة على الكثير من القوارع والزواجر.
والتذكرة: اسم مصدر بمعنى التذكير والاتعاظ والاعتبار. ومفعول "شاء" محذوف.
والمعنى: إن هذه الآيات التى سقناها لكم تذكرة وموعظة، فمن شاء النجاة من أهوال يوم القيامة، فعليه أن يؤمن بالله - تعالى - إيمانا حقا، وأن يتخذ بسبب إيامنه وعمله الصالح، طريقا وسبيلا إلى ربه ورحمته ومغفرته.
والتعبير بقوله: { فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذ... } ليس من قبيل التخبير، وإنما المقصود به الحض والحث على سلوك الطريق الموصل إلى الله - تعالى - بدليل قوله - تعالى - قبل ذلك: { إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ } أى: هذه الآيات تذكرة وموعظة، فمن ترك العمل بها ساءت عاقبته، ولم يكن من الذين سلكوا طريق النجاة.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } هذا، والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة، - من أول السورة إلى هنا - يراها قد نادت الرسول صلى الله عليه وسلم نداء فيه ما فيه من الملاطفة والمؤانسة، وأمرته بأن يقوم الليل إلا قليلا متعبدا لربه، كما أمرته بالصبر على أذى المشركين، حتى يحكم الله - تعالى - بينه وبينهم.
كما يراها قد هددت المكذبين بأشد أنواع التهديد، وذكرتهم بأهوال يوم القيامة، وبما حل بالمكذبين من قبلهم، وحرضتهم على سلوك الطريق المستقيم.
وبعد هذه الإِنذارات المتعددة للمكذبين، عادت السورة الكريمة إلى الحديث عن قيام الليل لعبادة الله - تعالى - وطاعته.. فقال - سبحانه - :
{ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن... }.