التفاسير

< >
عرض

كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ
٢٠
وَتَذَرُونَ ٱلآخِرَةَ
٢١
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ
٢٢
إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ
٢٣
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ
٢٤
تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ
٢٥
كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ
٢٦
وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ
٢٧
وَظَنَّ أَنَّهُ ٱلْفِرَاقُ
٢٨
وَٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ
٢٩
إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمَسَاقُ
٣٠
فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّىٰ
٣١
وَلَـٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ
٣٢
ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ
٣٣
أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ
٣٤
ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ
٣٥
أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى
٣٦
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ
٣٧
ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ
٣٨
فَجَعَلَ مِنْهُ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ
٣٩
أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ
٤٠
-القيامة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله - سبحانه - { كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ. وَتَذَرُونَ ٱلآخِرَةَ } بيان لما جبل عليه كثير من الناس، من إيثارهم منافع الدنيا الزائلة، على منافع الآخرة الباقية، وزجر ونهى لهم عن سلوك هذا المسلك، الذى يدل على قصر النظر، وضعف التفكير.
أى: كلا - أيها الناس - ليس الرشد فى أن تتركوا العمل الصالح الذى ينفعكم يوم القيامة، وتعكفوا على زينة الحياة الدنيا العاجلة.. بل الرشد كل الرشد فى عكس ذلك، وهو أن تأخذوا من دنياكم وعاجلتكم ما ينفعكم فى آخرتكم، كما قال - سبحانه -:
{ وَٱبْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا } وشبيه بهاتين الآيتين قوله - تعالى -: { إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ يُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً } ثم بين - سبحانه - حال السعداء والأشقياء يوم القيامة فقال: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ. إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ. تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ }.
وقوله: { ناضرة } اسم فاعل من النَّضْرة - بفتح النون المشددة وسكون الضاد - وهى الجمال والحسن. تقول: وجه نضير، إذا كان حسنا جميلا.
وقوله: { باسرة } من البسور وهو شدة الكلوح والعبوس، ومنه قوله - تعالى -
{ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } يقال: بسَر فلان يبسُر بسُورا، إذا قبض ما بين عينيه كراهية للشئ الذى يراه.
والفاقرة: الداهية العظمية التى لشدتها كأنها تقصم فقار الظهر. يقال: فلان فقرته الفاقرة، أى: نزلت به مصيبة شديدة أقعدته عن الحركة. وأصل الفَقْر: الوسم على أنف البعير بحديدة أو نار حتى يخلُصَ إلى العظم أو ما يقرب منه.
والمراد بقوله: { يومئذ }: يوم القيامة الذى تكرر ذكره فى السورة أكثر من مرة.
والجملة المقدرة المضاف إليها "إذ" والمعوض عنها بالتنوين تقديرها يوم إذ برق البصر.
والمعنى: يوم القيامة، الذى يبرق فيه البصر، ويخسف القمر.. تصير وجوه حسنة مشرقة، ألا وهى وجوه المؤمنين الصادقين.. وهذه الوجوه تنظر إلى ربها فى هذا اليوم نظرة سرور وحبور، بحيث تراه - سبحانه - على ما يليق بذاته، وكما يريد أن تكون رؤيته - عز وجل - بلا كيفية، ولا جهة، ولا ثبوت مسافة.
وهناك وجوه أخرى تصير فى هذا اليوم كالحة شديدة العبوس، وهى وجوه الكافرين والفاسقين عن أمر ربهم، وهذه الوجوه { تَظُنُّ } أى: تعتقد أو تتوقع، أن يفعل بها فعلا يهلكها، ويقصم ظهورها لشدته وقسوته.
وجاء لفظ "وجوه" فى الموضعين منكرا، للتنويع والتقسيم، كما فى قوله - تعالى -
{ فَرِيقٌ فِي ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي ٱلسَّعِيرِ } وكما فى قول الشاعر:

فيوم علينا ويوم لناويوم نُسَاءُ ويوم نُسَر

وقد أخذ العلماء من قوله - تعالى -: { إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } أن الله - تعالى - يتكرم على عباده المؤمنين فى هذا اليوم، فيربهم ذاته بالكيفية التى يريدها - سبحانه -.
ومنهم من فسر { نَّاضِرَةٌ } بمعنى منتظرة، أى: منتظرة ومتوقعة ما يحكم الله - تعالى - به عليها.
قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات: وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله - عز وجل - فى الدار الآخرة، فى الأحاديث الصحاح، من طرق متواترة عند أئمة الحديث، لا يمكن دفعها ولا منعها. لحديث أبى سعيد وأبى هريرة - وهما فى الصحيحين -
"أن ناسا قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارون فى رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب قالوا: لا، قال: فإنكم ترون ربكم كذلك" .
وفى الصحيحين عن جرير بن عبد الله قال: "نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر" .
ثم قال ابن كثير -رحمه الله -: وهذا - بحمد الله - مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة. كما هو متفق عليه بين أئمة الإِسلام، وهداة الأنام.
ومن تأول { إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } فقال: تنتظر الثواب من ربها.. فقد أبعد هذا القائل النجعة، وأبطل فيما ذهب إليه. وأين هو من قوله - تعالى -
{ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } قال الشافعى: ما حجَب الفجار إلا وقد علم أن الأبرار يرونه - عز وجل -.
ثم زجر - سبحانه - الذين يكذبون بيوم الدين، ويؤثرون العاجلة على الآجلة، زجَرهم بلون آخر من ألوان الردع والزجر، حيث ذكرهم بأحوالهم الأليمة عندما يودعون هذه الدنيا فقال: { كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ. وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ. وَظَنَّ أَنَّهُ ٱلْفِرَاقُ }.
والضمير فى { بَلَغَتِ } يعود إلى الروح المعلومة من المقام. كما فى قوله - تعالى -
{ فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ.. } ومنه قول الشاعر:

أماوى ما يغنى الثراء عن الفتىإذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

والتراقى: جمع تَرْقُوه، وهى العظام المحيطة بأعالى الصدر عن يمينه، وعن شماله، وهى موضع الحشرجة، وجواب الشرط محذوف.
أى: حتى إذا بلغت روح الإِنسان التراقى، وأوشكت أن تفارق صاحبها.. وجد كل إنسان ثمار عمله الذى عمله فى دنياه، وانكشفت له حقيقة عاقبته.
والمقصود من الآية الكريمة وما بعدها: الزجر عن إيثار العاجلة على الآجلة. فكأنه - تعالى - يقول: احذروا - أيها الناس - ذلك قبل أن يفاجئكم الموت، وقبل أن تبلغ أرواحكم نهايتها، وتنقطع عند ذلك آمالكم.
وقوله - سبحانه -: { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } بيان لما يقوله أحباب الإِنسان الذى بلغت روحه التراقى، على سبيل التحسر والتوجع واستبعاد شفائه. و { من } اسم استفهام مبتدأ. و { راق } خبره، وهو اسم فاعل من الرُّقية، وهى كلام يقوله القائل، أو فعل يفعله الفاعل من أجل شفاء المريض. والمراد به هنا: مطلق الطبيب الذى يرجى على يديه الشفاء لهذا المحتضر.
أى: اذكروا - أيها الناس - وقت بلوغ الروح نهايتها، ووقت أن وقف من يهمهم أمر المريض مستسلمين لقضاء الله - تعالى - وملتمسين من كل من بيده شفاء مريضهم، أن يتقدم لإِنقاذه مما هو فيه من كرب، ولكنهم لا يجدون أحدا يحقق لهم آمالهم.
قال الآلوسى: قوله: { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } أى: وقال من حضر صاحبها، من يرقيه وينجيه مما هو فيه، من الرقية، وهو ما يستشفى به الملسوع والمريض من الكلام المعد لذلك، ولعله أريد به مطلق الطبيب، أعم من أن يطب بالقول أو بالفعل.. والاستفهام عند البعض حقيقى. وقيل: هو استفهام استبعاد وإنكار. أى: قد بلغ هذا المريض مبلغا لا أحد يستطيع أن يرقيه.
وقيل هذا الكلام من كلام ملائكة الموت. أى: أيكم يرقى بروحه، أملائكة الرحمة، أم ملائكة العذاب، من الرقى وهو العروج. والاستفهام عليه حقيقى.
ووقف حفص رواية عن عاصم على { من } وابتدأ بقوله: { راق } وكأنه قصد أن لا يتوهم أنهما كلمة واحدة، فسكت سكتة لطيفة، لتشعر أنهما كلمتان.
والضمير فى المستتر فى قوله - تعالى -: { وَظَنَّ أَنَّهُ ٱلْفِرَاقُ } يعود إلى هذا الإِنسان الذى أشرف على الموت، والذى بلغت روحه نهاية حياتها، والظن هنا بمعنى اليقين، أو بمعنى العلم المقارب لليقين.
أى: وأيقن هذا المحتضر، أو توقع أن نهايته قد اقتربت، وأنه عما قليل سيودع أهله وأحبابه.. وسيفارقهم فراقا لا لقاء بعده، إلا يوم يقوم الناس للحساب.
وقوله - تعالى -: { وَٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ } أى: والتوت والتصقت إحدى ساقيه بالأخرى. عند سكرات الموت وشدته، فصارتا متلاصقتين لا تكاد إحداهما تتزحزح عن الأخرى، فكأنهما ملتفتان.
ويصح أن يكون المعنى: والتفت الساق بالساق عند وضع هذا الذى أدركه الموت فى كفنه، لأن هذا الكفن قد ضم جميع جسده، والتصقت كل ساق بالأخرى.
ومنهم من يرى أن هذه الآية الكريمة: كناية عن هول الموت وشدته كما فى قوله - تعالى -:
{ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } والعرب لا تذكر الساق إلا فى المحن والشدائد العظام، ومنه قولهم: قامت الحرب على ساق.
قال صاحب الكشاف: "والتفت" ساقه بساقه والتوت عليها عند الموت، وعن قتادة: ماتت رجلاه فلا تحملانه وقد كان عليهما جوالا. وقيل: التفت شدة فراق الدنيا بشدة إقبال الآخرة، على أن الساق مثل فى الشدة. وعن سعيد ابن المسيب: هما ساقاه حين تلفان فى أكفانه.
وقوله - سبحانه -: { إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمَسَاقُ } أى: إلى ربك - أيها الرسول الكريم - مساق الناس ومرجعهم - لا إلى غيره - يوم القيامة.. لكى يحاسبوا على أعمالهم.
فالمساق مصدر ميمى من ساق الشئ إذا سيره أمامه إلى حيث يريد.
ثم بين - سبحانه - جانبا من الأسباب التى أدت إلى سوء عاقبة المكذبين للحق، فقال - تعالى -: { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّىٰ. وَلَـٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ. ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ }.
والفاء للتفريع على ما تقدم، من قوله - تعالى -:
{ أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } ).. إلخ.
أو للتفريع والعطف على قوله - سبحانه -: { إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمَسَاقُ }.. أى: أن هذا الإِنسان الذى أنكر الحساب والجزاء، وفارق الحياة، كانت عاقبة أمره خسرا، فلا هو صدق بالحق الذى جاءه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا هو أدى الصلاة التى فرضها الله - تعالى - عليه، ولكنه كذب بكل ذلك، وتولى، وأعرض عن سبيل الرشاد.
ثم بعد ذلك: { ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ } أى: ذهب إلى أهله متبخترا متفاخرا، متباهيا بإصراره على كفره وفجوره.
وقوله: { يَتَمَطَّىٰ } من المط بمعنى المد. وأصله: يتمطط، قلبت فيه الطاء حرف علة، ووصف المتبختر فى مشيه بذلك، لأنه يمط خطاه، ويمدها على سبيل الإِعجاب بنفسه، والتباهى بما هو عليه من كفر وضلال.
ولم يذكر - سبحانه - المتعلق والمفعول فى الآيات الكريمة، للإِشعار بأن هذا الإِنسان الجاحد الجاهل.. لم يصدق بشئ من الحق، ولم يؤد الله - تعالى - فرضا ولا سنة، ولكنه استمر على تكذيبه وإعراضه عن الصراط المستقيم، ولم يكتف بكل ذلك، بل تفاخر وتباهى أمام غيره بما هو عليه من باطل.
وقوله - سبحانه -: { أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ. ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ } دعاء على هذا الإِنسان الشقى، المصر على إعراضه عن الحق.. بالهلاك وسوء العاقبة. و { أولى } اسم تفضيل من وَلِىَ، وفاعله ضمير محذوف يقدره كل قائل أو سامع بما يدل على المكروه.
والكاف فى قوله { لك } للتبين، والكاف خطاب لهذا الإِنسان المخصوص بالدعاء عليه.
وقوله: { فَأَوْلَىٰ } تأكيد لقوله { أَوْلَىٰ لَك } وجملة { ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ } مؤكدة للجملة الأولى. أى: أجدر بك هذا الهلاك الذى ينتظرك قريبا - أيها الإِنسان - الجاحد، ثم أجدر بك، لأنك أصررت على كل ما هو باطل وسوء.
قال القرطبى ما ملخصه: هذا تهديد بعد تهديد، ووعيد بعد وعيد..
روى
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المسجد ذات يوم، فاستقبله أبو جهل على باب المسجد، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فهزه مرة أو مرتين ثم قال: أولى لك فأولى" . فقال أبو جهل: أتهددنى - يا محمد - فو الله إنى لأعز أهل هذا الوادى وأكرمه، ونزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال لأبى جهل.
وجئ بحرف "ثم" فى عطف الجملة الثانية على الأولى، لزيادة التأكيد، وللارتقاء فى الوعيد، وللإِشعار بأن التهديد الثانى أشد من الأول، كما فى قوله - تعالى -:
{ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بالإِشارة إلى الحكمة من البعث والجزاء، وببيان جانب من مظاهر قدرته فقال: { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى }.
والاستفهام للإِنكار كما قال فى قوله - تعالى - قبل ذلك:
{ أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } و "سُدَى" - بضم السين مع القصر - بمعنى مهمل. يقال: إبل سُدًى، أى: مهملة ليس لها راع يحميها.. وهو حال من فاعل "يترك".
أى: أيظن هذا الإِنسان الذى أنكر البعث والجزاء، أن نتركه هكذا مهملا، فلا نجازيه على أعماله التى عملها فى الدنيا؟ إن كان يحسب ذلك هفو فى وهم وضلال، لأن حكمتنا قد اقتضت أن نكرم المتقين، وأن تعاقب المكذبين.
والاستفهام فى قوله: { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ.. } للتقرير، والنطفة: القليل من الماء و { يُمْنَىٰ } يراق هذا المنى فى رحم المرأة.
أى: كيف يحسب هذا الإِنسان أنه سيترك سدى؟ ألم يك فى الأصل قطرة ماء تصب من الرجل فى رحم المرأة وتراق فيه؟ بل إنه كان كذلك.
ثم { كَانَ } بعد ذلك { عَلَقَةً } أى: قطعة دم متجمد { فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ } أى: فخلقه الله - تعالى - خلقا آخر بقدرته، وسواه فى أحسن تقويم، كما قال:
{ لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ.. } وجملة { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ } بمثابة النتيجة بعد المقدمات والأدلة.
أى: أليس ذلك الرب العظيم الشأن والقدرة، الذى أحسن كل شئ خلقه: والذى خلق الإِنسان فى تلك الأطوار المتعددة.. أليس ذلك الإِله صاحب الخلق والأمر.
{ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ } وعلى أن يعيدهم إلى الحياة مرة أخرى، ليجازى الذين أساءوا بما عملوا، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى؟ بلَى إنه لقادر على ذلك قدرة تامة.
وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث منها: أن رجلا كان إذا قرأ هذه الآية قال: سبحانك اللهم وبلَى. فسئل عن ذلك فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.