التفاسير

< >
عرض

لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ
١
وَلاَ أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ
٢
أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ
٣
بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ
٤
بَلْ يُرِيدُ ٱلإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ
٥
يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلْقِيَامَةِ
٦
فَإِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ
٧
وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ
٨
وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ
٩
يَقُولُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ
١٠
كَلاَّ لاَ وَزَرَ
١١
إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمُسْتَقَرُّ
١٢
يُنَبَّأُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ
١٣
بَلِ ٱلإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
١٤
وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ
١٥
لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
١٦
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
١٧
فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَٱتَّبِعْ قُرْآنَهُ
١٨
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ
١٩
-القيامة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

افتتح الله - تعالى - هذه السورة الكريمة بقوله - تعالى -: { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ }.
وللعلماء فى مثل هذا التركيب أقوال منها: أن حرف "لا" هنا جئ به، لقصد المبالغة فى تأكيد القسم، كما فى قولهم: لا والله.
قال الآلوسى: إدخال "لا" النافية صورة على فعل القسم، مستفيض فى كلامهم وأشعارهم.
ومنه قول امرئ القيس: لا وأبيك يا بنة العامرى.. يعنى: وأبيك.
ثم قال: وملخص ما ذهب إليه جار الله فى ذلك، أن "لا" هذه، إذا وقعت فى خلال الكلام كقوله - تعالى -
{ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } فهى صلة تزاد لتأكيد القسم، مثلها فى قوله - تعالى -: { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ } لتأكيد العلم..
ومنها: أن "لا" هنا، جئ بها لنفى ورد كلام المشركين المنكرين ليوم القيامة، فكأنه - تعالى - يقول: لا، ليس الأمر كما زعموا، ثم قال: أقسم بيوم القيامة الذى يبعث فيه الخلق للجزاء.
قال القرطبى: وذلك كقولهم: لا والله لا أفعل. فلا هنا رد لكلام قد مضى، وذلك كقولك: لا والله إن القيامة لحق، كأنك أكذبت قوما أنكروها..
ومنها: أن "لا" فى هذا التركيب وأمثاله على حقيقتها للنفى، والمعنى لا أقسم بيوم القيامة ولا بغيره، على أن البعث حق، فإن المسألة أوضح من أن تحتاج إلى قسم.
وقد رجح بعض العلماء القول الأول فقال: وصيغة لا أقسم، صيغة قسم، أدخل حرف النفى على فعل "أقسم" لقصد المبالغة فى تحقيق حرمة المقسم به، بحيث يوهم للسامع أن المتكلم يهم أن يقسم به، ثم يترك القسم مخافة الحنث بالمقسم به فيقول: لا أقسم به، أى: ولا أقسم بأعز منه عندى. وذلك كناية عن تأكيد القسم.
والمراد بالنفس اللوامة: النفس التقية المستقيمة التى تلوم ذاتها على ما فات منها، فهى - مهما أكثرت من فعل الخير - تتمنى أن لو ازدادت من ذلك، ومهما قللت من فعل الشر، تمنت - أيضا - أن لو ازدادت من هذا التقليل.
قال ابن كثير: عن الحسن البصرى فى هذه الآية: إن المؤمن والله ما نراه إلا يلوم نفسه، يقول: ما أردت بكلمتى؟ ما أردت بأكلتى؟.. وإن الفاجر يمضى قدما ما يعاتب نفسه.
وفى رواية عن الحسن - أيضا - ليس أحد من أهل السموات والأرض إلا يلوم نفسه يوم القيامة.
وجواب القسم يفهم من قوله - تعالى - بعد ذلك: { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ }. والمراد بالإِنسان: جنسه. أو المراد به الكافر المنكر للبعث. والاستفهام للتوبيخ والتقريع.
وقد ذكروا فى سبب نزول هذه الآية أن بعض المشركين قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: يا محمد حدثنى عن يوم القيامة، فأخبره صلى الله عليه وسلم عنه. فقال المشرك: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك - يا محمد - أو يجمع الله العظام. فنزلت هذه الآية.
والمعنى: أقسم بيوم القيامة الذى لا شك فى وقوعه فى الوقت الذى نشاؤه، وأقسم بالنفس اللوامة التقية التى تلوم ذاتها على الخير، لماذا لم تستكثر منه، وعلى الشر لماذا فعلته، لنجمعن عظامكم - أيها الناس - ولنبعثنكم للحساب والجزاء.
وافتتح - سبحانه - السورة الكريمة بهذا القسم، للإِيذان بأن ما سيذكر بعده أمر بهم، من شأن النفوس الواعية أن تستشرف له، وأن تستجيب لما اشتمل عليه من هدايات وإرشادات.
ووصف - سبحانه - النفس باللوامة بصيغة المبالغة للإِشعار بأنها كريمة مستقيمة تكثر من لوم ذاتها، وتحض صاحبها على المسارعة فى فعل الخيرات.
والعظام المراد بها الجسد، وعبر عنه بها، لأنه لا يقوم إلا بها، وللرد على المشركين الذين استبعدوا ذلك، وقالوا - كما حكى القرآن عنهم -:
{ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } وقوله - سبحانه -: { بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } تأكيد لقدرته - تعالى - على إحياء الموتى بعد أن صاروا عظاما نخرة، وإبطال لنفيهم إحياء العظام وهى رميم.
و { قَادِرِينَ } حال من فاعل الفعل المقدر بعد بلى. وقوله: { نُّسَوِّيَ } من التسوية، وهى تقويم الشئ وجعله متقنا مستويا، يقال: سوى فلان الشئ إذا جعله متساويا لا عوج فيه ولا اضطراب.
والبنان: جمع بنانة، وهى أصابع اليدين والرجلين، أو مفاصل تلك الأصابع وأطرافها.
أى: ليس الأمر كما زعم هؤلاء المشركين من أننا لا نعيد الإِنسان إلى الحياة بعد موته للحساب والجزاء، بل الحق أننا سنجمعه وسنعيده إلى الحياة حالة كوننا قادرين قدرة تامة، على هذا الجمع لعظامه وجسده، وعلى جعل أصابعه وأطرافه وأنامله مستوية الخلق، متقنة الصنع، كما كانت قبل الموت.
وخصت البنان بالذكر، لأنها أصغر الأعضاء، وآخر ما يتم به الخلق، فإذا كان - سبحانه - قادرا على تسويتها مع لطافتها ودقتها، فهو على غيرها مما هو أكبر منها أشد قدرة.
وقوله - تعالى - { بَلْ يُرِيدُ ٱلإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } بيان لحال أخرى من أحوال فجور هؤلاء المشركين وطغيانهم، وانتقال من إنكار الحسبان إلى الإِخبار عن حال هذا الإِنسان.
والفجور: يطلق على القول البالغ النهاية فى السوء، وعلى الفعل القبيح المنكر، ويطلق على الكذب، ولذا وصفت اليمين الكاذبة، باليمين الفاجرة فيكون فجر بمعنى كذب، وزنا ومعنى.
ولفظ "الأمام" يطلق على المكان الذى يكون فى مواجهة الإِنسان، والمراد به هنا: الزمان المستقبل وهو يوم القيامة، الذى دل عليه قوله - تعالى - بعد ذلك: { يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلْقِيَامَةِ }.
أى: أن هذا الإِنسان المنكر للبعث والحساب لا يريد أن يكف عن إنكاره وكفره، بل يريد أن يستمر على فجوره وتكذيبه لهذا اليوم بكل إصرار وجحود، فهو يسأل عنه سؤال استهزاء وتهكم فيقول: { أَيَّانَ يَوْمُ ٱلْقِيَامَةِ } أى: متى يجئ يوم القيامة هذا الذى تتحدثون عنه - أيها المؤمنون - وتخشون ما فيه من حساب وجزاء؟
قال القرطبى: قوله - تعالى -: { بَلْ يُرِيدُ ٱلإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } قال ابن عباس: يعنى الكافر. يكذب بما أمامه من البعث والحساب.. ودليله { يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلْقِيَامَةِ }. أى: يسأل متى يكون؟ على وجه التكذيب والإِنكار، فهو لا يقنع بما هو فيه من التكذيب. ولكن يأثم لما بين يديه. ومما يدل أن الفجور: التكذيب، ما ذكره القتبى وغيره، من أن أعرابيا قصد عمر بن الخطاب، وشكى إليه نَقْبَ إبله ودَبَرها - أى: مرضها وجربها - وسأله أن يحمله على غيرها فلم يحمله. فقال الأعرابى:

أقسم بالله أبو حفص عمرما مسها من نقب ولا دبر
فاغفر له اللهم إن كان فجر

يعنى: إن كان كذبنى فيما ذكرت..
وأعيد لفظ الإِنسان فى هذه الآيات أكثر من مرة، لأن المقام يقتضى توبيخه وتقريعه، وتسجيل الظلم والجحود عليه.
والضمير فى "أمامه" يجوز أن يعود إلى يوم القيامة. أى: بل يريد الإِنسان ليكذب بيوم القيامة، الثابت الوقوع فى الوقت الذى يشاؤه الله - عز وجل -.
ويجوز أن يعود على الإِنسان، فيكون المعنى: بل يريد الإِنسان أن يستمر فى فجوره وتكذيبه بيوم القيامة فى الحال وفى المآل. أى: أن المراد بأمامه: مستقبل أيامه.
وجئ بلفظ "أيان" الدال على الاستفهام للزمان البعيد، للإِشعار بشدة تكذيبهم، وإصرارهم على عدم وقوعه فى أى وقت من الأوقات.
ثم ساق - سبحانه - جانبا من أهوال يوم القيامة، على سبيل التهديد والوعيد لهؤلاء المكذبين.
فقال: { فَإِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ. وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ. وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ. يَقُولُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ }.
و "برق" - بكسر الراء وفتحها - دهش وفزع وتحير ولمع من شدة شخوصه وخوفه.
يقال: برق بصر فلان - كفرح ونصر - إذا نظر إلى البرق فدهش وتحير.
والمراد بخسوف القمر: انطماس نوره، واختفاء ضوئه.
والمراد بجمع الشمس والقمر: اقترانهما ببعضهما بعد افتراقهما واختلال النظام المعهود للكون، اختلالا تتغير معه معالمه ونظمه. وجواب { إذا } قوله: { يَقُولُ ٱلإِنسَانُ } أى: فإذا برق بصر الإِنسان وتحير من شدة الفزع والخوف، بعد أن رأى ما كان يكذب به فى الدنيا.
والتعريف فى البصر: للاسغراق: إذ أبصار الناس جميعا فى هذا اليوم، تكون فى حالة فزع، إلا أن هذا الفزع يتفاوت بينهم فى شدته.
{ وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ }أى: ذهب ضوؤه. وانطمس نوره.
{ وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ } أى: وقرن بينهما بعد أن كانا متفرقين.
والتصقا بعد أن كانا متباعدين، وغاب ضوؤهما بعد أن كانا منيرين.
{ يَقُولُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ } أى: فإذا ما تم كل ذلك، يقول الإِنسان فى هذا الوقت الذى يبرق فيه البصر، ويخسف فيه القمر، ويجمع فيه بين الشمس والقمر: أين المفر. أى: أين الفرار من قضاء الله - تعالى - ومن قدره وحسابه. فالمفر مصدر بمعنى الفرار.. والاستفهام بمعنى التمنى أى: ليت لى مكانا أفر إليه مما أراه.
وقوله - سبحانه -: { كَلاَّ لاَ وَزَرَ. إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمُسْتَقَرُّ } إبطال لهذا التمنى، ونفى لأن يكون لهذا الإِنسان مهرب من الحساب.
والوزر: المراد به الملجأ والمكان الذى يحتمى به الشخص للتوقى مما يخافه، وأصله، الجبل المرتفع المنيع، من الوِزْر وهو الثقل.
أى: كلا لا وزر ولا ملجأ لك. أيها الإِنسان - من المثول أمام ربك فى هذا اليوم للحساب والجزاء.
ومهما طال عمرك، وطال رقادك فى قبرك.. فإلى ربك وحده نهايتك ومستقرك ومصيرك، فى هذا اليوم الذى لا محيص لك عنه.
وقوله - سبحانه - { يُنَبَّأُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } بيان لما يحدث له يوم القيامة، أى: يخبر الإِنسان فى هذا اليوم بما قدم من أعمال حسنة. وبما أخر منها فلم يعملها، مع أنه كان فى إمكانه أن يعملها، والمقصود بالآية المجازاة على الأعمال لا مجرد الإِخبار.
قال الإِمام ابن كثير: قوله - تعالى -: { يُنَبَّأُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } أى: يخبر بجميع أعماله قديمها وحديثها أولها وآخرها، صغيرها وكبيرها، كما قال - سبحانه -:
{ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } ثم أكد - سبحانه - هذا المعنى بقوله: { بَلِ ٱلإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ. وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ }.
والبصيرة هنا بمعنى الحجة الشاهدة عليه، وهى خبر عن المبتدأ وهو { ٱلإِنسَانُ } والجار والمجرور متعلق بلفظ بصيرة والهاء فيها للمبالغة، مثل هاء علامة ونسابة.
أى: بل الإِنسان حجة بينة على نفسه، وشاهدة بما كان منه من الأعمال السيئة، ولو أدلى بأية حجة يعتذر بها عن نفسه. لم ينفعه ذلك.
قال صاحب الكشاف: { بَصِيرَةٌ } أى: حجة بينة، وصفت بالبصارة على المجاز، كما وصفت الآيات بالإِبصار فى قوله:
{ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً } أو: عين بصيرة والمعنى أنه ينبأ بأعماله، وإن لم ينبأ ففيه ما يجزئ عن الإِنباء، لأنه شاهد عليها بما عملت، لأن جوارحه تنطق بذلك، كما قال - تعالى - { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } { وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ } أى: ولو جاء بكل معذرة يعتذر بها عن نفسه ويجادل عنها.
وعن الضحاك: ولو أرخى ستوره، وقال: المعاذير: الستور، واحدها معذار، فإن صح فلأنه يمنع رؤية المحتجب، كما تمنع المعذرة عقوبة المذنب.
فإن قلت: أليس قياس المعذرة أن تجمع معاذر لا معاذير؟ قلت: المعاذير ليس بجمع معذرة، إنما هو اسم جمع لها. ونحوه: المناكير فى المنكر.
فالمقصود بهاتين الآيتين: بيان أن الإِنسان لن يستطيع أن يهرب من نتائج عمله مهما حاول ذلك، لأن جوارحه شاهدة عليه، ولأن أعذاره لن تكون مقبولة، لأنها جاءت فى غير وقتها، كما قال - تعالى -: { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ ٱلظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ ٱلْلَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوۤءُ ٱلدَّارِ }.
ثم أرشد الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم إلى ما يجب عليه عند تبليغ القرآن إليه عن طريق الوحى. فقال - سبحانه -: { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَٱتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ }.
والضمير فى { به } يعود إلى القرآن الكريم المفهوم من المقام. والمراد بقوله: { لاَ تُحَرِّكْ } نهيه صلى الله عليه وسلم عن التعجيل فى القراءة.
والمقصود بقوله: قرآنه، قراءته عليك، وتثبيته على لسانك وفى قلبك بحيث تقرؤه متى شئت فهو مصدر مضاف لمفعوله.
قال الآلوسى: قوله: { وَقُرْآنَهُ } أى: إثبات قراءته فى لسانك، فالقرآن هنا، وكذا فيما بعده، مصدر كالرجحان بمعنى القراءة.. مضاف إلى المفعول وقيل: قرآنه، أى: تأليفه على لسانك..
أى: لا تتعجل - أيها الرسول الكريم - بقراءة القرآن الكريم عندما تسمعه من أمين وحينا جبريل - عليه السلام -، بل تريث وتمهل حتى ينتهى من قراءته ثم اقرأ من بعده، فإننا قد تكفلنا بجمعه فى صدرك وبقراءته عليك عن طريق وحينا، وما دام الأمر كذلك، فمتى قرأ عليك جبريل القرآن فاتبع قراءته ولا تسبقه بها، ثم إن علينا بعد ذلك بيان ما خفى عليك منه، وتوضيح ما أشكل عليك من معانيه.
قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه: هذا تعليم من الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم فى كيفية تلقيه الوحى من الملك، فإنه كان يبادر إلى أخذه، ويسابق الملك فى قراءته.
روى الشيخان وغيرهما عن ابن عباس قال كان النبى صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، فكان يحرك شفتيه - يريد أن يحفظه مخافة أن يتفلت منه شئ، أو من شدة رغبته فى حفظه - فأنزل الله - تعالى - هذه الآيات.
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد ضمن لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يجمع له القرآن فى صدره وأن يجريه على لسانه، بدون أى تحريف أو تبديل، وأن يوضح له ما خفى عليه منه.
قالوا: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ما نزل عليه الوحى بعد ذلك بالقرآن، أطرق وأنصت، وشبيه بهذه الآيات قوله - سبحانه -:
{ فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ وَلاَ تَعْجَلْ بِٱلْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } ثم عادت السورة الكريمة مرة أخرى إلى الحديث عن يوم القيامة، وعن أحوال الناس فيه، وعن حالة الإِنسان فى وقت الاحتضار، وعن مظاهر قدرته - تعالى - وعن حكمته فى البعث والحساب والجزاء، فقال - سبحانه - :
{ كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ... }..