التفاسير

< >
عرض

إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
٥٥
ٱلَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ
٥٦
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي ٱلْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
٥٧
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَٱنْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلخَائِنِينَ
٥٨
وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوۤاْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ
٥٩
-الأنفال

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الفخر الرازى: اعلم أنه - تعالى - لما وصف كل الكفار بقوله: { { وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ } أفرد بعضهم بمزية فى الشر والعناد فقال: { إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ } أى: فى حكمه وعلمه من حصلت له صفتان:
الأولى: الكافر الذى يكون مستمراً على كفره مصرا عليه..
الثانية: أن يكون ناقضا للعهد على الدوام..
قال ابن عباس: هم بنو قريظة، فإنهم نقضوا عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعانوا عليه المشركين بالسلاح فى يوم بدر، ثم قالوا: أخطأنا، فعاهدهم مرة أخرى فنقضوه أيضا يوم الخندق..
والدواب: جمع دابة. وهى كل ما يدب على الأرض قال - تعالى -
{ { وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ.. } }. قال الجمل: وإطلاق الدابة على الإِنسان إطلاق حقيقى، لما ذكروه فى كتب اللغة من أنها تطلق على كل حيوان ولو آدميا. وفى الصباح "الداية كل حيوان فى الأرض مميزاً وغير مميز".
والمعنى: إن شر، ما يدب على الأرض { عِندَ ٱللَّهِ } أى: فى حكمه وقضائه { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أى: الذين أصروا على الكفر ولجوا فيه.
وقد وصفهم - سبحانه - بأنهم شر الدواب لا شر الناس، للإِشعار بأنهم بمعزل عما يتحلى به الناس من تعقل وتدبر للأمور، لأن لفظ الدواب وإن كان يطلق على الناس، إلا أنه عند إطلاقه عليهم يلقى ظلا خاصا يجعل العقول تتجه إلى أن هؤلاء الذين أطلق عليهم اللفظ هم إلى الدواب التى لا تعقل أقرب منهم إلى الآدميين العقلاء، وفى وصفه - سبحانه - لهم بأنهم شر الدواب زيادة توبيخ لهم، لأنهم ليسوا دوابا فحسب بل هم شرها وأخسها.
وقوله: { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } تذييل جئ به على وجه الاعتراض بالبيان أى: أنهم - بسبب إصرارهم على الكفر - صار الإِيمان بعيدا عنهم، وأنهم سواء أنذروا أو لم ينذروا مستمرون فى الضلال والعناد.
وقوله: { ٱلَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ... } بدل من الموصول الأول وهو قوله: { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ... } أو عطف بيان له.
أى: إن شر الدواب عند الله الذين أصروا على الكفر ورسخوا فيه، الذين { عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ } أى: أخذت منهم عهدهم، ثم ينقضون عهدهم فى كل مرة دون أن يفوا بعهودهم ولو مرة واحدة من المرات المتعددة.
فقوله: { عَاهَدْتَّ } مضمن معنى الأخذ، ولذا عدى بمن.
قال الآلوسى: قوله: { ٱلَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ.. } بدل من الموصول الأول، أو عطف بيان، أو نعت، أو خبر مبتدأ محذوف، أو نصب على الذم، وعائد الموصل قيل: ضمير الجمع المجرور، والمراد: عاهدتم، و { مِن } للإِيذان بأن المعاهدة - التى هى عبارة عن إعطاء العهد وأخذه من الجانبين - معتبرة هنا من حيث أخذه - صلى الله عليه وسلم -، إذ هو المناط لما نعى عليهم من النقض، لا إعطاؤه - عليه الصلاة والسلام إياهم عهده كأنه قيل: الذين أخذت منهم عهدهم، وقال أبو حيان: تبعيضية، لأن المباشر لا كلهم.."
وقوله: { ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ } معطوف على الصلة.
وكان العطف "بثم" المفيدة للتراخى، للإِيذان بالتفاوت الشديد بين ما أخذ عليهم من عهود، وبين ما تردوا فيه من نقض لها، واستهانة بها.
وجئ بصيغة المضارع { يَنقُضُونَ } المفيدة للحال والاستقبال، للدلالة على تعدد النقض وتجدده، وأنهم على نيته فى كل مرة يعاهدون فيها غيرهم.
وقوله: { وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ } فى موضع الحال من فاعل { يَنقُضُونَ }.
أى: أن هؤلاء القوم دأبهم نقض العهود والمواثيق فى كل وقت، ومع ذلك فحالهم وشأنهم أنهم لا يشعرون خلال نقضهم للعهود بأى تحرج أو خجل، بل يرتكبون ما يرتكبون من المنكرات دون أن يتقوا عارها، أو يخشوا سوء عاقبتها.
ثم بين - سبحانه - ما يجب على المؤمنين نحو هؤلاء الناقضين لعهودهم فى كل مرة بدون حياء أو تدبر للعواقب فقال: { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي ٱلْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } فالفاء فى قوله { فَإِمَّا } لترتيب ما بعدها على ما قبلها.
وقوله: { تَثْقَفَنَّهُمْ } من الثقف بمعنى الحذق فى إدراك الشئ وفعله.
قال الراغب: يقال ثقفت كذا إذا أدركته ببصرك لحذق فى النظر، ثم يتجوز فيه فيستعمل فى الإِدراك وإن لم تكن معه ثقافته.
قال - تعالى - { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي ٱلْحَرْبِ }.
وقوله: { فَشَرِّدْ بِهِم } التشريد وهو عبارة عن التفريق مع الاضطراب، يقال شردت بنى فلان، أى: قلعتهم عن مواطنهم وطردتهم عنها حتى فارقوها قال الشاعر:

أطوف فى الأباطح كل يوم مخافة أن يشرد بى حكيم

أى: مخافة أن يسمع بى ويطردنى حكيم، وحكيم رجل من بنى سليم كانت قريش قد ولته الأخذ على أيدى السفهاء.
والمعنى: إنك يا محمد إذا ما أدركت فى الحرب هؤلاء الكافرين الناقضين لعهودهم وظفرت بهم - وهم بنو قريظة ومن لف لفهم -.. فافعل بهم فعلا من القتل والتنكيل يتفرق معه جمع كل ناقض للعهد، ويفزع منه كل من كان على شاكلتهم فى الكفر ونقض العهود، ويعتبر به كل من سمعه من أهل مكة وغيرهم.
فالباء فى قوله { فَشَرِّدْ بِهِم } للسببية، وقوله { مَّنْ خَلْفَهُمْ } مفعول شرد.
والمراد بمن خلفهم: كفار مكة وغيرهم من الضالين، أى: افعل ببنى قريظة ما يشرد غيرهم خوفا وفزعا.
وقوله { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } أى: لعل أولئك المشردين يتعظون بهذا القتل والتنكيل الذى نزل بهؤلاء الناقضين لعهودهم فى كل مرة، فيمنعهم ذلك عن نقض العهد.
هذا، وإن تلك الآية الكريمة لمن أحكم الآيات التى ترشد المؤمنين إلى وجوب أخذ المستمرين على كفرهم وعنادهم ونقضهم العهود أخذاً شديداً رادعا.. حتى يبقى للمجتمع الإِسلامى أمانه واستقراره وهيبته أمام أعدائه.
إن الآية الكريمة ترسم صورة بديعة للأخذ المفزع، والهول المرعب، الذى يكفى السماع به للهرب والشرود، فما بال من يحل به هذا الأخذ الشديد؟
إنها الضربة المروعة، بأمر الله - تعالى - رسوله أن ينزلها على رأس كل مستحق لها بسبب كفره وتلاعبه بالعهود.. وبذلك تبقى لدين الله هيبته وسطوته.
هذا هو حكم المصرين على كفرهم الناقضين لعهودهم.. أما الذين تخشى منهم الخيانة فقد بين - سبحانه - حكمهم بقوله: { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَٱنْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلخَائِنِينَ }.
وقوله: { تَخَافَنَّ } من الخوف والمراد به هنا العلم.
وقوله: { فَٱنْبِذْ } من النبذ بمعنى الطرح، وهو مجاز عن إعلامهم بأنهم لا عهد لهم بعد اليوم، فشبه - سبحانه - العهد بالشئ الذى يرمى لعدم الرغبة فيه، وثبت النبذ له على سبيل التخييل، ومفعول "فانبذ" محذوف أى: فانبذ إليهم عهودهم.
قال الجمل: وقوله: { عَلَىٰ سَوَآء } حال من الفاعل والمفعول معا، أى: فاعل الفعل وهو ضمير النبى - صلى الله عليه وسلم - ومفعوله وهو المجرور بإلى.
أى: حال كونكم مستوين فى العلم بطرح العهد. فعلمك أنت به لأنه فعل نفسك، وعلمهم به بإعلامك إياهم، فكأنه قيل فى الآية: فانبذ عهدهم وأعلمهم بنبذه، ولا تقاتلهم بغتة لئلا يتهموك بالغدر وليس هذا من شأنك ولا من صفاتك".
والمعنى: وإما تعلمن - يا محمد - من قوم بينك وبينهم عهد أنهم على وشك نقضه منهم، بأمارات تلوح لك تدل على غدرهم، فاطرح إليهم عهدهم على طريق مستو ظاهر: بأن تعلمهم بنبذك عهدهم قبل أن تحاربهم، حتى تكون أنت وهم فى العلم بنبذ العهد سواء، لأن الله - تعالى - لا يحب الخائنين وإن من مظاهر الخيانة التى يبغضها الله - تعالى - أن يحارب أحد المتعاهد معه دون أن بعلمه بإنهاء عهده.
قال ابن كثير:
"قال الإِمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة عن أبى الفيض عن سليم بن عامر قال: كان بين معاوية وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم ليقرب منها، حتى إذا انقضى العهد غزاهم فإذا شيخ على دابة يقول: الله أكبر الله أكبر، وفاء لا غدرا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدة، ولا يشدها حتى ينقضى أمدها أو ينبذ إليهم على سواء" .
قال: فبلغ ذلك معاوية فرجع، فإذا بالشيخ عمرو بن عيسة.
ثم قال ابن كثير، وهذا الحديث رواه أبو داود الطيالسى عن شعبة، وأخرجه أبو داود والترمذى والنسائى وابن حبان فى صحيحه من طرق عن شعبة به، وقال الترمذى حسن صحيح.
وروى الإِمام أحمد
"عن سلمان الفارسى أنه انتهى إلى حصن أو مدينة فقال لأصحابه: دعونى ادعوهم كما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم، فقال: إنما كنت رجلا منكم فهدانى الله إلى الإِسلام؛ فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن أنتم أبيتم، فأدوا الجزية وأنتم صاغرون فإن أبيتم نابذناكم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين، يفعل ذلك بهم ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع غدا الناس إليها ففتحوها بعون الله" .
وقال الفخر الرازى: قال أهل العلم: آثار نقض العهد إذا ظهرت، فإما أن تظهر ظهوراً محتملاً، أو ظهورا مقطوعا به.
فإن كان الأول: وجب الإِعلام على ما هو مذكور فى هذه الآية، وذلك لأن بنى قريظة عاهدوا النبى - صلى الله عليه وسلم ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله، فحصل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم خوف الغدر منهم به وأصحابه، فهنا يجب على الإِمام أن ينبذ إليهم عهودهم على سواء ويؤذنهم بالحرب.
أما إذا ظهر نقض العهد ظهوراً مقطوعاً به، فهنا لا حاجة إلى نبذ العهد، وذلك كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأهل مكة، فإنهم لما نقضوا العهد بقتل خزاعة وهم فى ذمة النبى - صلى الله عليه وسلم - وصل إليهم جيش رسول الله بمر الظهران، وذلك على أربعة فراسخ من مكة.
أى: أنهم لم يعلموا بجيش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذى جاء لمحاربتهم إلا بعد وصوله إلى هذا المكان.
وبذلك ترى أن تعاليم الإِسلام ترتفع بالبشرية إلى أسمى آفاق الوفاء والشر والأمان.. وتحقر من شأن الخيانة والخائنين، وتتوعدهم بالطرد من رحمة الله، وبالبعد عن رضوانه ومحبته.
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أن الكافرين لن ينجوا من عقابه، وبشر المؤمنين بالنصر فقال: { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوۤاْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ }.
وقوله { يَحْسَبَنَّ } من الحسبان بمعنى الظن، وقد قرأ ابن عامر وحفص وحمزة "يحسبن" بالياء، وقرأ الباقون بالتاء.
وقوله: { يُعْجِزُونَ } من العجز، وأصله - كما يقول الراغب -: التأخر عن الشئ.. ثم صار فى التعارف اسماً للقصور عن فعل الشئ، وهو ضد القدرة.. والعجوز سميت بذلك لعجزها فى كثير من الأمور..
والمعنى - على القراءة بالياء -: ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم أنهم قد سبقوا الله فنجوا من عقابه، وخلصوا من عذابه.. كلا إن حسبانهم هذا باطل - لأنهم لا يعجزون الله، بل هو - سبحانه - قادر على إهلاكهم وتعذيبهم فى كل وقت..
وأن نجاتهم من القتل أو السر فى الدنيا لن تنفعهم شيئاً من العذاب المهين فى الآخرة.
وعلى هذه القراءة يكون فاعل { يَحْسَبَنَّ } قوله { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } ويكون المفعول الأول ليحسبن محذوف أى: ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم، والمفعول الثانى جملة { سَبَقُوۤاْ }.
وأما على القراءة الثانية { وَلاَ تَحْسَبَنَّ } فيكون قوله { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } هو المفعول الأول. وجملة { سَبَقُوۤاْ } هى المفعول الثانى.
أى: ولا تحسبن - أيها الرسول الكريم - أن هؤلاء الكافرين قد سبقونا بخيانتهم لك، أو أفلتوا من عقابنا وصاروا فى مأمن منا.. كلا، إنهم لا يعجزوننا عن إدراكهم وإنزال العقوبة بهم فى أى وقت نريده فنحن لا يعجزنا شئ..
وعلى كلتا القراءتين فالمقصود من الآية الكريمة قطع أطماع الكافرين فى النجاة، وإقناطهم من الخلاص، فكأنه - سبحانه - يقول لهم: إن من لم يصبه عذاب الدنيا، فسوف يصيبه عذاب الآخرة، ولا مفر له من ذلك ما دام قد استحب الكفر على الإِيمان، أما المؤمنون فلهم من الله - تعالى - التأييد والنصر وحسن العاقبة.
ثم أمر - سبحانه - المؤمنين باعداد وسائل القوة التى بها يصلون إلى النصر، وإلى بعث الرعب فى قلوب أعدائهم.. فقال - عز وجل -: { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ... }.