التفاسير

< >
عرض

يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ قُلِ ٱلأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
١
إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَٰناً وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
٢
ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
٣
أُوْلۤـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
٤
-الأنفال

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

لعل من الخير قبل أن نتكلم فى تفسير هذه الآيات الكريمة أن نذكر بعض الروايات التى وردت فى سبب نزولها. فإن معرفة سبب النزول يعين على الفهم السليم.
قال الإِمام ابن كثير - ما ملخصه - روى الإِمام أحمد بن عبادة بن الصامت قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشهدت معه بدرا فالتقى الناس. فهزم الله - تعالى - العدو، فانطلقت طائفة فى آثارهم يهزمون ويقتلون. وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه. وأحدقت طائفة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكى لا يصيب العدو منه غرة. حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها، فليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا فى طلب العدو: لستم بأحق بها منا، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم. وقال الذين أحدقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لستم بأحق بها منا. نحن أحدقنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخافة أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به - فنزلت: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ قُلِ ٱلأَنفَالُ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ }.. فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المسلمين.
وروى أبو داود والنسائى وابن جرير وابن مردويه - واللفظ له - عن ابن عباس قال:
"لما كان يوم بدر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا، فتسارع فى ذلك شبان القوم، وبقى الشيوخ تحت الرايات. فلما كانت المغانم جاءوا يطلبون الذى جعل لهم. فقال الشيوخ: لا تستأثروا علينا فإنا كنا ردءاً لكم، لو انكشفتم لثبتم إلينا. فتنازعوا، فأنزل الله - تعالى -: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ قُلِ ٱلأَنفَالُ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ }" .
وقال الثورى، عن الكلبى، عن أبى صالح عن ابن عباس قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل قتيلا فله كذا وكذا، ومن أتى بأسير فله كذا وكذا، فجاء أبو اليسر بأسيرين، فقال: يا رسول الله صلى الله عليك - أنت وعدتنا. فقام سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله، إنك لو أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شئ، وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة فى الأجر ولا جبن عن العدو، وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك مخافة أن يأتوك من ورائك. فتشاجروا، ونزل القرآن: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ قُلِ ٱلأَنفَالُ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ }" .
وقال الإِمام أحمد: حدثنا محمد بن سلمة عن ابن إسحاق، عن عبد الرحمن عن سليمان بن موسى عن مكحول عن أبى أمامة قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال: فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا فى النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا وجعله إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقسمه بين المسلمين عن بواء - أى: على السواء.
هذه بعض الروايات التى وردت فى سبب نزول هذه الآيات، ومنها يتبين لنا أن نزاعاً حدث بين بعض الصحابة الذين اشتركوا فى غزوة بدر، حول الغنائم التى ظفروا بها من هذه الغزوة، فأنزل الله - تعالى - فى هذه الآيات بيان حكمه فيها.
والضمير فى قوله { يَسْأَلُونَكَ } يعود إلى بعض الصحابة الذين اشتركوا فى غزوة بدر، وصح عود الضمير إليهم مع أنهم لم يسبق لهم ذكر، لأن السورة نزلت فى هذه الغزوة، ولأن هؤلاء الذين اشتركوا فيها هم الذين يهمهم حكمها، ويعنيهم العلم بكيفية قسمتها.
قال الإِمام الرازى - ما ملخصه -: فإن قيل من هم الذين سألوا؟ فالجواب: إن قوله { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ } إخبار عمن لم يسبق ذكرهم، وحسن ذلك ههنا، لأنه فى حالة النزول كان السائل عن هذا السؤال معلوماً فانصرف اللفظ إليهم. ولا شك أنهم كانوا أقواماً لهم تعلق بالغنائم والأنفال، وهم أقوام من الصحابة اشتركوا فى غزوة بدر.
والأنفال جمع نفل - بفتح النون والفاء - كسبب وأسباب - وهو فى أصل اللغة من النفل - بفتح فسكون - أى: الزيادة، ولذا قيل للتطوع نافلة، لأنه زيادة عن الأصل وهو الفرض وقيل لولد الولد نافلة، لأنه زيادة على الولد. قال - تعالى -:
{ { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } }. قال الآلوسى: ثم صار النفل حقيقة فى العطية، لأنها لكونها تبرعاً غير لازم كان زيادة، ويسمى به الغنيمة أيضا وما يشترطه الإِمام للغازى زيادة على سهمه لرأى يراه سواء أكان لشخص معين أو لغير معين، وجعلوا من ذلك ما يزيده الإِمام لمن صدر منه أثر محمود فى الحرب كبراز وحسن إقدام، وغيرهما.
وإطلاقه على الغنيمة، باعتبار أنها زيادة على ما شرع الجهاد له وهو إعلاء كلمة الله، أو باعتبار أنها زيادة خص الله بها هذه الأمة، أو باعتبار أنها منحة من الله - تعالى - من غير وجوب.
ثم قال: ومن الناس من فرق بين الغنيمة والنفل بالعموم والخصوص. فقيل: الغنيمة ما حصل مستغنماً سواء أكان بتعب أو بغير تعب، قبل الظفر أو بعده، والنفل ما كان قبل الظفر، أو ما كان بغير قتال وهو "الفئ".
والمراد بالأنفال هنا الغنائم كما روى عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، وطائفة من الصحابة وغيرهم.
هذا، وجمهور العلماء على أن المقصود من سؤال بعض الصحابة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأنفال - أى الغنائم - إنما هو حكمها وعن المستحق لها، فيكون المعنى:
يسألك بعض أصحابك يا محمد عن غنائم بدر كيف تقسم؟ ومن المستحق لها؟ قل لهم: الأنفال لله يحكم فيها بحكمه - سبحانه - وللرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو الذى يقسمها على حسب حكم الله وأمره فيها.
وفى هذه الإِجابة على سؤالهم تربية حكيمة لهم - وهم فى أول لقاء لهم مع أعداءهم حتى يجعلوا جهادهم من أجل إعلاء كلمة الله. أما الغنائم والأسلاب وأعراض الدنيا التى تأتيهم من وراء جهادهم فعليهم ألا يجعلوها ضمن غايتهم السامية من جهادهم، وأن يفوضوا الأمر فيها لله ورسوله عن إذعان وتسليم.
وبعض العلماء يرى أن السؤال للاستعطاء، وأن المراد بالأنفال ما شرط للغازى زيادة على سهمه، وأن حرف "عن" زائد، أو هو بمعنى من، فيكون المعنى: يسألك بعض أصحابك يا محمد إعطاءهم الأنفال التى وعدتهم بها زيادة على سهامهم فيها. قل لهم: الأنفال لله ولرسوله.
والذى نراه أن الرأى الأول أرجح وذلك لأمور منها:
1- بعض الروايات التى وردت فى أسباب نزول هذه الآية تؤيده تأييداً صريحاً، ومن ذلك ما سبق أن ذكرناه عن عبادة بن الصامت أنه قال: "فينا معشر أصحاب بدر نزلت، حين اختلفنا فى النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا. فجعله إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم فقسمه بين المسلمين عن بواء".
2- ولأن غزوة بدر كانت أول غزوة لها شأنها وأثرها بين المسلمين والكافرين، وكانت غنائمها الضخمة التى ظفر بها المؤمنون من المشركين، حافزاً لسؤال بعض المؤمنين رسولهم - صلى الله عليه وسلم -عن حكمها وعن المستحق لها.
3- ولأن الجواب عن السؤال بقوله - تعالى -: { قُلِ ٱلأَنفَالُ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ } يؤيد أن السؤال إنما هو عن حكم الأنفال وعن مصرفها، إذ أن هذا الجواب يفيد أن اختصاص أمرها وحكمها مرجعه إلى الله ورسوله دون تدخل أحد سواهما.
ولو كان السؤال للاستعطاء لما كان هذا جواباً له، فإن اختصاص حكم ما شرط لهم بالله والرسول لا ينافى إعطاءه إياهم بل يحققه، لأنهم إنما يسألونه بموجب شرطه لهم الصادر عنه بإذن الله - تعالى - لا بحكم سبق أيديهم إليه أو نحو ذلك مما يخل بالاختصاص المذكور".
4- ولأن قوله - تعالى - بعد ذلك { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ.. } إلخ يؤيد أن السؤال عن حكم الأنفال ومصرفها بعد أن تنازعوا فى شأنها، فهو - سبحانه - ينهاهم عن هذا التنازع، ويأمرهم بأن يصونوا أنفسهم عن كل ما يغضب الله... ولو كان السؤال للاستعطاء - بناء على ما شرطه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لبعضهم زيادة على سهامهم - لما كان هناك محذور يجب اتقاؤه، لأنهم لم يطلبوا من الرسول إلا ما وعدهم به وهذا لا محظور فيه.
5- ولأن الآية الكريمة بمنطوقها الواضح، وبتركيبها البليغ، وبتوجيهها السامى، تفيد أن السؤال إنما هو عن حكم الأنفال وعن المستحق لها.. أما القول بأن السؤال سؤال استعطاء وأن عن زائدة أو بمعنى من فهو تكلف لا ضرورة إليه.
والمعنى الواضح الجلى للآية الكريمة - كما سبق أن بينا -: يسألك بعض أصحابك يا محمد عن غنائم بدر كيف تقسم، ومن المستحق لها؟ قل لهم: الأنفال لله يحكم فيها بحكمه، ولرسوله يقسمها بحسب حكم الله فيها، فهو - سبحانه - العليم بمصالح عباده، الحكيم فى جميع أقواله وأفعاله.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما وحه الجمع بين ذكر الله والرسول فى قوله: { قُلِ ٱلأَنفَالُ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ }؟
قلت: معناه أن حكمها مختص بالله ورسوله، يأمر الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته، ويمتثل الرسول أمر الله فيها، وليس الأمر فى قسمتها مفوضاً إلى رأى أحد، والمراد: "أن الذى اقتضته حكمة الله وأمر به رسوله أن يواسى المقاتلة المشروط لهم التنفيل الشيوخ الذين كانوا عند الرايات، فيقاسموهم على السوية ولا يستأثروا بما شرط لهم، فإنهم إن فعلوا لم يؤمن أن يقدح ذلك فيما بين المسلمين من التحاب والتصافى".
وقوله: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } حض لهم على تقوى الله وامتثال أمره، وإصلاح ذات بينهم، وتحذير لهم من الوقوع فى المعاصى والنزاع والخلاف.
وكلمة { ذَاتَ } بمعنى حقيقة الشئ ونفسه.، ولا تستعمل إلا مضافة إلى الظاهر، كذات الصدور، وذات الشوكة.
وكلمة { بِيْنِكُمْ }، من البين، وهو مصدر بان يبين بيناً، متى بعد، ويطلق على الاتصال والفراق، أى: على الضدين، ومنه قول الشاعر:

فوالله لولا البين لم يكن الهوى ولولا الهوى ما حس للبين آلف

والمراد به فى الآية الاتصال.
أى: فاتقوا الله - أيها المؤمنون -، واصلحوا نفس ما بينكم وهى الحال والصفة التى بينكم والتى تربط بعضكم ببعض وهى رابطة الإِسلام. وإصلاحها يكون بما يقتضيه كمال الإِيمان من الموادة والمصافاة، وترك الاختلاف والتنازع، والتمسك بفضيلة الإِيثار.
وكلمة { ذَاتَ } على هذا المعنى مفعول به.
ومنهم من يرى أن كلمة "ذات" بمعنى صاحبة، وأنها صفة لمفعول محذوف، فيكون المعنى: فاتقوا الله وأصلحوا أحوالا ذات بينكم.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: "فإن قلت: ما حقيقة قوله: { ذَاتَ بِيْنِكُمْ }".
قلت: أحوال بينكم، يعنى ما بينكم من الأحوال، حتى تكون أحوال ألفة ومودة واتفاق.
كقوله:
{ { بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } وهى مضمراتها.
ولما كانت أحوال ملابسة للبين قيل لها: ذات البين، كقولهم: اسقنى ذا إنائك، يريدون ما فى الإِناء من الشراب..."
وقوله { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } معطوف على ما قبله، وهو قوله: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ }.
أى: فاتقوا الله - أيها المؤمنون - فى كل أقوالكم وأفعالكم، وأصلحوا ما بينكم من الأحوال التى تكون أحوال ألفة ومحبة ومودة، وأطيعوا الله ورسوله فى حكمه الذى قضاه فى الأنفال وفى غيرها، من كل أمر ونهى، وقضاء وحكم..
وقد كرر - سبحانه - الاسم الجليل فى هذه الآية ثلاث مرات، لتربية المهابة فى القلوب، وتعليل الحكم حتى تقبله النفوس بإذعان وتسليم.
وذكر - سبحانه - رسوله معه مرتين فى هذه الآية، لتعظيم شأنه، وإظهار شرفه، والإِيذان بأن طاعته - صلى الله عليه وسلم - طاعة لله - تعالى -، ومخالفته مخالفة لأمر الله - تعالى؟ قال - سبحانه -:
{ { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } }. ووسَّط - سبحانه - الأمر بإصلاح ذات البين بين الأمر بالتقوى والأمر بالطاعة، لإِظهار كمال العناية بالإِصلاح، وليندرج الأمر به بعينه تحت الأمر بالطاعة.
وقوله: { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } متعلق بالأوامر الثلاثة السابقة، وهى: التقوى، وإصلاح ذات البين، وطاعة الله ورسوله.
وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، أى: إن كنتم مؤمنين إيمانا حقا فامتثلوا هذه الأوامر الثلاثة السابقة.
قال الآلوسى: قوله { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } جوابه محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه، أو المذكور هو الجواب على الخلاف المشهور. وأيا ما كان فالمراد بيان ترتب ما ذكر عليه لا التشكيك فى إيمانهم، وهو يكفى التعليق بالشرط.
والمراد بالإِيمان: التصديق. ولا خفاء فى اقتضائه ما ذكر، على معنى أنه من شأنه ذلك لا أنه لازم له حقيقة.
وقد يراد بالإِيمان الإِيمان الكامل والأعمال شرط فيه أو شطر، فالمعنى: إن كنتم كاملى الإِيمان، فإن كمال الإِيمان يدور على تلك الخصال الثلاثة: الاتقاء، والإِصلاح، وإطاعة الله - تعالى -.
ويؤيد إرادة الكمال قوله - سبحانه - بعد ذلك { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ... } إذ المراد به قطعا الكاملون فى الإِيمان وإلا لم يصح الحصر.."
وعلى أية حال ففى هذا التذييل تنشيط للمخاطبين، وحث لهم على الامتثال والطاعة، ودعوة لهم إلى أن يكون إيمانهم إيمانا عميقا راسخا، متفقا مع كل ما جاءهم به رسولهم - صلى الله عليه وسلم - من هدايات وإرشادات، ومتساميا عن كل ما يخدش صفاءه ونقاءه من متع وشهوات.
ثم وصف - سبحانه - المؤمنين الصادقين بخمس صفات، وبشرهم بأعلى الدرجات، فقال فى بيان صفتهم الأولى: { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ.. } فالجملة الكريمة مستأنفة وهى مسوقة لبيان أحوال المؤمنين الذين هم أهل لرضا الله وحسن ثوابه، حتى يتأسى بهم غيرهم.
وقوله { وَجِلَتْ } من الوجَل وهو استشعار الخوف. يقال: وجل يوجل وجلا فهو وجل، إذا خاف وفزع.
والمراد بذكر الله: ذكر صفاته الجليلة، وقدرته النافذة، ورحمته الواسعة، وعقابه الشديد، وعلمه المحيط بكل شئ، وما يستتبع ذلك من حساب وثواب وعقاب.
والمعنى: إنما المؤمنون الصادقون الذين إذا ذكر اسم الله وذكرت صفاته أمامهم، خافت قلوبهم وفزعت، استعظاماً لجلاله وتهيبا من سلطانه، وحذراً من عقابه، ورغبة فى ثوابه، وذلك لقوة إيمانهم، وصفاء نفوسهم، وشدة مراقبتهم لله - عز وجل - ووقوفهم عند أمره ونهيه..
وقد جاء التعبير عن صفاتهم بصيغة من صيغ القصر وهى "إنما"، للإشعار بأن من هذه صفاتهم هم المؤمنون الصادقون فى إيمانهم وإخلاصهم، أما غيرهم ممن لم تتوفر به هذه الصفات، فأمره غير أمرهم، وجزاؤه غير جزائهم.
قال الفخر الرازى: فإن قيل: إنه - تعالى - قال ههنا: { وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } وقال فى آية أخرى:
{ { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ } فكيف الجمع بينهما؟
قلنا: الاطمئنان: إنما يكون عن ثلج اليقين، وشرح الصدر بمعرفة التوحيد، والوجل: إنما يكون من خوف العقوبة. ولا منافاة بين هاتين الحالتين. بل نقول: هذان الوصفان اجتمعا فى آية واحدة وهى قوله - تعالى:
{ { ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } }. والمعنى تقشعر الجلود من خوف عذاب الله، ثم تلين جلودهم وقلوبهم عند رجاء ثواب الله.
والصفة الثانية من صفات هؤلاء المؤمنين الصادقين عبر عنها - سبحانه - بقوله: { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً }.
أى أن من صفات هؤلاء المؤمنين أنهم إذا قرئت عليهم آيات الله أى: حججه وهى القرآن؛ زادتهم إيمانا، أى: زادتهم قوة فى التصديق، وشدة فى الإِذعان، ورسوخا فى اليقين، ونشاطا فى الأعمال الصالحة، وسعة فى العالم والمعرفة.
وجاء التعبير بصيغة الفعل المبنى للمعفول فى قوله: { ذُكِرَ ٱللَّهُ } و { تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ }، للإِيذان بأن هؤلاء المؤمنين الصادقين إذا كانوا يخافون عندما يسمعون من غيرهم آيات الله.. فإنهم يكونون أشد خوفا وفزعا عند ذكرهم لله وعند تلاوتهم لآياته بألسنتهم وقلوبهم.
فالمقصود من هذه الصيغة: مدحهم، والثناء عليهم، وبيان الأثر الطيب الذى يترتب على ذكر الله وعلى تلاوة آياته.
والصفة الثالثة من صفاتهم قوله - تعالى -: { وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ }.
أى: أن من صفات هؤلاء المؤمنين - أيضاً - أنهم يعتمدون على ربهم الذى خلقهم بقدرته، ورباهم بنعمته، فيفوضون أمورهم كلها إليه وحده - سبحانه - لا إلى أحد سواه، كما يدل عليه تقديم المتعلق على عامله.
ورحم الله الإِمام ابن كثير فقد قال عند تفسيره لهذه الجملة: أى: أنهم لا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف فى الملك لا شريك له، ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب. ولهذا قال سعيد بن جبير: "التوكل على الله جماع الإِيمان".
ومن الواضح عند ذوى العقول السليمة أن التوكل على الله لا ينافى الأخذ بالأسباب التى شرعها - سبحانه - بل إن الأخذ بالأسباب التى شرعها الله وأمر بها لبلوغ الغايات، لدليل على قوة الإِيمان، وعلى حسن طاعته - سبحانه - فيما شرعه وفيما أمر به.
وليس من الإِيمان ولا من العقل ولا من التوكل على الله أن ينتظر الإِنسان ثماراً بدون غرس، أو شبعا بدون أكل، أو نجاحا بدون جهد، أو ثواباً بدون عمل صالح.
إنما المؤمن العاقل المتوكل على الله، هو الذى يباشر الأسباب التى شرعها الله لبلوغ الأهداف مباشرة سليمة.. ثم بعد ذلك يترك النتائج له - سبحانه - يُسيِّرها كيف يشاء، وحسبما يريد..
أما الصفتان الرابعة والخامسة من صفات هؤلاء المؤمنين فهما قوله - تعالى - { ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }.
والمراد بإقامة الصلاة: أداؤها فى مواقيتها مستوفية لأركانها وشروطها وآدابها وخشوعها - من أقام الشئ إقامة إذا قومه وأزال عوجه لأن الشأن فى صلاة المؤمنين أن تكون: إحساسا عميقا بالوقوف بين يدى الله، وانقطاعا تاما لمناجاته، وتمثلا حياً لجلاله وكبريائه، واستغراقا كاملا فى دعائه.
والمراد بقوله: { يُنفِقُونَ } يخرجون ويبذلون، من الإِنفاق وهو إخراج المال وبذله وصرفه.
والجملة الكريمة فى محل رفع صفة للموصول فى الآية السابقة أو بدل منه أو بيان له.
والمعنى: أن من صفات هؤلاء المؤمنين أنهم يؤدون الصلاة فى مواقيتها مستوفية لأركانها وشروطها وسننها وآدابها وخشوعها.. وأنهم يبذلون أموالهم للفقراء والمحتاجين بسماحة نفس، وسخاء يد، استجابة لتعاليم دينهم.
فأنت ترى أنه - سبحانه - قد وصف هؤلاء المؤمنين بخمس صفات: الأولى والثانية والثالثة منها ترجع إلى العبادات القلبية التى تدل على شدة خشيتهم من ربهم، وقوة تأثرهم بآيات خالقهم، واعتمادهم عليه - سبحانه وحده لا على أحد سواه.
والصفة الرابعة ترجع إلى العبادات البدنية، وهى إقامة الصلاة بإخلاص وخشوع.
أما الصفة الخامسة فترجع إلى العبادات المالية، وهى إنفاق المال فى سبيل الله ولا شك أن هذه الصفات متى تمكنت فى النفس، كان صاحبها أهلا لمحبة الله؛ ورضوانه، ولذا مدح - سبحانه - أصحاب هذه الصفات، وبين ما أعده لهم من ثواب جزيل فقال: { أُوْلۤـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }.
أى: أولئك المتصفون بتلك الصفات الكريمة هم المؤمنون إيمانا حقا { لَّهُمْ دَرَجَاتٌ } عالية، ومكانة سامية { عِندَ رَبِّهِمْ } ولهم { مَغْفِرَةٌ } شاملة لما فرط منهم من ذنوب، ولهم { رِزْقٌ كَرِيمٌ } فى الجنة، يجعلهم يحيون فيها حياة طيبة
{ { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } }. وقوله { حَقّاً } منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف، أى: أولئك هم المؤمنون إيماناً حقاً.
والتنوين فى قوله { دَرَجَاتٌ } للتعظيم والتهويل أى: لهم درجات رفيعة، ومنازل عظيمة، وفى وصف هذه الدرجات بأنها { عِندَ رَبِّهِمْ } مزيد تشريف لهم، ولطف بهم، وإيذان بأن ما وعدهم به متيقن الوقوع، لأنه وعد من كريم لا يخلف وعده - سبحانه -.
وفى وصف الرزق الذى أعده لهم بالكرم، زيادة فى إدخال السرور على قلوبهم؛ لأن لفظ الكريم يصف به العرب كل شئ حسن فى بابه، بحيث يكون لا قبح فيه ولا شكوى معه.
وبذلك نرى أن أصحاب تلك الصفات الحميدة قد مدحهم الله - تعالى - مدحاً عظيما، وكأفأهم على إيمانهم الحق بالدرجات العالية، والمغفرة الشاملة، والرزق الكريم:
{ ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } }. هذا، وقد استنبط العلماء من تلك الآيات جملة من الأحكام والآداب منها:
1- حرص الصحابة على سؤال النبى - صلى الله عليه وسلم - عما يهمهم من أمور دينهم ودنياهم.
فإن قيل: كيف تأتى لأصحابه الذين شهدوا بدراً - وهم من هم فى عفتهم وزهدهم - أن يختلفوا فى شأن الغنائم.
فالجواب،، أن بعض الصحابة المشتركين فى هذه الغزوة هم الذين حدث بينهم الخلاف فى شأنها؛ لأنهم لم يكن لهم عهد سابق بكيفية تقسيمها، أما أكثر الصحابة فإنهم لم يلتفتوا إلى هذه الغنائم، بل تركوا أمرها إلى رسول الله - يضعها كيف يشاء.
وأيضاً فإن هؤلاء الذين حدث بينهم الخلاف فى شأن الغنائم، كان من الدوافع التى دفعتهم إلى هذا الخلاف، ما فهموه من أن حيازة الغنائم تدل على حسن البلاء، وشدة القتال فى سبيل الله، فكان كل واحد منهم يحرص على أن يظهر بهذا المظهر المشرف وهم فى أول لقاء لهم مع أعدائهم.
وعندما جاوز هذا الحرص حده، بأن غطى على ما يجب أن يسود بينهم من سماحة وصفاء، نزل القرآن ليربيهم بتربيته الحكيمة، وليؤدبهم بأدبه السامى، وليخبرهم بحكم الله فى شأن هذه الأنفال.. وبعد ان عرفوا حكم الله فى شأنها، قابلوه بالرضا والإِذعان والتسليم.
2- أن القرآن فى ترتيبه للحوادث، لا يلزم سردها على حسب زمن وقوعها، وإنما يرتبها بأسلوبه الخاص الذى يراعى فيه مقتضى حال المخاطب.
فلقد افتتحت السورة التى معنا بالحديث عن الغنائم التى غنمها المسلمون فى بدر - مع أن ذلك كان بعد انتهاء الغزوة - ليشعر المخاطبين من أول الأمر أن النصر فى هذه الغزوة كان للمسلمين، وأن الإِسلام قد صرع الكفر منذ أول معركة نازله فيها.
وهذا اللون من الافتتاح هو ما يعبر عنه البلغاء ببراعة الاستهلال.
ولقد أفاض بعض العلماء فى شرح هذا المعنى فقال ما ملخصه.
وقد بدأت السورة بموضوع الأنفال واختلافهم فى قسمتها وسؤالهم عنها، فساقت فى ذلك أربع آيات، هن: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ قُلِ ٱلأَنفَالُ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } إلى قوله - { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }.
وقد عالجت هذه الآيات نفوس المؤمنين، وعملت على تطهيرها من الاختلاف الذى ينشأ عن حب المال والتطلع إلى المادة، ولا ريب أن حب المال والتطلع إلى المادة من أكبر أسباب الفشل.
ولأهمية هذا الموضوع فى حياة المؤمنين بدأت به السورة، وإن كان اختلافهم فى قسمة الأنفال متأخراً فى الوجود عن اختلافهم فى الخروج إلى بدر، وقتال الأعداء.
وقد عرفنا من سنة القرآن فى ذكر القصص والوقائع أنه لا يعرض لها مرتبة حسب وقوعها، وذلك لأنه لا يذكرها على أنها تاريخ يعين لها الوقت والمكان، وإنما يذكرها لما فيها من العبر والمواعظ، ولما تتطلبه من الأحكام والحكم.
وقد بدأت السورة بالحديث عن الأنفال للمسارعة من أول الأمر بنتائج النصر الذى كفله الله للمؤمنين.
وليس من تربية النفوس أن نبدأ الكلام معها بما يدل على الاضطراب والفزع والتردد أمام وسائل العزة والشرف، متى وجد لهم بجانب هذا التردد ما يدل على مواقف الشرف والكرامة..
ولا كذلك يكون الأمر إذا بدئت ببيان تثاقلهم فى الخروج إلى الغزوة، وانظر كيف يكون وقع المطلع إذا جاء على هذا الوجه
{ { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ.. } إلخ.
لا ريب أنه مطلع شديد الوقع على النفوس، يصور علاقة المؤمنين بنبيهم فى صورة يأباها إيمانهم به وامتثالهم لأمره. يصورهم فى شقاق واختلاف مع قائدهم ورسولهم ويصورهم فى ثوب الكراهية الشديدة لمعالى الأمور وعز الحياة.
لهذا كله جاء الأسلوب فى سرد الوقائع غير مكترث بمخالفة ترتبيها فى الوجود الخارجى.
3- استدل جمهور العلماء بقوله - تعالى - { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً } على أن الإِيمان يزيد وينقص...
ومن المفسرين الذين بسطوا القول فى هذه المسألة الإِمام الآلوسى، فقد قال ما ملخصه:
قوله - تعالى - { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ } أى: القرآن { زَادَتْهُمْ إِيمَاناً } أى: تصديقا كما هو المتبادر، فإن تظاهر الأدلة وتعاضد الحجج مما لا ريب فى كونه موجبا لذلك.
وهذا أحد أدلة من ذهب إلى أن الإِيمان يقبل الزيادة والنقص، وهو مذهب الجم الغفير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، وبه أقول لكثرة الظواهر الدالة على ذلك من الكتاب والسنة من غير معارض لها عقلا.
بل قد احتج عليه بعضهم بالعقل - أيضا - وذلك أنه لو لم تتفاوت حقيقة الإِيمان لكان إيمان آحاد الأمة بل المنهمكين فى الفسق والمعاصى، مساويا لإِيمان الأنبياء والملائكة، واللازم باطل فكذا الملزوم.
وقال النووى: إن كل أحد يعلم أن ما فى قلبه يتفاضل حتى يكون فى بعض الأحيان أعظم يقينا وإخلاصا منه فى بعضها، فكذا التصديق والمعرفة يتفاضلان بحسب ظهور البراهين وكثرتها.
وذهب الإِمام أبو حنيفة وكثير من المتكلمين إلى أن الإِيمان لا يزيد ولا ينقص، واختاره إمام الحرمين، محتجين بأنه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والإِذعان، وذلك لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان فالمصدق إذا اتى بالطاعات أو ارتكب المعاصى فتصديقه بحاله لم يتغير أصلا، وإنما يتفاوت إذا كان اسما للطاعات المتفاوتة قلة وكثرة.
وذهب جماعة منهم الإِمام الرازى إلى أن الخلاف فى زيادة الإِيمان ونقصانه وعدمها لفظى، وهو فرع تفسير الإِيمان، فمن فسره بالتصديق قال: إنه لا يزيد ولا ينقص، ومن فسره بالأعمال مع التصديق قال: إنه يزيد وينقص، وعلى هذا قول البخارى "لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار، فما رأيت أحدا منهم يختلف فى أن الإِيمان قول وعمل ويزيد وينقص، وهو المعنى بما روى
"عن ابن عمر أنه قال. قلنا يا رسول الله إن الإِيمان يزيد وينقص، قال، نعم، يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة، وينقص حتى يدخل صاحبه النار" .
ويبدو لنا أن رأى جمهور العلماء فى هذه المسألة، أولى بالقبول؛ لأنه من الواضح أن إيمان الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ارسخ وأقوى من إيمان آحاد الناس، ولأنه كلما تكاثرت الأدلة كان الإِيمان أشد رسوخا فى النفس وأعمق أثراً فى القلب، فلا تزلزله الشبهات ولا تزعزعه العوارض والفتن.
ومن أوضح الأدلة على أن الإِيمان يقوى بقوة البرهان إلى درجة الاطمئنان، ما حكاه الله - تعالى - عن إبراهيم فى قوله:
{ { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } }. فهذه الآية تدل دلالة واضحة على أن مقام الطمأنينة فى الإِيمان، يزيد على ما دونه من الإِيمان المطلق قوة وكمالا. إن إبراهيم - عليه السلام - لا شك أنه كان مؤمنا عندما سأل ربه هذا السؤال، سأله ذلك لينتقل من مرتبة علم اليقين إلى مرتبة أعلى: وهى مرتبة عين اليقين..
هذا، وشبيه بهذه الآية فى الدلالة على قبول الإِيمان للزيادة والنقصان قوله - تعالى:
{ { ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً } }. وقوله - تعالى -: { { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوۤاْ إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ } }. وقوله - تعالى -: { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ } }. وقوله - تعالى -: { { وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التى وردت فى هذا المعنى.
4- فى هذه الآيات الكريمة تربية ربانية للمؤمنين، وتوجيه لهم إلى ما يسعدهم، وإرشاد لهم إلى أن المؤمن الصادق فى إيمانه، هو الذى يجمع بين سلامة العقيدة، وسلامة الخلق، وصلاح العمل، وأن المؤمن متى جمع بين هذه الصفات ارتفع إلى أعلى الدرجات، وأحس بحلاوة الإِيمان فى قلبه..
روى الحافظ الطبرانى
"عن الحارث بن مالك الأنصارى أنه مر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: كيف أصبحت يا حارث؟ قال: أصبحت مؤمنا حقا، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم - : انظر ما تقول فإن لكل شئ حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ فقال الحارث: عزفت عن الدنيا فأسهرت ليلى، وأظمأت نهارى. وكأنى أنظر إلى عرش ربى بارزاً، وكأنى أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأنى أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: يا حارث عرفت فالزم ثلاثا" .
ثم أخذت السورة - بعد هذا الافتتاح المشتمل على أروع استهلال وأبلغه وأحكمه...، فى الحديث عن الغزوة التى كان من ثمارها تلك الأنفال. فاستعرضت مجمل أحداثها، وصورت نفوس فريق من المؤمنين الذين اشتركوا فيها أكمل تصوير، استمع معى - أخى القارئ - بتدبر وتعقل إلى قوله - تعالى -: { كَمَآ أَخْرَجَكَ...كَرِهَ ٱلْمُجْرِمُونَ }.