التفاسير

< >
عرض

قُتِلَ ٱلإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ
١٧
مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ
١٨
مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ
١٩
ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ
٢٠
ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ
٢١
ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ
٢٢
كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ
٢٣
فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ
٢٤
أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبّاً
٢٥
ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً
٢٦
فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً
٢٧
وَعِنَباً وَقَضْباً
٢٨
وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً
٢٩
وَحَدَآئِقَ غُلْباً
٣٠
وَفَاكِهَةً وَأَبّاً
٣١
مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ
٣٢
-عبس

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الإِمام الرازى: اعلم أنه - تعالى - لما بدأ بذكر القصة المشتملة على ترفع صناديد قريش على فقراء المسلمين، عجب عباده المؤمنين من ذلك، فكأنه قيل: وأى سبب فى هذا العجب والترفع؟ مع أن أوله نطفة قذرة، وآخره جيفة مذرة، وفيما بين الوقتين حمال عذرة. فلا عجب أن ذكر الله - تعالى - ما يصلح أن يكون علاجا لعجبهم وما يصلح أن يكون علاجا لكفرهم، فإن خلقة الإِنسان يستدل بها على وجود الصانع، وعلى القول بالبعث والحشر والنشر..
والمراد بالإِنسان هنا: الإِنسان الكافر الجاحد لنعم ربه. ومعنى "قتل": لعن وطرد من رحمة الله - تعالى -، ويصح أن يكون المراد به الجنس، ويدخل فيه الكافر دخولا أوليا. أى: لعن وطرد من رحمة الله - تعالى - ذلك الإِنسان الذى ما أشد كفره وجحوده لنعم الله - تعالى -.
والدعاء عليه باللعن من الله - تعالى -، المقصود به: التهديد والتحقير من شأن هذا الإِنسان الجاحد، إذ من المعلوم أن الله - سبحانه - هو الذى يتوجه إليه الناس بالدعاء، وليس هو - سبحانه - الذى يدعو على غيره، إذ الدعاء فى العادة إنما يكون من العاجز، وجل شأن الله - تعالى - عن العجز.
وجملة "ما أكفره" تعليل لاستحقاق هذا الإِنسان الجاحد التحقير والتهديد.
وهذه الآية الكريمة المتأمل فيها يراها - مع بلوغها نهاية الإِيجاز - قد بلغت - أيضا - نهاية الإِعجاز فى أسلوبها، حيث جمعت أشد ألوان الذم والتحقير بأبلغ أسلوب وأوجزه.
ولذ قال صاحب الكشاف: { قُتِلَ ٱلإِنسَانُ } دعاء عليه، وهى من أشنع دعواتهم، لأن القتل قصارى شدائد الدنيا وفظائعها { مَآ أَكْفَرَهُ } تعجيب من إفراطه فى كفران نعمة الله، ولا ترى أسلوبا أغلظ منه, ولا أخشن متنا، ولا أدل على سخط، ولا أبعد فى المذمة، مع تقارب طرفيه، ولا أجمع لِلاَئمةٍ، على قصر متنه..
ثم فصل - سبحانه - جانبا من نعمه، التى تستحق من هذا الإِنسان الشكر لا الكفر فقال: { مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ } أى: من أى شئ خلق الله - تعالى - هذ الإِنسان الكافر الجحود، حتى يتكبر ويتعظم عن طاعته، وعن الإِقرار بتوحيده، وعن الاعتراف بأن هناك بعثا وحسابا وجزاء..؟.
ثم وضح - سبحانه - كيفية خلق الإِنسان فقال: { مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ } أى: خلق الله - تعالى - الإِنسان من نطفة، أى: من ماء قليل يخرج من الرجل إلى رحم المرأة - { فَقَدَّرَهُ } أى: فأوجد الله - تعالى - الإِنسان بعد ذلك إيجادا متقنا محكما، حيث صير بقدرته النطفة علقة فمضغة.. ثم أنشأه خلقا آخر
{ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } { ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ } أى: ثم بعد أن خلقه فى أحسن تقويم، ومنحه العقل الذى يتمكن معه من التفكير السليم. يسر - سبحانه - له طريق النظر القويم، الذى يميز به بين الحق والباطل، والخير والشر، والهدى والضلال.
قال ابن كثير: قوله { ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ } قال العوفى عن ابن عباس: ثم يسر عليه خروجه من بطن أمه. وهكذا قال عكرمة.. واختاره ابن جرير.
وقال مجاهد: هذه الآية كقوله:
{ إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } أى: بيناه له ووضحناه وسهلنا عليه علمه.. وهذا هو الأرجح.
وجاء العطف "بثم" هنا، للإِشعار بالتراخى الرتبى، لأن تيسير معرفة طريق الخير والشر، أعجب وأدل على قدرة الله - تعالى - وبديع صنعه من أى شئ آخر.
ولفظ "السبيل" منصوب على الاشتغال بفعل مقدر، أى: ثم يسر السبيل يسره، فالضمير فى يسره يعود إلى السبيل. أى: سهل - سبحانه - الطريق للإِنسان.
{ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } أى: ثم أمات - سبحانه - هذا الإِنسان، بأن سلبه الحياة { فأقبره }. أى: فجعله ذا قبر يوارى فيه جسده تكريما له، ولم يتركه مطروحا على وجه الأرض، بحيث يستقذره الناس، ويكون عرضة لاعتداء الطيور والحيوانات عليه.
يقال: قبر فلان الميت يقبره - بكسر الباء وضمها -، إذا دفنه بيده فهو قابر. ويقال: أقبره، إذا أمر بدفنه، أو مكن غيره من دفنه.
وفى الآية الكريمة إشارة إلى أن مواراة الأجساد فى القبور من سنن الإِسلام، أما تركها بدون دفن، أو حرقها.. فيتنافى مع تكريم هذه الأجساد.
{ ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } أى: ثم بعد أن خلق الله هذا الخلق البديع، وهداه النجدين، وأمر بستر جسده فى القبر بعد موته.. بعد كل ذلك إذا شاء أحياه بعد الموت، للحساب والجزاء. يقال: أنشر الله - تعالى - الموتى ونشرهم، إذا بعثهم من قبورهم.
وقال - سبحانه - { إِذَا شَآءَ } للإِشعار بأن هذا البعث إنما هو بإرادته ومشيئته، وفى الوقت الذى يختاره ويريده، مهما تعجله المتعجلون.
ثم زجر - سبحانه - هذا الإِنسان زجرا شديدا لتقصيره فى أداء حق خالقه، فقال - تعالى -: { كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ } أى: كلا إن هذا الإِنسان الجاحد المغرور.. لم يقض ولم يؤد ما أمره الله - تعالى - به من تكاليف ومن شكر لخالقه، ومن تأمل فى آياته، ومن طاعة لرسله.. بل استمر فى طغيانه وعناده.
فالمقصود بهذه الآية الكريمة: ردع هذا الإِنسان الجاحد وزجره، وبيان أن هذا الردع سببه إهماله لحقوق خالقه، وعدم اهتمامه بأدائها.
ثم ساقت الآيات بعد ذلك ألوانا من نعمه - تعالى - على خلقه فقال: { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ } والفاء هنا للتفريع على ما تقدم، مع إفادتها معنى الفصيحة.
أى: إذا أراد أن يقضى ويؤدى ما أمره الله - تعالى - من تكاليف، فلينظر هذا الإِنسان إلى طعامه، وكيف أوجده - سبحانه - له ورزقه إياه، ومكنه منه. فإن فى هذا النظر والتدبر والتفكر، ما يعينه على طاعة خالقه، وإخلاص العبادة له.
ثم بين - سبحانه - مظاهر تهيئة هذا الطعام للإِنسان.. فقال: { أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبّا }.
قال الجمل: قرأ الكوفيون { أَنَّا } بالفتح. على البدل من طعامه، فيكون فى محل جر بدل اشتمال، بمعنى أن صب الماء سبب فى إخراج الطعام فهو مشتمل عليه.
وقرأ غيرهم بكسر الهمزة على الاستئناف المبين لكيفية إحداث الطعام..
والصب: إنزال الماء بقوة وكثرة. أى: إنا أنزلنا المطر من السماء إنزالا مصحوبا بالقوة والكثرة، لحاجتكم الشديدة إليه فى حياتكم.
{ ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً } أى: ثم شققنا الأرض بالنبات شقا بديعا حكيما، بحيث تخرج النباتات من باطنها خروجا يبهج النفوس، وتقر به العيون.
{ فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً } أى: فأنبتنا فى الأرض حبا كثيرا، تقتاتون منه، وتدخرونه لحين حاجتكم إليه، والحب: يشمل الحنطة والشعير والذرة.
{ وَعِنَباً وَقَضْباً. وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً. وَحَدَآئِقَ غُلْباً. وَفَاكِهَةً وَأَبّاً } أى: وأنبتنا فى الأرض - أيضا - بقدرتنا ورحمتنا { عنبا } وهو ثمر الكرم المعروف بلذة طعمه.
{ وقضبا } وهو كل ما يؤكل من النبات رطبا، كالقثاء والخيار ونحوهما، وقيل: هو العلف الرطب الذى تأكله الدواب، وسمى قضبا، لأنه يقضب - أى يقطع - بعد ظهوره مرة بعد أخرى.
وأنبتنا فيها كذلك { وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً } وهما شجرتان معروفتان بمنافعهما الجمة، وبثمارهما المفيدة.
{ وَحَدَآئِقَ غُلْباً } والحدائق جمع حديقة وهى البستان الملئ بالزروع والثمار.
و { غلبا } جمع غلباء. أى: وأنبتنا فى الأرض حدائق عظيمة، ذات أشجار ضخمة، قد التف بعضها على بعض لكثرتها وقوتها. فقوله { غلبا } بمعنى عظاما، وأصلها من "الغَلَب" - بفتحتين -، بمعنى الغلظ، يقال شجرة غلباء، وهضبة غلباء. أى: عظيمة مرتفعة. ويقال: حديقة غلباء، إذا كانت عظيمة الشجر. ويقال: رجل أغلب، إذا كان غليظ الرقبة.
وأنبتنا فيها - أيضا - بقدرتنا وفضلنا { وَفَاكِهَةً وَأَبّاً }.. والفاكهة: اسم للثمار التى يتناولها الإِنسان على سبيل التفكه والتلذذ، مثل الرطب والعنب والتفاح.
والأب: اسم للكلأ الذى ترعاه الأنعام، مأخوذ من أبَّ فلان الشئ، إذا قصده واتجه نحوه، لحاجته إليه.. والكلأ والعشب يتجه إليه الإِنسان بدوابه للرعى..
قال صاحب الكشاف: والأب: المرعى، لأنه يؤب، أى: يؤم وينتجع... وعن أبى بكر الصديق - رضى الله عنه - أنه سئل عن الأب فقال: أى سماء تظلنى، وأى أرض تقلنى، إذا قلت فى كتاب الله مالا علم لى به..
وعن عمر - رضى الله عنه - أنه قرأ هذه الآية فقال: كل هذا قد عرفنا، فما الأب؟ ثم رفع عصا كانت فى يده وقال: هذا لعمر الله التكلف، وما عليك يابن أم عمر أن لا تدرى ما الأب؟ ثم قال: اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب، وما لا فدعوه.
فإن قلت: فهذا يشبه النهى عن تتبع معانى القرآن والبحث عن مشكلاته؟ قلت: لم يذهب إلى ذلك، ولكن القوم كانت أكبر همتهم عاكفة عن العمل، وكان التشاغل بشئ من العلم لا يعمل به تكلفا عندهم، فأراد أن الآية مسوقة فى الامتنان على الإِنسان بمطعمه، واستدعاء شكره، وقد علم من فحوى الآية، أن الأبَّ بعض ما أنبته الله للإِنسان متاعا له أو لأنعامه فعليك بما هو أهم، من النهوض بالشكر لله - تعالى - على ما تبين لك أو لم يشكل، مما عدد من نعمه، ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأب، ومعرفة النبات الخاص الذى هو اسم له، واكتف بالمعرفة الجملية، إلى أن يتبين لك فى غير هذا الوقت..
وقال بعض العلماء: والذى يتبين لى فى انتفاء علم الصديق والفاروق بمدلول لفظ الأب، وهما من خلص العرب لأحد سببين:
إما لأن هذا اللفظ كان قد تنوسى من استعمالهم، فأحياه القرآن لرعاية الفاصلة، فإن الكلمة قد تشتهر فى بعض القبائل أو فى بعض الأزمان وتنسى فى بعضها، مثل اسم السكين عند الأوس والخزرج. فقد قال أنس بن مالك: ما كنا نقول إلا المدية، حتى سمعت قول الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر أن سليمان قال: "ائتونى بالسكين أقسم الطفل بينهما نصفين".
وإما لأن كلمة الأب تطلق على أشياء كثيرة، منها النبت الذى ترعاه الأنعام، ومنها التبن. ومنها يابس الفاكهة، فكان إمساك أبى بكر وعمر عن بيان معناه، لعدم الجزم بما أراد الله منه على التعيين، وهل الأب مما يرجع إلى قوله { مَّتَاعاً لَّكُمْ } أو إلى قوله { وَلأَنْعَامِكُمْ }.
ثم ختم - سبحانه - هذه النعم بقوله: { مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ }، أى: أنبت لكم تلك الزروع والثمار.. لتكون موضع انتفاع لكم ولأنعامكم إلى حين من الزمان.
إذ المتاع: هو ما ينتفع به الإِنسان إلى حين ثم ينتهى ويزول، ولفظ "متاعا" منصوب بفعل محذوف، أى: فعل ذلك متاعا لكم، أو متعكم بذلك تمتيعا لكم ولأنعامكم.
أو قوله { مَّتَاعاً لَّكُمْ } حال من الألفاظ السابقة: العنب والقضب والزيتون والنخل.
أى: حالة كون هذه المذكورات موضع انتفاع لكم ولأنعامكم.
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بالحديث عن أحوال الناس فى يوم القيامة. فقال - تعالى -:
{ فَإِذَا جَآءَتِ... }.