التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
٢٤
وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٢٥
وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي ٱلأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٢٦
-الأنفال

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال القرطبى: قوله - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ.. } هذا الخطاب للمؤمنين المصدقين بلا خلاف، والاستجابة:
الإِجابة... قال الشاعر:

وداع دعا يا من يجيب إنى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أى: فلم يجبه عند ذاك مجيب.
وكان الإِمام القرطبى يرى أن السين والتاء فى قوله: "استجيبوا" زائدتان.
ولعل الأحسن من ذلك أن تكون السين والتاء للطلب، لأن الاستجابة هى الإِجابة بنشاط وحسن استعداد.
وقوله { لِمَا يُحْيِيكُمْ } أى لما يصلحكم من أعمال البر والخير والطاعة، التى توصلكم متى تمسكتم بها إلى الحياة الكريمة الطيبة فى الدنيا، وإلى السعادة التى ليس بعدها سعادة فى الآخرة.
وهذا المعنى الذى ذكرناه لقوله { لِمَا يُحْيِيكُمْ } أدق مما ذكره بعضهم من أن المراد بما يحييهم القرآن، أو الجهاد، أو العلم.. إلخ.
وذلك، لأن أعمال البر والخير والطاعة تشمل كل هذا.
والمعنى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بالله حق الإِيمان، { ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ } عن طواعية واختيار، ونشاط وحسن استعداد { إِذَا دَعَاكُم } الرسول - صلى الله عليه وسلم - { لِمَا يُحْيِيكُمْ } أى: إلى ما يصلح أحوالكم، ويرفع درجاتكم، من الأقوال النافعة، والأعمال الحسنة، التى بالتمسك بها تحيون حياة طيبة: وتظفرون بالسعادتين: الدنيوية والأخروية.
والضمير فى قوله { دَعَاكُم } يعود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه هو المباشر للدعوة إلى الله، ولأن فى الاستجابة له استجابة لله - تعالى -.
قال - سبحانه -:
{ { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } }. وقوله: { وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } تحذير لهم من الغفلة عن ذكر الله، وبعث لهم على مواصلة الطاعة له - سبحانه -.
وقوله: { يَحُولُ } من الحول بين الشئ والشئ، بمعنى الحجز والفصل بينهما.
قال الراغب: أصل الحول تغير الشئ وانفصاله عن غيره، وباعتبار التغير قيل حال الشئ يحول حولا واستحال تهيأ لأن يحول: وباعتبار الانفصال فيل حال بينى وبينك كذا أى فصل..
هذا، وللمفسرين فى معنى هذه الجملة الكريمة أقوال متعددة أهمها قولان:
أما القول الأول فهو أن المراد بالحيلولة بين المرء وقلبه - كما يقول ابن جرير -: أنه - سبحانه - أملك لقلوب عباده منهم وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء، حتى لا يقدر ذو قلب أن يدرك شيئا من إيمان أو كفر، أو أن يعى به شيئا، أو أن يفهم إلا بإذنه ومشيئته، وذلك أن الحول بين الشئ والشئ إنما هو الحجز بينهما، وإذا حجز - جل ثناؤه - بين عبد وقلبه فى شئ أن يدركه أو يفهمه، لم يكن للعبد إلى إدراك ما قد منع الله قلبه إدراكه سبيل، وإذا كان ذلك معناه دخل فى ذلك قول من قال: يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإِيمان.
وقول من قال: يحول بينه وبين عقله. وقول من قال: يحول بينه وبين قلبه حتى لا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه.. فالخبر على العموم حتى يخصصه ما يجب التسليم له.
وقد رجح ابن جرير هذا القول بعد أن ذكر قبله بعض الأقوال الأخرى.
وقال ابن كثير - بعد أن لخص القول الذى رجحه ابن جرير -: وقد وردت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله علي وسلم - يقول:
"إن قلوب بنى آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يصرفها كيف شاء" ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك" .
وروى: الإِمام أحمد والنسائى وابن ماجه عن النواس بن سمعان الكلابى قال: سمعت النبى - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين، إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه" .
أما القول الثانى فهو أن المراد بالحيلولة بين المرء وقلبه - كما يقول الزمخشرى - "أنه - سبحانه - يميت المرء فتفوته الفرصة التى هو واجدها، وهى التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله، ورده سليما كما يريده الله، فاغتنموا هذه الفرصة، وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله.
أو - كما يقول الفخر الرازى - بعبارة أوضح: "أن المراد أنه - تعالى - يحول بين المرء وبين ما يتمناه ويريده بقلبه، فإن الأجل يحول دون الأمل. فكأنه قال: بادروا إلى الأعمال الصالحة ولا تعتمدوا على ما يقع فى قلوبكم من توقع طول البقاء، فإن ذلك غير موثوق به، وإنما حسن إطلاق لفظ القلب على الأمانى الحاصلة فى القلب، لأن تسمية الشئ باسم ظرفه جائزة كقولهم: سال الوادى.
والذى نراه أن القول الثانى أولى بالقبول، لأن الآية الكريمة ساقته لحض المؤمنين على سرعة الاستجابة للحق الذى دعاهم إليه رسوله صلى الله عليه وسلم والذى باتباعه يحيون حياة طيبة، وتذكيرهم بيوم الحساب وما فيه من ثواب وعقاب، كما قال - تعالى - فى ختامها { وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }.
وليست مسوقة لإِثبات قدرة الله، وأنه أملك لقلوب عباده منهم: وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء.
فالمعنى الذى ذكره ابن جرير - وتابعه عليه ابن كثير وغيره، معنى وجيه فى ذاته، إذ لا ينكر أحد أن الله مقلب القلوب ومالكها.. ولكن ليس مناسبا هنا مناسبة المعنى الذى ذكره الزمخشرى والرازى. لأن الآية التى معنا والتى بعدها صريحتان فى دعوة المؤمنين إلى الاستجابة للحق قبل أن يفاجئهم الموت، وقبل أن تحل بهم مصيبة لا تصيب الظالمين منهم خاصة.
والمعنى الإِجمالى للآية الكريمة { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ } بعزيمة صادقة، وسرعة فائقة، { إِذَا دَعَاكُم } الرسول - صلى الله عليه وسلم - { لِمَا يُحْيِيكُمْ } أى لما به تحيون حياة طيبة من الأقوال والأعمال الصالحة { وَاعْلَمُواْ } علما يقينا { أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } أى يحول بين المرء وبين ما يتمناه قلبه من شهوات الدنيا ومتعها: فكم من إنسان يؤمل أنه سيفعل كذا غدا، وسيجمع كذا غدا، وسيجمع كذا فى المستقبل، وسيحصل على كذا قريبا.. ثم يحول الموت ويفصل بينه وبين آماله وأمانيه.. فبادروا إلى اغتنام الأعمال الصالحة من قبل أن يفاجئكم الموت.
وقوله: { وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } تذييل قصد به تذكيرهم بأهوال يوم القيامة. والضمير فى قوله { وَأَنَّهُ } يعود إلى الله تعالى - أو هو ضمير الشأن. أى: وأنه - سبحانه - إليه وحده ترجعون لا إلى غيره، فيحاسبكم على ما قدمتم وما أخرتم، ويجازى كل إنسان بما يستحقه من خير أو شر.
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد جمعت بين الترغيب. فى العمل الصالح بسرعة ونشاط، وبين الترهيب من التكاسل والغفلة عن طاعة الله.
ثم يؤكد - سبحانه - بعد ذلك ترهيبه لهم من التراخى فى تغيير المنكر فيقول: { وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }.
والفتنة: من الفتن. وأصله - كما يقول الراغب -: إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، واستعمل فى إدخال الإِنسان النار.
كما فى قوله - تعالى -
{ { ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ } أى: عذابكم. وتارة يسمون ما يحصل عنه العذاب فتنة فيستعمل فيه نحو قوله - تعالى -: { { أَلا فِي ٱلْفِتْنَةِ سَقَطُواْ } }. وتارة فى الاختيار نحو قوله - تعالى - { { وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } }. والمراد بالفتنة هنا العذاب الدنيوي، كالأمراض، والقحط، واضطراب الأحوال، وتسلط الظلمة، وعدم الأمان.. وغير ذلك من المحن والمصائب والآلام التى تنزل بالناس بسبب غشيانهم الذنوب، وإقرارهم للمنكرات، والمداهنة فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
والخطاب لجميع فى كل زمان ومكان.
فالمعنى: داوموا أيها المؤمنون على طاعة الله بقوة ونشاط، واحذروا من أن ينزل بكم عذاب سيعم عند نزوله الأخيار والفجار والمحسنين والمسيئين.
وقوله: { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } المراد منه الحث على لزوم الاستقامة خوفا من عقاب الله - تعالى -.
أى: واعلموا أن الله شديد العقاب لمن خالف أمره، وانتهك حرماته.
قال صاحب الكشاف: وقوله { لاَّ تُصِيبَنَّ } لا يخلو من أن يكون جواباً للأمر، أو نهيا بعد أمر، أو صفة لفتنة.
فإذا كان جواباً فالمعنى: إن أصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة ولكنها تعمكم.. وإذا كانت نهيا بعد أمر فكأنه قيل: واحذروا ذنباً أو عقاباً، ثم قيل: لا تتعرضوا للظلم فيصيب العقاب أو أثر الذنب ووباله الجميع وليس من ظلم منكم خاصة.
فإن قلت: كيف جاز دخول النون المؤكدة فى جواب الأمر؟
قلت: لأن فيه معنى النهى - ومتى كان كذلك جاز إدخال النون المؤكدة - كما إذا قلت: انزل عن الدابة لا تطرحك أو لا تطرحنك. ومنه قوله - تعالى -:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ } }. وقوله { خَآصَّةً } منصوب على الحال من الفاعل المستكن فى قوله { لاَّ تُصِيبَنَّ }.
ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف. والتقدير: إصابة خاصة.
هذا، وقد دلت الآية الكريمة على وجوب الإِقلاع عن المعاصى، ووجوب محاربة مرتكبيها، فإن الأمة التى تشيع فيها المعاصى والمظالم والمنكرات.. ثم لا تجد من يحاربها ويعمل على إزالتها، تستحق العقوبة جزاء سكوتها واستخذائها وجبنها.
وقد ذكر بعض المفسرين أن هذه الآية الكريمة نزلت فى حق بعض الصحابة الذين اشتركوا فى واقعة الجمل فيما بعد.
ولكن هذا القول غير صحيح؛ لأن الآية الكريمة تخاطب المؤمنين جميعاً فى كل زمان ومكان، وأمرهم بالبعد عن المعاصى والمنكرات التى تفضى بهم إلى العذاب الدنيوى قبل الأخروى. وليست خاصة بفريق دون فريق.
لذا قال ابن كثير: والقول بأن هذا التحذير يعم الصحابة وغيرهم هو الصحيح، ويدل عليه الأحاديث الواردة فى التحذير من الفتن.
ومن ذلك ما رواه الإِمام أحمد عن عدى بن عميرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
"إن الله - تعالى - لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة" .
وروى الإِمام أحمد أيضاً عن جرير بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصى وهم أعز وأكثر ممن يعملون، ثم لم يغيروه، إلا عمهم الله بعقاب" .
وقال الإِمام القرطبى: قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب.
ففى صحيح مسلم
"عن زينب بنت جحش أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت له: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث" .
وفى صحيح الترمذى: "إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه، أو شك أن يعمهم الله بعقاب من عنده" .
وفى صحيح البخارى والترمذى عن النعمان بن بشير عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا - أى اقترعوا - على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين فى أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا فى نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً" .
ففى هذا الحديث تعذيب العامة بذنوب الخاصة.
قال علماؤنا: فالفتنة إذا عمت هلك الكل وذلك عند ظهور المعاصى، وانتشار المنكر وعدم التغيير. وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها.
روى ابن وهب عن مالك قال: تهجر الأرض التى يصنع فيها المنكر جهارا ولا يستقر فيها.
واحتج بصنيع أبى الدرداء فى خروجه عن أرض معاوية حين أعلن بالربا، فأجاز بيع سقاية الذهب بأكثر من وزنها.
فإن قيل: فقد قال الله - تعالى -
{ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } وقال: { { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } }. وهذا يوجب ألا يؤخذ أحد بذنب أحد، وإنما تتعلق العقوبة بصاحب الذنب؟
فالجواب أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره، فإذا سكت عليه فكلهم عاص؛ هذا بفعله وهذا برضاه، وقد جعل الله فى حكمه الراضى بمنزلة العامل؛ فانتظم فى العقوبة.
وقال بعض العلماء: وذكر القسطلانى "أن علامة الرضا بالمنكر عدم التألم من الخلل الذى يقع فى الدين بفعل المعاصى، فلا يتحقق كون الإِنسان كارها له، إلا إذا تألم للخلل الذى يقع فى الدين، كما يتألم ويتوجع لفقد ماله أو ولده. فكل من لم يكن بهذه الحالة، فهو راض بالمنكر، فتعمه العقوبة والمصيبة بهذا الاعتبار.
وبعد أن أمر - سبحانه - المؤمنين بالاستجابة له ونهاهم عن الوقوع فى المعاصى.. أخذ فى تذكيرهم بجانب من فضله عليهم فقال: { وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي ٱلأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ... }.
أى: { وَٱذْكُرُوۤاْ } يا معشر المؤمنين { إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي ٱلأَرْضِ } أى: وقت أن كنتم قلة مستضعفة فى أرض مكة تحت أيدى كفار قريش. أو فى أرض الجزيرة العربية حيث كانت الدولة لغيركم من الفرس والروم.
وقوله: { تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ } أى: تخافون أن يأخذكم أعداؤكم أخذا سريعا. لقوتهم وضعفكم. يقال خطفه - من باب تعب - أى: استلبه بسرعة.
والمراد بالتذكر فى قوله: { وَٱذْكُرُوۤاْ } أن يتنبهوا بعقولهم وقلوبهم إلى نعم الله، وأن يداوموا على شكرها حتى يزيدهم - سبحانه - من فضله.
و { إِذْ } ظرف بمعنى وقت. و { أَنتُمْ } مبتدأ، أخبر عنه بثلاثة أخبار بعده وهى { قَلِيلٌ } و { مُّسْتَضْعَفُونَ } و { تَخَافُونَ }.
والمراد بالناس: كفار قريش، أوهم وغيرهم من كفار العرب والفرس والروم.
وقوله: { فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ } بيان لما من به عليهم من نعم بعد أن كانوا محرومين منها.
أى: اذكروا وقت أن كنتم قلة ضعيفة مستضعفة تخشى - أن يأخذها أعداؤها أخذا سريعا، فرفع الله عنكم بفضله هذه الحال، وأبدلكم خيرا منها، بأن { آوَاكُمْ } إلى المدينة، وألف بين قلوبكم يا معشر المهاجرين والأنصار { وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ } فى غزوة بدر، وقذف فى قلوب أعدائكم الرعب منكم { وَرَزَقَكُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ } أى: ورزقكم من الغنائم التى أحلها لكم بعد أن كانت محرمة على الذين من قبلكم، كما رزقكم - أيضا بكثير من المطاعم والمشارب الطيبة التى لم تكن متوفرة لكم قبل ذلك.
وقوله { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } تذييل قصد به حضهم على مداومة الشكر والطاعة لله - عز وجل - أى: نقلكم الله - تعالى - من الشدة إلى الرخاء، ومن القلة إلى الكثرة، ومن الضعف إلى القوة، ومن الخوف إلى الأمن، ومن الفقر إلى الغنى.. حتى تستمروا على طاعة الله وشكره، ولا يشغلكم عن ذلك أى شاغل.
قال ابن جرير: قال قتادة فى قوله - تعالى - { وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي ٱلأَرْضِ... }.
"كان هذا الحى من العرب أذل الناس ذلا، وأشقاه عيشا وأجوعه بطونا، وأعراه جلودا، وأبيته ضلالا، من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات منهم ردى فى النار، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منهم منزلا، حتى جاء الله بالإِسلام، فمكن به فى البلاد، ووسع به فى الرزق، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس. فبالإِسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر فى مزيد من الله - تعالى -".
وبذلك نرى أن هذه الآيات قد جمعت بين الترغيب والترهيب والتذكير.. الترغيب كما فى قوله - تعالى -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ... }.
والترهيب كما فى قوله - تعالى -: { وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً... }.
والتذكير كما فى قوله - تعالى - { وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي ٱلأَرْضِ... }.
وبالترغيب فى الطاعات، وبالترهيب من المعاصى، وبالتذكير بالنعم، ينجح الدعاة فى دعوتهم إلى الله.
ثم وجه - سبحانه - بعد ذلك نداء رابعا وخامسا إلى المؤمنين فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ...ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ }.