التفاسير

< >
عرض

وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً
١
فَٱلْعَاصِفَاتِ عَصْفاً
٢
وٱلنَّاشِرَاتِ نَشْراً
٣
فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً
٤
فَٱلْمُلْقِيَٰتِ ذِكْراً
٥
عُذْراً أَوْ نُذْراً
٦
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَٰقِعٌ
٧
فَإِذَا ٱلنُّجُومُ طُمِسَتْ
٨
وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ فُرِجَتْ
٩
وَإِذَا ٱلْجِبَالُ نُسِفَتْ
١٠
وَإِذَا ٱلرُّسُلُ أُقِّتَتْ
١١
لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ
١٢
لِيَوْمِ ٱلْفَصْلِ
١٣
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ
١٤
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
١٥
-المرسلات

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

للمفسرين فى معنى هذه الصفات الخمس: "المرسلات والعاصفات والناشرات والفارقات والملقيات" اتجاهات، فمنهم من صدر تفسيره ببيان أن المراد بها الملائكة. فقد قال صاحب الكشاف: أقسم الله بطوائف من الملائكة، أرسلهن بأوامره فعصفن فى مضيهن كما تعصف الرياح، تخففا فى امتثال أمره. وبطوائف منهن نشرن أجنحتهن فى الجو عند انحطاطهن بالوحى، أو نشرن الشرائع فى الأرض.. ففرقن بين الحق والباطل، فألقين ذكرا إلى الأنبياء عذرا، للمحقين، أو نذرا للمبطلين.
فإن قلت: ما معنى عرفا؟ قلت: متتابعة كشعر العُرْفِ - أى: عرف الفرس - يقال: جاءوا عرفا واحدا، وهم عليه كعرف الضبع: إذا تألبوا عليه..
ومنهم من يرى أن المراد بالمرسلات وما بعدها: الرياح، فقد قال الجمل فى حاشيته: أقسم الله - تعالى - بصفات خمس موصوفها محذوف، فجعلها بعضهم الرياح فى الكل، وجعلها بعضهم الملائكة فى الكل.. وغاير بعضهم فجعل الصفات الثلاث الأول، لموصوف واحد هو الرياح وجعل الرابعة لموصوف ثان وهو الآيات، وجعل الخامسة لموصوف ثالث وهو الملائكة..
وسنسير نحن على هذا الرأى الثالث، لأنه هو تصورنا أقرب الآراء إلى الصواب، إذ أن هذه الصفات من المناسب أن يكون بعضها للرياح، وبعضها للملائكة.
فيكون المعنى: وحق الرياح المرسلات لعذاب المكذبين، فتعصفهم عصفا، وتهلكهم إهلاكا شديدا، فقوله: { عَصْفاً } وصف مؤكد للإِهلاك الشديد، يقال: عصفت الريح، إذا اشتدت، وعصفت الحرب بالقوم، إذا ذهبت بهم، وناقة عصوف، إذا مضت براكبها مسرعة، حتى لكأنها الريح.
وقوله: { وٱلنَّاشِرَاتِ نَشْراً } أى: وحق الرياح التى تنتشر انتشارا عظيما فى الآفاق، فتأتى بالسحب، التى تتحول بقدرة الله - تعالى - إلى أمطار غزيرة نافعة.
قال ابن كثير - بعد أن ذكر آراء العلماء فى معنى هذه الألفاظ - : والأظهر أن المرسلات هى الرياح، كما قال - تعالى -:
{ وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ... } وقال - سبحانه -: { وَهُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } وهكذا العاصفات هى الرياح، يقال: عصفت الريح إذا هبت بتصويت، وكذا { وٱلنَّاشِرَاتِ }: هى الرياح التى تنشر السحاب فى آفاق السماء كما يشاء الرب - عز وجل -.
وقوله - سبحانه - { فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً } يصح أن يكون وصفا للملائكة الذين ينزلون بالشرائع المفرقة بين الحق والباطل، وبين أهل الحق وأهل الضلال.
ويصح أن يكون وصفا للآيات التى أنزلها الله - تعالى - للتمييز بين الخير والشر، والرشد والغى.
وقوله { فَٱلْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً } قال القرطبى: هم الملائكة بإجماع، يلقون كتب الله - تعالى - إلى الأنبياء - عليهم السلام -.
فالمراد بالذكر فى قوله { فَٱلْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً }: وحى الله - تعالى - الذى يبلغه الملائكة إلى الرسل.
وقوله { عُذْراً أَوْ نُذْراً } منصوبان على أنهما بدل اشتمال من قوله { ذكرا } أو مفعول لأجله. أى: أن الملائكة يلقون وحى الله - تعالى - إلى أنبيائه، لإِزالة أعذار المعتذرين عن الإِيمان، حتى لا يقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير، ولإِنذار الكافرين والفاسقين، حتى يقلعوا عن كفرهم وفسوقهم.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -
{ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ } قال صاحب الكشاف: فإن قلت ما العذر والنذر، وبماذا انتصبا؟ قلت: هما مصدران من أعذر إذا محا الإِساءة، ومن أنذر إذا خوف على فعل كالكفر والنكر، ويجوز أن يكون جمع عذير، بمعنى المعذرة، وجمع نذير بمعنى الإِنذار.. وأما انتصابهما فعلى البدل من ذكرا.. أو على المفعول له..
وجملة
{ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ } جواب القسم، وجئ بها مؤكدة، لتقوية تحقيق وقوع الجواب، وما وعدوا به هو البعث والحساب.
أى: وحق الرياح المرسلة لعذاب المشركين.. وحق الملائكة الذين نرسلهم بوحينا للتفريق بين الحق والباطل، ولتبليغ رسلنا ما كلفناهم به.. إنكم - أيها الكافرون - لمبعوثون ومحاسبون على أعمالكم يوم القيامة الذى لا شك فى وقوعه وحصوله وثبوته.
ثم بين - سبحانه - علامات هذا اليوم فقال: { فَإِذَا ٱلنُّجُومُ طُمِسَتْ } أى: محقت وذهب ضوؤها، وزال نورها. يقال: طمست الشئ، من باب ضرب - إذا محوته واستأصلت أثره، { وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ فُرِجَتْ } أى: شقت أو فتحت، وتدلت أرجاؤها، ووهت أطرافها. { وَإِذَا ٱلْجِبَالُ نُسِفَتْ } أى: اقتلعت وأزيلت من أماكنها. يقال: نسف فلان البناء ينسفه، إذا قلعه من أصله.
{ وَإِذَا ٱلرُّسُلُ أُقِّتَتْ } أى: بلغت وقتها الذى كانت تنتظره، وهو يوم القيامة، للقضاء بينهم وبين أقوامهم. فقوله: { أُقِّتَتْ } من التوقيت، وهو جعل الشئ منتهيا إلى وقته المحدد له.
قال الآلوسى: قوله { وَإِذَا ٱلرُّسُلُ أُقِّتَتْ } أى: بلغت ميقاتها. وجوز أن يكون المعنى: عين لها الوقت الذى تحضر فيه للشهادة على الأمم، وذلك عند مجئ يوم القيامة..
وجواب { إذا } وما عطف عليها فى قوله { فَإِذَا ٱلنُّجُومُ طُمِسَتْ } محذوف، والتقدير: وقع ما وعدناكم به وهو يوم القيامة.
وقوله: { لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ. لِيَوْمِ ٱلْفَصْلِ. وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } تعليل لبلوغ الرسل إلى الوقت الذى كانوا ينتظرونه لأخذ حقوقهم من أقوامهم الظالمين، والاستفهام للتهويل والتعظيم من شأن هذا اليوم.
أى: لأى يوم أخرت الأمور التى كانت متعلقة بالرسل؟ من تعذيب الكافرين، وإثابة المتقين.. إنها أخرت وأجلت، ليوم الفصل، وهو يوم القيامة، الذى يفصل الله - تعالى - فيه بقضائه العادل بين العباد.
{ وَمَآ أَدْرَاكَ }، - أيها المخاطب - { مَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ }؟ إنه يوم هائل شديد، لا تحيط العبارة بكنهه، ولا يعلم إلا الله - تعالى - وحده مقدار أهواله.
ويقال فى هذا اليوم لكل فاسق عن أمر ربه، ومشرك معه فى العبادة غيره، { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } أى: هلاك وحسرة فى هذا اليوم للمكذبين بالحق الذى جاء به الرسل، وبلغوه إلى أقوامهم.
وقد تكررت هذه الآية عشر مرات فى تلك السورة الكريمة، على سبيل الوعيد والتهديد لهؤلاء المكذبين لرسلهم، والجاحدين لنعم خالقهم، والويل: أشد السوء والشر، وهو فى الأصل مصدر بمعنى الهلاك، وكان حقه النصب بفعل من لفظه أو معناه، إلا أنه رفع على الابتداء، للدلالة على ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه.
وقوله { يَوْمَئِذٍ } ظرف للويل أو صفة له، ولذا صح الابتداء به.
ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك ألوانا من الأدلة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته، كإهلاك المكذبين السابقين، وخلق الأولين والآخرين، والإِنعام على الناس بالجبال والأنهار.. قال - تعالى - :
{ أَلَمْ نُهْلِكِ... }.