التفاسير

< >
عرض

هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً
١
إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً
٢
إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً
٣
-الإنسان

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

الاستفهام فى قوله - تعالى -: { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ.. } للتقرير. والمراد بالإِنسان: جنسه، فيشمل جميع بنى آدم، والحين: المقدار المجمل من الزمان، لأحد لأكثره ولا لأقله. والدهر: الزمان الطويل غير المحدد بوقت معين.
والمعنى: لقد أتى على الإِنسان { حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ } أى: وقت غير محدد من الزمان الطويل الممتد فى هذه الحياة الدنيا.
{ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } أى: لم يكن هذا الإِنسان فى ذلك الحين من الدهر، شيئا مذكورا من بين أفراد جنسه، وإنما كان شيئا غير موجود إلا فى علم الله - تعالى -.
ثم أوجده - سبحانه - بعد ذلك من نطفة فعلقة فمضغة.. ثم أنشأه - سبحانه - بعد ذلك خلقا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين.
فالمقصود بهذه الآية الكريمة بيان مظهر من مظاهر قدرته - عز وجل - حيث أوجد الإِنسان من العدم، ومن كان قادرا على ذلك، كان - من باب أول - قادرا على إعادته إلى الحياة بعد موته، للحساب والجزاء.
قال الإِمام الفخر الرازى ما ملخصه: اتفقوا على أن "هل" هاهنا، وفى قوله - تعالى -:
{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْغَاشِيَةِ } بمعنى قد، كما تقول: هل رأيت صنيع فلان، وقد علمت أنه قد رآه. وتقول: هل وعظتك وهل أعطيتك، ومقصودك أن تقرره بأنك قد أعطيته ووعظته.
والدليل على أن "هل" هنا ليست للاستفهام الحقيقى.. أنه محال على الله - تعالى - فلابد من حمله على الخبر.
وجاءت الآية الكريمة بأسلوب الاستفهام، لما فيه من التشويق إلى معرفة ما سيأتى بعده من كلام.
وجملة { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } فى وضع نصب على الحال من الإِنسان، والعائد محذوف. أى: حالة كون هذا الإِنسان، لم يكن فى ذلك الحين من الدهر، شيئا مذكورا من بين أفراد جنسه. وإنما كان نسيا منسيا، لا يعلم بوجوده أحد سوى خالقه - عز وجل -.
ثم فصل - سبحانه - بعد هذا التشويق، أطوار خلق الإِنسان فقال: { إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ } والمراد بالإِنسان هنا - أيضا - جنسه وجميع أفراده.
و "أمشاج" بمعنى أخلاط من عناصر شتى، مشتق من المشج بمعنى الخلط، يقال: مشج فلان بين كذا وكذا - من باب ضرب - إذا خلط ومزج بينهما، وهو جمع مشَج - كسبب، أو مَشِج - ككتف، أو مشيج - كنصير.
قال الجمل: "أمشاج" نعت لنطفة. ووقع الجمع صفة لمفرد، لأنه فى معنى الجمع، أو جعل كل جزء من النطفة نطفة، فاعتبر ذلك فوصف بالجمع..
ويرى صاحب الكشاف ان لفظ "أمشاج" مفرد جاء على صيغة أفعال، كلفظ أعشار فى قولهم: برمة أعشار، أى: برمة متكسرة قطعا قطعا، وعليه يكون المفرد قد نعت بلفظ مفرد مثله. فقد قال -رحمه الله - : { مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } كبرمة أعشار.. وهى ألفاظ مفردة غير جموع.
ولذلك وقعت صفات للأفراد، والمعنى: من نطفة قد امتزج فيها الماءان..
وجملة "نبتليه" حال من الإِنسان. أو من فاعل "خلقنا".
أى: إنا خلقنا الإِنسان بقدرتنا وحدها. "من نطفة" أى: من مَنِىٍّ، وهو ماء الرجل وماء المرأة، "أمشاج" أى: ممتزج أحدهما بالآخر امتزاجا تاما.
أو خلقناه من نطفة مختلطة بعناصر متعددة، تتكون منها حياة الإِنسان بقدرتنا وحمكتنا.
وخلقناه كلذلك حالة كوننا مريدين ابتلاءه واختباره بالتكاليف، فى مستقبل حياته حين يكون أهلا لهذه التكاليف.
{ فَجَعَلْنَاهُ } بسبب إرادتنا ابتلاءه واختباره بالتكاليف عند بلوغه سن الرشد { سَمِيعاً بَصِيراً } أى: فجعلناه بسبب هذا الابتلاء والاختبار والتكاليف مزودا بوسائل الإِدراك، التى بواسطتها يسمع الحق ويبصره ويستجيب له ويدرك الحقائق والآيات الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا وصدق رسلنا.. إدراكا سليما، متى اتبع فطرته، وخالف وساوس الشيطان وخطواته.
وخص - سبحانه - السمع والبصر بالذكر، لأنهما أنفع الحواس للإِنسان، إذ عن طريق السمع يتلقى دعوة الحق وما اشتملت عليه من هدايات، وعن طريق البصر ينظر فى الأدلة المتنوعة الكثيرة التى تدل على وحدانية الله - تعالى - وعلى صدق أنبيائه فيما جاءوا به من عند ربهم.
وقوله - سبحانه - { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ } تعليل لقوله: { نَّبْتَلِيهِ }، وتفصيل لقوله - تعالى - { فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً }، والمراد بالهداية هنا: الدلالة إلى طريق الحق، والإِرشاد إلى الصراط المستقيم.
أى: إنا بفضلنا وإحساننا - قد أرشدنا الإِنسان إلى ما يوصله إلى طريق الحق والصواب، وأرشدناه إلى ما يسعده، عن طريق إرسال الرسل وتزويده بالعقل المستعد للتفكر والتدبر فى آياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا.
وقوله: { إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } حالان من ضمير الغيبة فى "هديناه" وهو ضمير الإِنسان.
و "إما" للتفصيل باعتبار تعدد الأحوال مع اتحاد الذات: أو للتقسيم للمهدى بحسب اختلاف الذوات والصفات.
أى: إنا هديناه ودللناه على ما يوصله إلى الصراط المستقيم، فى حالتى شكره وكفره، لأنه إن أخذ بهدايتنا كان شاكرا، وإن أعرض عنها كان جاحدا وكافرا لنعمنا، فالهداية موجودة فى كل الأحوال، إلا أن المنتفعين بها هم الشاكرون وحدهم.
ومثل ذلك كمثل رجلين، يرشدهما مرشد إلى طريق النجاة، فأحدهما يسير فى هذا الطريق فينجو من العثرات والمتاعب والمخاطر.. والآخر يعرض عن ذلك فيهلك.
ولما كان الشكر قل من يتصف به، كما قال - سبحانه -:
{ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } جاء التعبير بقوله - سبحانه - { شَاكِراً } بصيغة اسم الفاعل. ولما كان الجحود والكفر يعم أكثر الناس، جاء التعبير بقوله - تعالى - { كَفُوراً } بصيغة المبالغة.
والمقصود من الآية الكريمة: قفل الباب أمام الذين يفسقون عن أمر ربهم، ويرتكبون ما يرتكبون من السيئات.. ثم بعد ذلك يعلقون أفعالهم هذه على قضاء الله وقدره، ويقولون - كما حكى القرآن عن المشركين -:
{ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ } ثم بين - سبحانه - بعد هذه الهداية، ما أعده لفريق الكافرين، وما أعده لفريق الشاكرين، فقال - تعالى -:
{ إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ... }.